الكفاءة القياديّة للإمام في وحدته











الکفاءة القياديّة للإمام في وحدته



آخر وأهمّ نقطة تجدر بعنايتنا في بحث عوامل وحدة الإمام وتقصّي جذور هذه الحالة، هي القدرة القياديّة والکفاءة الإداريّة الفذّة التي حظي بها أمير المؤمنين عليه السلام في هذه البرهة الحالکة، ممّا لم نرَ مَن تنبّه إليها.

تکشف الوثائق التأريخيّة أنّ الإمام عليّاً عليه السلام أبدي في عهد غربته أسمي حالات الکفاءة القياديّة، وأظهر من نفسه أجلّ معاني القدرة الإداريّة وأرفعها؛ فحين نسجّل أنّ عليّاً بقي وحيداً فليس معني ذلک أنّ عناد الجند وعدم انقياده لطاعته اضطرّه إلي أن يکون حِلْس بيته، أو أنّه افتقد في الأشهر الأخيرة من خلافته قدرته القياديّة، وغابت عنه جدارته في إدارة المجتمع، بحيث راح يمضي وقته ببثّ شکواه، ولم يکن له شاغل حتي لحظة استشهاده غير تقريع الناس ولومهم علي عدم دفاعهم عن نهجه الإصلاحي. کلّا، بل هذه هي صفحات التأريخ تجهر عن واقع مغاير بالکامل، وهي تبدي الإمام وقد بذل جهوده القصوي في هذه المدّة، وتظهره وقد بذل جهد طاقته في هذه الأيّام إذا ما قيست ببقيّة أشواط حکمه.

[صفحه 190]

لقد کان علي الإمام أن ينهض في هذه البرهة بالعب ء وحده، وأن يبادر لمل ء الفراغات جميعاً، وأن يمضي حتي آخر لحظة من حياته علي السبيل ذاتها التي اختطّها لحکمه، وأعلنها منذ اليوم الأوّل. ولقد حدث هذا تماماً.

تعالوا معنا نرقب المشهد عن کثب؛ في مجتمع لم تکن النخبة علي استعداد لمسايرته، ولم يکن الخواصّ راضين بمماشاته، وکان العوامّ تبعاًلاُولئک؛ وفي فضاء ينضح بشبهة قتال أهل القبلة، ومحاربة شخصيّات لها في هذا الدين سابقة، وهي إلي ذلک تتسربل وشاح القدسيّة وتتظاهر به؛ وفي ظلّ أوضاع قاتمة انقلب فيها المقاتلون إلي حالة مطبقة من التآکل والضجر بعد ثلاثة حروب دمويّة أمضوها في سنتين من دون غنائم ومکاسب مادّيّة تذکر. وفي مشهد غاب عنه کبار أصحاب الإمام وخلّص حواريه، وفي الوقت الذي راح جيش معاوية يواصل غاراته علي الناس من دون انقطاع، في أجواء مکفهرّةٍ کهذه، کم هي الکفاءة التي يحتاج إليها القائد لکي يحثّ الجمهور علي العودة إلي القتال، ويعبّئه لحرب معاوية مجدّداً من دون أن يتوسّل بمنطق القوّة؟

لقد کان الإمام أميرالمؤمنين عليه السلام يحظي بهذه الکفاءة کلّها، وخير ما يشهد لهذه الکفاءة ويفصح عن هذا الادّعاء بجلاء هو الخطبة الحماسيّة التي کان قد ألقاها الإمام قبل بعث الجند إلي صفّين مجدّداً، فعن نوف البکالي، قال: «خطبنا أميرالمؤمنين عليه السلام بالکوفة وهو قائم علي حجارة نصبها له جعدة بن هبيرة المخزومي، وعليه مدرعة من صوف، وحمائل سيفه ليف، وفي رجليه نعلان من ليف، وکأن جبينه ثَفَنةُ بعير».

وفي نهاية الخطبة نادي الإمام بأعلي صوته: «الجهاد الجهاد عبادَ اللَّه! ألا وإنّي مُعسکِرٌ في يومي هذا، فمن أراد الرواح إلي اللَّه فليخرج!

[صفحه 191]

قال نوف: وعقد للحسين عليه السلام في عشرة آلاف، ولقيس بن سعد في عشرة آلاف، ولأبي أيوب الأنصاري في عشرة آلاف، ولغيرهم علي أعداد اُخر، وهو يريد الرجعة إلي صفّين، فما دارت الجمعة حتي ضربه الملعون ابن ملجم- لعنه اللَّه- فتراجعت العساکر، فکنّا کأغنام فقدت راعيها، تختطفها الذئاب من کلّ مکان![1] .

هکذا يظهر أنّ ما کان يندّ عن الإمام من صيحات متوجّعة، وما کان يبثّ به أصحابه من شکاوي مکرّرة، لم يکن عن ضعف قيادي، کما لم يکن إظهاراً لعجز عن إدارة المجتمع في مثل ذلک الفضاء الذي کان يعمّه، وتلک الخصائص التي کانت تفشو فيه. إنّما رام الإمام أن يستفيد من هذه اللغة في حثّ الناس وتعبئتها للحرکة والجهاد بدلاً من استخدام منطق القوّة والسيف.

إنّ تعبئة الإمام لتلک القوّات الکثيفة في ظلّ الأوضاع التي مرّت الإشارة إليها ولمّا يبقَ علي استشهاده إلّا أقلّ من اسبوع، ينبئ من جهة عن الکفاءة الاستثنائيّة الممتازة التي يحظي بها في تعبئة جماهير الناس، ويکشف من جهة اُخري عن نجاح النهج العلوي في إدارة الاجتماع السياسي.

[صفحه 193]



صفحه 190، 191، 193.





  1. نهج البلاغة: الخطبة 182.