فقد الأخلّة وخلّص الأعوان











فقد الأخلّة وخلّص الأعوان



تتمثّل إحدي العوامل الاُخر التي ساهمت في غربة الإمام وبقائه وحيداً أواخر عهده في الحکم بغياب أبرز الخلّان، وفقدان الشخصيّات الکبيرة التي کان لکلّ منها أثره المباشر في توجيه جيشه. لقد کان هؤلاء لساناً ناطقاً، تُلهب کلماتهم النفوس، وتثبّت القلوب في الأزمات، وتثير خطبهم الحماس في سوح القتال، ولهم تأثير بليغ علي الناس.

هذه هي سوح القتال ومضامير الحياة وقد خلت من عمّار بن ياسر، ومالک الأشتر، وهاشم بن عتبة، کما لم يعُد فيها أثر يذکر لمحمّد بن أبي بکر، وعبد اللَّه بن بديل، وزيد بن صوحان، حتي يُلهبوا بکلماتهم المضيئة حماسَ الناس، ويُثيروا فيهم العزائم.

وها هو الإمام يومئ إلي تلک الأطواد الشامخة بالبصيرة، المتوهِّجة بالنور، وسط ساحةٍ عنود يمتنع فيها الأصحاب، وينأون عن نصرته بهذه الذريعة وتلک، ويتحدّث عن رهبان الليل، وليوث الوغي إذا حمي الوطيس، والسابقين في مضمار الإيمان والعمل، فيقول: «أين القوم الذين دُعوا إلي الإسلام فقبلوه، وقرؤوا القرآن فأحکموه، وهِيجُوا إلي الجهاد فولِهُوا ولَهَ اللِّقاح إلي أولادها،

[صفحه 188]

وسلبُوا السيوف أغمادَها، وأخذوا بأطراف الأرض زحفاً زحفاً، وصفّاً صفّاً. بعض هلک، وبعض نجا.لا يُبشَّرون بالأحياء، ولا يُعزَّون عن الموتي. مُرْهُ[1] العيون من البکاء، خُمص البطون من الصيام، ذُبل الشفاه من الدعاء، صُفر الألوان من السهر، علي وجوههم غَبرة الخاشعين، أولئک إخواني الذاهبون، فحقَّ لنا أن نظمأ إليهم، ونعضَّ الأيدي علي فراقهم».[2] .

وقد عاد الإمام إلي ذکر اُولئک الأخلّاء في آخر خطبة ألقاها، قبل عدّة أيّام من اغتياله، فقال: «أين إخواني الذين رکبوا الطريق، ومضوا علي الحقّ! أين عمّار! وأين ابن التَّيِّهان! وأين ذو الشهادتين! وأين نظراؤهم من إخوانهم الذين تعاقدوا علي المنيّة، واُبرِدَ برؤوسهم إلي الفجرة!».[3] .

علي خطٍ آخر کان الخوارج جزءاً من جند الإمام ومقاتلي جيشه، ثمّ ما لبثوا أن تحوّلوا بعد صفّين إلي موقعٍ مناهض للإمام، فکان مآلهم أن قتلوا في النهروان، أو صاروا أحلاس بيوتهم. وبذلک غابت عن صفوف العسکر أيضاً هذه القوّة القتاليّة الوثّابة، فصار الإمام عليّ عليه السلام وحيداً فريداً غريباً.

[صفحه 189]



صفحه 188، 189.





  1. هو جمع الأمْره، وقد مرِهت عينُه تمْرَه مَرهاً، والمَرَهُ: مرض في العين لترک الکحل (النهاية: 321:4 و322).
  2. نهج البلاغة: الخطبة 121.
  3. نهج البلاغة: الخطبة 182.