تحقّق نبوءة الإمام











تحقّق نبوءة الإمام



هکذا مضي عليّ عليه السلام مظلوماً من بين الناس؛ وبتعبيره: «إن کانت الرعايا قبلي لتشکو حيف رعاتها، وإنّني اليوم لأشکو حيف رعيّتي».[1] .

لقد أوضح للاُمّة أنّ هضم الرعيّة لحقوق الوالي العادل لا يقلّ في تبعاته الخطرة علي المجتمع عن عمل الوالي الظالم، وهو يقول: «وإذا غلبت الرعيّة واليها، أو أجحف الوالي برعيّته، اختلفت هنالک الکلمة، وظهرت معالم الجور، وکثر الإدغال في الدين، وترکت محاجّ السنن، فعُمِل بالهوي، وعُطِّلت الأحکام، وکثُرت علل النفوس، فلا يُستوحشُ لعظيم حقٍّ عُطِّل، ولا لعظيم باطلٍ فُعل، فهنالک تَذلُّ الأبرار، وتَعزُّ الأشرار، وتعظمُ تبعات اللَّه سبحانه عند العباد».[2] .

[صفحه 178]

لم تلبث الأمّة بعد استشهاد الإمام إلّا أربعة وثلاثين عاماً حتّي تحقّقت نبوءته فيها. ففي عهد خلافة عبد الملک بن مروان خرجت علي الحکومة المرکزيّة من جهة الأهواز جماعة من الخوارج يطلق عليها الأزارقة، ولم تکن ثَمَّ منطقة يمکن أن يُبعث منها جند لمواجهة هؤلاء غير الکوفة، لکنّ أهل الکوفة لم يذعنوا لذلک، ولم يستجيبوا لرغبة الحکم، ولم يعبؤوا به.

بادر عبد الملک إلي عقد مجلس ضمَّ الخواصّ والمقرّبين لمعالجة المشکلة وتدبّر الحلّ، فاستنهضهم ضمن خطابٍ حماسي، قائلاً: «فمن ينتدب لهم منکم بسيفٍ قاطع، وسنان لامع!»، فخيّم الصمت علي الجميع، ولم يَنبِس أحدهم، إلّا الحجّاج بن يوسف- الذي کان قد انتهي لتَوّه من مهمّة في مکّة قضي فيها علي حرکة عبد اللَّه بن الزبير- فنهض من مکانه وأبدي استعداده للمهمّة. بيدَ أنّ عبد الملک لم يرضَ، وطلب منه الجلوس.

وفي إطار حديثه عن کيفيّة إرسال الجند إلي الأهواز توجّه عبد الملک مجدّداً إلي القوم طالباً من الحضور أن يذکروا له أکفأ الرجال أميراً علي العراق، ومن يکون قائداً للجيش الذي سيقود المعرکة مع الأزارقة، وهو يقول: ويلکم! مَن للعراق؟ فصمتوا، وقام الحجّاج ثانية، وقال: أنا لها.

الطريف في الأمر أنّ عبد الملک التفت هذه المرّة إلي الحجّاج مستوضحاً عن الوسيلة التي يلجأ إليها في دفع الناس لطاعته، حيث سأله نصّاً: إنّ لکلّ أمير آلة وقلائد، فما آلتک وقلائدک؟

أوضح الحجّاج لعبد الملک أنّه سيلجأ إلي القوّة واستعمال السيف لإجبار الناس علي الطاعة، وأنّه لن يوفِّر جهداً في استغلال سياسة التهديد والترغيب

[صفحه 179]

وتوظيفها بأقصي مداها حتي يقضي علي جميع المناوئين، معبِّراً عن هذا النهج بقوله: «فمن نازعني قصمته، ومن دنا منّي أکرمته، ومن نأي عنّي طلبته، ومن ثبت لي طاعنته، ومن ولّي عنّي لحقته، ومن أدرکته قتلته... إنّ آلتي: ازرع بدرهمک مَن يواليک، واحصد بسيفک مَن يعاديک».

وافق عبد الملک علي هذا النهج، وکتب للحجّاج عهده علي العراقين أعني الکوفة والبصرة سنة (74) للهجرة.

أمّا الحجّاج فکان أوّل ما نطق به في أوّل لقاء جمعه مع أهل الکوفة، قوله لهم: «إنّي لأري رؤوساً قد أينعت وحان قطافها، وإنّي لصاحبها، وکأنّي أنظر إلي الدماء، وإنّها لترقرق بين العمائم واللحي... واعلموا أنّي لا أعِد إلّا وفيت، ولا أقول إلّا أمضيت، ولا أدنو إلّا فهمت، ولا أبعد إلّا سمعت، فإيّاکم وهذه الهنات والجماعات والبطالات، وقال وقيل وماذا يقول، وأمر فلان إلي ماذا يؤول. وما أنتم يا أهل العراق ويا أهل الشقاق والنفاق ومساوئ الأخلاق! وإنّما أنتم أهل قرية «کَانَتْء َامِنَةً مُّطْمَل-نَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن کُلِّ مَکَانٍ فَکَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَ قَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَ الْخَوْفِ بِمَا کَانُواْ يَصْنَعُونَ»...؛[3] ألا إنّ سيفي سيروي من دمائکم، ويفري من جلودکم، فمن شاء فليحقن دمه».[4] .

[صفحه 180]

لقد أدرک الناس من خلال القسوة التي أبداها الحجّاج منذ اليوم الأوّل لعهده أنّه جادّ في تنفيذ سياسته، حازم في العمل بما يقول. وحيث کان ذاک فقد أمر في اليوم الثاني مناديه أن يطوف في سکک الکوفة وطرقها، وهو يقرأ علي الناس: «ألا إنّنا قد أجّلنا من کان من أصحاب المهلّب ثلاثاً، فمن أصبناه بعد ذلک فعقوبته ضرب عنقه».

لکي يضمن الحجّاج تنفيذ أمره دعا حاجبه زياد بن عروة وصاحب شرطته؛ وأمرهما أن يطوفا في سکک المدينة وطرقها مع عدد من الجند؛ يشرفان علي خروج الناس إلي القتال، ومن أبي أو تأخّر عن النفير ضربت عنقه.

هکذا التحق بالمهلّب بن أبي صفرة قائد الجيش الذي خرج لحرب الأزارقة جميع من کان معه بادئ الأمر، وعادوا إليه بعد أن کانوا ترکوه وحيداً، دون أن يتخلّف أحد.[5] .

لقد استطاع عبد الملک بن مروان إسکات جميع المعارضين والقضاء علي الخارجين عليه من خلال الاتکاء إلي سياسة البطش والإرهاب هذه، وإجرائها في جميع أمصار العالم الإسلامي، حتي بلغ من أمره أنّه خرج إلي مکّة حاجّاً سنة (75) وهو مطئمنّ البال. قال اليعقوبي بهذا الشأن: «ولما استقامت الاُمور لعبد الملک، وصلحت البلدان، ولم تبق ناحية تحتاج إلي صلاحها والاهتمام بها،

[صفحه 181]

خرج حاجّاً سنة 75».[6] .

أجل، هذه هي الإصلاحات التي يکون ثمنها فساد المُصلح. والإمام أميرالمؤمنين عليه السلام لم يکن علي استعداد أن يصلح المجتمع بهذه الطريقة، فعليّ لا يستطيع أن يميل إلي نهج يحلّ مشکلة الحکم من خلال التضحية بالقيم الإنسانيّة. ولو حصل ذلک لن تکون عندئذٍ ثمّ حاجة إلي بعث الأنبياء وإلي القادة الإلهيّين، ومن ثمّ ليس هناک حاجة إلي قيادة عليّ عليه السلام بالأساس، بل لن يکون للحکم العلوي من معني، إنّما يغدو شعاراً بلا مفهوم؛ لأنّ في وسع الجميع ممارسة الحکم بهذه الطريقة، کما تَمَّ ذلک فعلاً، حيث مارسوا الحکم قروناً باسم الإسلام.

وأمّا الحکم العلوي فإنّ الأصالة فيه للقيم، وعلي هذا لم يکن الإمام علي عليه السلام علي استعداد للتضحية بالقيم الإنسانيّة والإسلاميّة مهما کان الثمن. وإنّ الحکم الذي يجعل القيم فداءً لمصالح الحکم والحاکمين هو حکم اُموي، وليس علويّاً ولا إسلاميّاً وإن تواري خلف اسم علي والإسلام!

بديهيّ لم يعد لسياسة القوّة ولغة السيف وقعٌ ولا تأثير يذکر في العالم المعاصر. فقد راحت الأدوات العسکريّة تفقد فاعليتها بالتدريج، واکتشف الحکّام والساسة وسائل جديدة لممارسة السلطة علي أساس النهج الاُموي؛ فالوسائل صارت أکثر تعقيداً ممّا کانت عليه في الماضي، وأفدح خطراً في هتک القيم الإنسانيّة ووأدها، ومن بين ذلک برز برنامج «الإصلاح الاقتصادي» الذي يضحّي بالعدالة الاجتماعيّة، ويأتي تطبيقه علي أساس تدمير الطبقات الضعيفة في الهرم الاجتماعي والقضاء عليها.

[صفحه 183]



صفحه 178، 179، 180، 181، 183.





  1. نهج البلاغة: الحکمة 261. راجع: القسم العاشر:الخصائص السياسيّة والاجتماعيّة:المظلوميّة بعد النبيّ.
  2. نهج البلاغة: الخطبة 216.
  3. النحل: 112.
  4. الفتوح: 8:7 تا 10. کما قال المسعودي: «مات الحجّاج في سنة خمسٍ وتسعين، وهو ابن أربع وخمسين سنة بواسط العراق، وکان تأمّره علي الناس عشرين سنة، وأحصي من قتله صبراً سوي من قتل في عساکره وحروبه فوجد مائة وعشرين ألفاً، ومات وفي حبسه خمسون ألف رجل، وثلاثون ألف امرأة، منهنّ ستّة عشر ألفاً مجرّدة. وکان يحبس النساء والرجال في موضع واحد، ولم يکن للحبس ستر يستر الناس من الشمس في الصيف ولا من المطر والبرد في الشتاء، وکان له غير ذلک من العذاب ما أتينا علي وصفه في الکتاب الأوسط. وذکر أنّه رکب يوماً يريد الجمعة، فسمع ضجّة، فقال: ما هذا؟ فقيل له: المحبوسون يضجّون ويشکون ما هم فيه من البلاء، فالتفت إلي ناحيتهم وقال: «اخْسَُواْ فِيهَا وَ لَا تُکَلِّمُونِ » فيقال: إنّه مات في تلک الجمعة، ولم يرکب بعد تلک الرکبة» (مروج الذهب: 175:3).
  5. الفتوح: 13:7.
  6. تاريخ اليعقوبي: 273:2.