تجنب القوّة في إجراء الأحكام











تجنب القوّة في إجراء الأحکام



المدرسة الاُمويّة تري أنّ الهدف يوجّه الوسيلة، بحيث يستطيع السياسي أن يستفيد من الأدوات اللامشروعة في سياساته وبرامجه وأوامره. ومن ثمّ فإنّ القائد ليس له أن يضلّل الجمهور بلغة التطميع فحسب، بل له أيضاً أن يفرض نفسه عليه عبرَ استخدام لغة التهديد والتوسّل بالقوّة.

ولقد استطاع معاوية من خلال توظيف هذه السياسة أن يحافظ علي التفاف الناس حوله. وربما کان يستطيع أن يحافظ علي المصالح الوطنيّة للشام من خلال هذا النهج.

بيد أن الأمر يختلف في المدرسة العلويّة التي لا تُجيز توظيف الأدوات غير المشروعة في تنفيذ السياسات المطلوبة؛ وعندئذلا يستطيع القائد أن يتوسّل بلغة التطميع لتنفيذ الحکم، کمالا يستطيع أن يستخدم لغة التهديد مع الناس.

وعلي هذا الأساس لم يکن الإمام عليه السلام علي استعداد أن يجبر الناس علي طاعته بالقوّة؛ فعندما أجبره الجُند في حرب صفّين علي إيقاف القتال والإذعان إلي التحکيم، قال: «ألا إنّي کنت أميرالمؤمنين، فأصبحت اليوم مأموراً، وکنت

[صفحه 176]

ناهياً، فأصبحت منهيّاً، وقد أحببتم البقاء وليس لي أن أحملکم علي ما تکرهون»[1] .

علي هذا الضوءلا يستطيع الحکم العلوي تحقيق مراميه الإصلاحيّة إلّا علي أساس الاختيار الشعبي الحرّ لبرامج الإمام بهذا الشأن، وإلّا فالإمام لا يري نفسه مخوّلاً باستخدام منطق القوّة والتوسّل بالسيف لإجبار الناس علي طاعته، فالجمهور سوف ينتخب الطريق الذي يريده هو.

وبعبارة اُخري: إنّ إحدي أجوبة الإمام علي هذا التساؤل: لماذا ترک الناسُ الإمامَ وحيداً؟ هو: إنّني لستُ علي استعداد أن اُجبر هؤلاء علي الطاعة بمنطق السيف؛ فهذا الاُسلوب وإن کان يحلّ مشکلة الحکم مؤقّتاً، إلّا أنّ هذا الحکم لن يغدو بعدئذ حکماً علويّاً!

لقد تکرّر هذا المعني في کلام الإمام، ففي خطاب لأهل الکوفة، قال بعد أن بثّ شکواه منهم: «يا أهل الکوفة! أتروني لا أعلم ما يصلحکم؟! بلي، ولکنّي أکره أن اُصلحکم بفساد نفسي»،

وکما قال مرّة اُخري: «ولقد علمت أنّ الذي يصلحکم هو السيف، وما کنت متحرّياً صلاحکم بفساد نفسي، ولکن سيُسلَّط عليکم بعدي سلطان صعب».

يوجّه الإمام في هذا الکلام خطابه إلي اُولئک الذين أساؤوا استخدام أجواء الحرّيّة في ظلال حکمه، وصاروا يتمرّدون علي طاعته؛ بأنّني أستطيع کبقيّة السياسيّين المحترفين أن أضطرّکم إلي إطاعتي، وبمقدوري أن أقوِّم أودَکم ببساطة من خلال القوّة وعبر منطق السيف؛ بيدَ أنّني أربأ بنفسي أن اُقدم علي

[صفحه 177]

ذلک؛ لأنّ إصلاح أمرکم بالسيف ومنطق القوّةلا يکون إلّا بالتضحية بقيمي الأخلاقيّة، وهذا الثمن يتنافي مع فلسفة حکمي. لکن اعلموا بأنّ المستقبل يُخبئ لکم في أحشائه آتياً عظيماً! فبسلوککم هذا إنّما توطّئون لأنفسکم نازلة قومٍ لا يحکمونکم إلّا بالسيف، ولا يتحدّثون إليکم إلّا بمنطق القوّة، ولا يعرفون بکم الشفقة!

لقد خاطب الإمام أولئک بقوله عليه السلام: «لا يصلح لکم يا أهل العراق إلّا من أخزاکم وأخزاه اللَّه!».[2] .



صفحه 176، 177.





  1. راجع: القسم السادس:وقعة صفّين:توقّف الحرب:أصحاب الجباه السود يحاصرون الإمام.
  2. ربيع الأبرار: 250:4.