العدالة في التوزيع











العدالة في التوزيع



تکمن إحدي أهمّ أسباب ابتعاد الخواصّ عن الإمام والتفاف العوام حوله بسياسة العدالة الاقتصاديّة.

لطالما حضّ المقرّبون إلي الإمام أن يغضّ الطرف عن هذا النهج، ليستحوذ علي ولاء رؤساء القبائل، ويستقطب إليه نفوذ الشخصيّات البارزة من خلال منحهم مزايا ماديّة خاصّة. بيدَ أنّ الإمام کان يري أنّ هذا العرض يتنافي مع اُصول الحکم العلوي، ويتعارض مع مرتکزاته، ومن ثمّ فإنّ العمل به معناه أن ينفض الإمام أميرالمؤمنين عليه السلام يديه عن أهداف الحکم الإسلامي، ويتخلّي عن غاياته. لذلک لم يُبدِ استعداداً لقبوله.

فيما يلي أمثلة لهذه العروض مقرونة بجواب الإمام عليها:

1- جاء في کتاب الغارات: شکا عليّ عليه السلام إلي الأشتر فرار الناس إلي معاوية، فقال الأشتر: يا أميرالمؤمنين، إنّا قاتلنا أهل البصرة بأهل البصرة وأهل الکوفة، والرأي واحد، وقد اختلفوا بعد، وتعادوا، وضعفت النيّة، وقلّ العدل، وأنت تأخذهم بالعدل، وتعمل فيهم بالحقّ، وتنصف الوضيع من الشريف، وليس

[صفحه 172]

للشريف عندک فضل منزلةٍ علي الوضيع، فضجّت طائفة ممّن معک علي الحقّ إذ عمّوا به، واغتمّوا من العدل إذ صاروا فيه، وصارت صنائع معاوية عند أهل الغني والشرف، فتاقت أنفس الناس إلي الدنيا، وقلّ من الناس من ليس للدنيا بصاحب، وأکثرهم من يجتوي الحقّ، ويستمري الباطل، ويؤثر الدنيا. فإن تبذل المال يا أمير المؤمنين تمِل إليک أعناق الناس، وتصف نصيحتهم، وتستخلص ودّهم. صنع اللَّه لک يا أميرالمؤمنين، وکبتَ عدوّک، وفضّ جمعهم، وأوهن کيدهم، وشتّت اُمورهم، إنّه بما يعملون خبير.

فأجابه علي عليه السلام، فحمد اللَّه وأثني عليه، وقال: أمّا ما ذکرت من عملنا وسيرتنا بالعدل، فإنّ اللَّه يقول: «مَّنْ عَمِلَ صَلِحًا فَلِنَفْسِهِ ي وَ مَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا وَ مَا رَبُّکَ بِظَلَّمٍ لِّلْعَبِيدِ»[1] وأنا من أن أکون مقصّراً فيما ذکرت أخوف.

وأمّا ما ذکرت من أنّ الحقّ ثقل عليهم ففارقونا لذلک، فقد علم اللَّه أنّهم لم يفارقونا من جور، ولم يُدعوا إذ فارقونا إلي عدل، ولم يلتمسوا إلّا دنياً زائلة عنهم کأن قد فارقوها، وليُسألنّ يوم القيامة: أللدنيا أرادوا أم للَّه عملوا؟

وأمّا ما ذکرت من بذل الأموال واصطناع الرجال، فإنّالا يسعنا أن نؤتي أمرأً من الفي ء أکثر من حقّه، وقد قال اللَّه وقوله الحقّ: «کَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً کَثِيرَةَم بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّبِرِينَ».[2] .

وبعث محمّداً صلي الله عليه و آله وحده فکثّره بعد القلّة، وأعزّ فئته بعد الذلّة، وإن يرد اللَّه أن يولّينا هذا الأمر يذلّل لنا صعبه، ويسهّل لنا حزنه.[3] وأنا قابل من رأيک ما کان للَّه

[صفحه 173]

رضيً، وأنت من آمن أصحابي، وأوثقهم في نفسي، وأنصحهم وأرآهم عندي.[4] .

2- وفي الکتاب نفسه روي عن ربيعة وعمارة ما نصّه: إنّ طائفة من أصحاب علي عليه السلام مشوا إليه فقالوا: يا أميرالمؤمنين، أعط هذه الأموال، وفضّل هؤلاء الأشراف من العرب وقريش علي الموالي والعجم، ومن تخاف خلافه من الناس وفراره. قال: وإنّما قالوا له ذلک للذي کان معاوية يصنع من أتاه.

فقال لهم علي عليه السلام: أتأمروني أن أطلب النصر بالجور؟! واللَّه لا أفعل ما طلعت شمس، ومالاح في السماء نجم. واللَّه، لو کان ما لهم لي لواسيت بينهم، فکيف وإنّما هي أموالهم؟!.[5] .

3- بعث سهل بن حنيف- والي الإمام علي المدينة- رسالة إليه، يخبره فيها أنّ جمعاً من أهل المدينة التحق بمعاوية. فکتب الإمام في جوابه:

«أمّا بعد، فقد بلغني أنّ رجالاً ممّن قبلک يتسلّلون إلي معاوية، فلا تأسف علي ما يفوتک من عددهم، ويذهب عنک من مددهم، فکفي لهم غيّاً ولک منهم شافياً فرارهم من الهدي والحقّ، وإيضاعهم إلي العمي والجهل، وإنّما هُم أهل دنيا مقبلون عليها، ومهطعون إليها، وقد عرفوا العدل ورأوه، وسمعوه ووعوه، وعلموا أنّ الناس عندنا في الحقّ اُسوة، فهربوا إلي الأثَرة، فبعداً لهم وسحقاً!!

إنّهم- واللَّه- لم ينفروا من جور، ولم يلحقوا بعدل، وإنّا لنطمع في هذا الأمر أن يذلّل اللَّه لنا صعبه، ويسهّل لنا حزنه، إن شاء اللَّه. والسلام».[6] .

[صفحه 175]



صفحه 172، 173، 175.





  1. فصّلت: 46.
  2. البقرة: 249.
  3. الحَزْن: المکان الغليظ الخشن، والحُزونة: الخشونة (النهاية: 380:1).
  4. الغارات: 71:1؛ شرح نهج البلاغة: 197:2 عن فضيل بن الجعد.
  5. الغارات: 74:1 تا 75؛ الأمالي للطوسي: 331:194.
  6. نهج البلاغة: الکتاب 70؛ أنساب الأشراف: 386:2 وراجع تاريخ اليعقوبي: 203:2.