خيانة الخواصّ وتبعيّة العوام











خيانة الخواصّ وتبعيّة العوام



لقد کان لرؤساء القبائل في العهد العلوي الدور الأبرز في اتّخاذ القرار، والتأثير علي أغلبيّة الجمهور. ولم تؤتِ جهود الإمام ثمارها المرجوّة علي صعيد الارتقاء بهؤلاء فکريّاً، من خلال تصحيح نظرتهم إلي الحقّ، بحيث يعرفون الحقّ بمعيار الحقّ،لا بمعيار الرجال الذين يَکنّون لهم الاحترام.[1] .

لقد صارت هذه الأجواء- التي تقف حائلاً صلباً دون تحقّق الإصلاحات الأساسيّة- تلقي في نفس الإمام الألم والمضاضة.

وممّا جاء عن الإمام في تحليل هذا الفضاء الاجتماعي الذي يبعث علي الملالة، قوله عليه السلام: «الناس ثلاثة: فعالم ربّاني، ومتعلّم علي سبيل نجاة، وهمج رعاع؛ أتباع کلّ ناعق، يميلون مع کلّ ريح، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجؤوا إلي رکن وثيق».[2] .

[صفحه 164]

يقسّم هذا النص العلوي الناسَ في انتخاب طريق الحياة إلي ثلاثة أقسام، هي:

القسم الأوّل: العلماء الذين عرفوا طريق الحياة الصحيح، حيث يطلق الإمام علي هؤلاء وصف «العالم الربّاني».

القسم الثاني: هم ذلک الفريق من الناس الذي يسعي لمعرفة الطريق الصحيح، ويتحرّک باتّجاه معرفة الحقّ، وهؤلاء في الوصف العلوي «متعلّمون علي سبيل نجاة».

أمّا القسم الثالث فلا هو بالذي يعرف الطريق الصحيح للحياة، ولا هو يبذل سعيه في سبيل معرفته، بل يتمثّل معياره في اتّخاذ القرار واختيار النهج الذي يسلکه بالتقليد الأعمي للخواصّ، واتّباع الشخصيّات دون بصيرة، وهؤلاء هم «الهمج الرعاع».

إنّ معني «الهمج» هو الذباب الصغير الذي يحطّ علي وجه الغنم أو الحمير، و «الرعاع» بمعني الأحمق والتافه الذي لا قيمة له. فشبّه التحليل العلوي أولئک الذين لا يعرفون طريق الحياة الصحيح، ولا يسمحون لأنفسهم بالتفکير به، بل غاية حظّهم اتّباع الآخرين اتّباعاً أعمي، شبّههم بالذباب؛ إذ هم يحيطون بجاهلٍ أکبر منهم يستمدّون منه، وهو يغذوهم!

إنّ أمثال هؤلاءلا يتمتّعون بقاعدة فکريّة وعقيديّة متينة، وهم يتّبعون الغيرمن دون تفحّص لکونه حقّاً أو باطلاً، بل يتّبعونه لمحض کونه رئيس قبيلة، أو قائد حزب، أو شخصيّة تحظي بالاحترام بالنسبة إليهم، فهم کالذباب تماماً؛ کلّما تحرّکت الريح من جانب تحرّک معها.

[صفحه 165]

والذي يبعث علي ألم الإمام وتوجّعه أنّ أغلب من يعاصره من الناس کان من القسم الثالث. فقد کان عليٌّ يعيش وسط جمهور ليس من أهل المعرفة والتشخيص، ولا هو ممن يتحرّي المعرفة ويتحرّک في مسار البحث والتحقيق. بيد أن الأمضّ علي الإمام في ذلک کلّه أنّه عليه السلام قلّما کان يعثر علي من يباثّه همومه، ويتحدّث إليه بمثل هذه المصائب الاجتماعيّة.

أجل، لم يکن مع عليّ من يستطيع أن يُفصح له بحقيقة من يعيش معهم، وعلامَ يمارس حکمه. وعندما أراد مرّة أن يُفصح بخبيئة نفسه لکميل بن زياد- وهو من خواصّه وممّن يطيق سماع تحليله المتوجّع للوضع القائم- تراه أخذ بيده، وصار به إلي الصحراء، وبالحزن الممزوج بالألم أشار إليه أنّه لا يستطيع أن يتحدّث بهذا الکلام لکلّ أحد؛ لعدم قدرة الجميع علي تحمّله، وأنّه کلما حظي الإنسان بقاعدة فکريّة أکبر واُفق معنوي أوسع، کان ذا قيمة أکثر، ثمّ بعد ذلک حدّثه بسرّ انفضاض الناس عن نهجه، وانکفائهم عنه، وتنکّبهم عن برنامجه الإصلاحي، حيث ذکر له أنّ المشکلة الأساسيّة في ذلک تعود إلي جهل الناس، واتّباعهم الأعمي للخواصّ ممن هو خائن أو جاهل.



صفحه 164، 165.





  1. راجع: القسم الخامس:السياسة الثقافيّة:الالتزام بالحقّ في معرفة الرجال.
  2. نهج البلاغة: الحکمة 147.