بحث في جذور التخاذل











بحث في جذور التخاذل



عرفنا في القسم الخامس أنّ الإمام أميرالمؤمنين عليه السلام حظي بتأييد شعبي واسع، ووصل إلي الخلافة عبر انتخابات حرّة، حتي بلغ من إقبال الناس علي بيعته وفرحهم بها أنّه قال في وصفها: «أقْبَلتم إليّ إقبال العوذ المطافيل علي أولادها».[1] .

کما قرأنا في هذا الفصل أنّ الجماهير راحت تبتعد عن الإمام تدريجيّاً ولمّا تمضِ مدّة قصيرة علي حکمه، حيث فقد حماية وتأييد أغلبهم؛ ففي الأيّام الاُولي- من عهد الإمام السياسيّ- نقض بعض الناس البيعة فخرجوا مع ثلّة من السبّاقين إلي بيعة الإمام ليثيروا حرب الجمل. علي خطٍّ آخر بادر جمع من الشخصيّات المعروفة ذات التأثير الشعبي البارز للالتحاق بمعاوية، کما انفصل آخرون عن صفّ الإمام وقرّروا اتّخاذ موقف الحياد.

هکذا راح يتضاءل التأييد الشعبي لحکم الإمام يوماً بعد آخر، بحيث لم يفقد

[صفحه 156]

الحکم العلوي ذلک التأييد الجماهيري العارم الذي برز في الأيّام الاُولي للبيعة فحسب، بل انقلب التأييد إلي معارضة! حتي آلَ الأمر في نهاية المطاف إلي أن يعيش الإمام الأشهر الأخيرة من حياته وحيداً وهو يشکو مرارة غربته، وعصيان أصحابه وعدم طاعتهم.

إشکاليّة الموضوع

تکمن إشکاليّة الموضوع في الأسئلة الأساسيّة التالية:

ما هي الأسباب وراء ابتعاد أکثريّة الناس عن الإمام علي عليه السلام؟

لماذا لم يستطع الإمام أن يحافظ علي تأييد أغلبيّة الجمهور لحکمه؟

لماذا حلّت الفرقة بين الجماهير خلال حکم الإمام، ولم يستطع إيجاد وحدة الکلمة بين صفوف الجماهير التي بايعته؟

لماذا صار الإمام أواخر حياته يبثّ شکواه علي الدوام من عدم حماية الناس لحرکته الإصلاحيّة، وهو يقول: «هيهات أن أطلع بکم سرار العدل»، ويقول: «اُريد اُداوي بکم وأنتم دائي»،

ويقول: «مُنيت بمن لا يطيع»،

ويقول: «لا غناء في کثرة عددکم مع قلّة اجتماع قلوبکم!»،

ويقول: «لو کان لي بعدد أهل بدر»،

ويقول: «وددت أنّي أبيع عشرة منکم برجل من أهل الشام!».

وبکلمة مختصرة: ما هو سبب إدبار عامّة الناس عن الحکم العلوي بعد ذلک الإقبال منقطع النظير الذي حظي به الإمام يوم البيعة؟

[صفحه 157]

أليس في انفضاض الناس عن الإمام وبقائه وحيداً ما يدلّ علي عدم إمکانيّة ممارسة الحکم عمليّاً وفق اُصول المنهج السياسي العلوي، وأنّه لا مکان للمدينة العلويّة الفاضلة إلّا في دنيا الخيال؟

قبل أن نلجأ للإجابة علي هذه الأسئلة وبيان أسباب بقاء الإمام وحيداً، من الضروري الإشارة إلي نقطتين:

أ: دور الخواصّ في التحوّلات السياسيّة والاجتماعيّة لقد کان للخواصّ علي مرّ التأريخ- ولا يزال- الدور الأکبر في التحوّلات السياسيّة والاجتماعيّة التي يشهدها أيّ مجتمع،[2] فالنخب هي التي تأخذ موقع الجمهور في العادة وتقرّر بدلاً منه، علي حين ليس للجمهور- في الأغلب- إلّا اتّباع تلک النخب والانقياد لها. وقد تُرتّب النخبُ المشهد- أحياناً- بصيغة بحيث تتوهّم الجماهير أنّها صاحبة القرار!

ففي عصرٍ کصدر الإسلام کان لرؤساء القبائل الدور المحوري في التحوّلات السياسيّة والاجتماعيّة. وفي عصرٍ آخر صار ذلک التأثير إلي النخب الفکريّة وقادة الأحزاب. أما في العصر الحاضر فإنّ الذي يتحکّم بالجمهور ويوجّهه ويصوغ قراراته هم کبار المشرفين علي الشبکات الخبريّة، وأجهزة الاتّصال المختلفة، والقنوات والنظم الإعلاميّة، وأصحاب الجرائد، والصحفيّون.

ب: دور أهل الکوفة في حکم الإمام

يحتلّ العراق في الجغرافيّة السياسيّة لعصر صدر الإسلام موقع الجسر الذي يربط شرق العالم الإسلامي بغربه، کما يعدّ مصدراً لتزويد السلطة المرکزيّة بما

[صفحه 158]

تحتاج إليه من جندٍ وقوّاتٍ عسکريّة. وفي العراق تحظي الکوفة بموقع خاصّ، وحساسيّة کبري.

لقد مُصِّرت الکوفة عام 17 ه؛ لتکون مقرّاً للجند، حيث تقارَنَ تمصير هذه المدينة مع إيجاد معسکرات کبري للجند.

بهذا يتّضح أنّ الکوفة هي قاعدة عسکريّة، ومن ثمّ فإنّ من يسکنها لم يکن يفکّر بأکثر من القتال والبعوث وفتح البلدان والحصول علي الغنائم وغير ذلک ممّا له صلة بهذه الدائرة.

لقد کان من سکن الکوفة بعيداً عن المدينة المنوّرة التي تحتضن أکثريّة الصحابة، کما أنّ تردّد الصحابة علي هذا المصر کان قليلاً أيضاً، إذ سار عمر بسياسةٍ تقضي أن لا يتوزّع الصحابة في الأمصار بل يبقون في المدينة من حوله.[3] علي هذا الأساس لم يحظَ الکوفيّون بالمعرفة الدينيّة اللازمة، وظلّ حظّهم ضئيلاً من تعاليم الشريعة والعلوم الدينيّة.

لقد تحدّث عمر صراحةً إلي من رغب من الصحابة قصدَ الکوفة، ونهاهم عن تعليم الحديث؛ لئلّا يضرّوا اُنس هؤلاء بالقرآن.[4] .

هذا وقد برزت في الکوفة طبقة عُرفت ب «القرّاء»، ألّفت فيما بعد البذور التأسيسيّة لتيّار الخوارج.

ثم نقطة أساسيّة اُخري تتمثّل بالنسيج القبائلي الموجود في الکوفة وهيمنة الطباع القبليّة، وثقافة القبيلة وموازينها علي مجتمع الکوفة، ففي إطار نسيج ثقافيّ کهذا تکون الکلمة الفصل لرئيس القبيلة، أما البقيّة فهم تبع له، من دون أن

[صفحه 159]

تکون لهم حرّية الاختيار.

بضمّ هاتين المقدّمتين لبعضهما نخلص إلي هذه النتيجة: عندما نقول: «إنّ الناس انفضّوا عن الإمام علي عليه السلام وترکوه وحيداً» فما نقصده بذلک هو تخلّي الخواصّ والنخب ورؤساء قبائل الاُمّة الإسلاميّة عنه، بالخصوص أهل العراق، وبخاصّة أهل الکوفة.

وفيما يلي نعرض دراسة أسباب هذه الظاهرة، وکيف بقي الإمام وحيداً، من خلال ما ورد علي لسان الإمام أميرالمؤمنين عليه السلام.

غربة الإمام علي لسانه

ذکرنا قبل ذلک أنّ الإمام علياً عليه السلام استطاع أن يعکس في أيّام حکمه القصير أبهي صورة للحکم القائم علي أساس القيم الإنسانيّة. فالنهج العلوي في الحکم لم يکن يستقطب إليه المؤمنين بالقيم الإسلاميّة فحسب، بل کان- ولا يزال- يجذب إلي دائرة نفوذه حتي أولئک الذين لا يدينون بهذه القيم من بني الإنسان.

لذلک کلّه لا يمکن أن يکون سبب انفضاض الناس عن الإمام کامناً بخطأ منهجه في الحکم، بل ثم لذلک أدلّة اُخري.

لقد بيّن الإمام نفسه أسباب إدبار الجمهور عن حکمه بعد أن کانوا أقبلوا عليه، وکشف بالتفصيل دوافع إحجام المجتمع عن برنامجه الإصلاحي، کما وضع يده علي الجذر الذي تنتهي إليه الاختلافات التي عصفت بالمجتمع، والاضطرابات التي برزت أيّام حکمه.

وفيما يلي نقدّم أجوبة الإمام علي هذه النقاط:

[صفحه 161]



صفحه 156، 157، 158، 159، 161.





  1. راجع: القسم الخامس:بيعة النور:إقبال الناس علي البيعة.
  2. راجع کتاب «ميزان الحکمة»: الفساد:باب 3202 دور فساد الخاصة في فساد العامة.
  3. المستدرک علي الصحيحين: 374:193:1.
  4. کنزل العمّال: 29479:292:1.