آخر خطبة خطبها الإمام











آخر خطبة خطبها الإمام



2877- نهج البلاغة: رُوي عن نَوْف البکالي قال: خطبنا بهذه الخطبة أميرالمؤمنين عليّ عليه السلام بالکوفة وهو قائم علي حجارة نصبها له جعدة بن هبيرة المخزومي، وعليه مدرعة من صوف وحمائل سيفه ليف، وفي رجليه نعلان من ليف، وکأنّ جبينه ثفنة بعير. فقال عليه السلام:

الحمد اللَّه الذي إليه مصائر الخلق، وعواقب الأمر. نحمَده علي عظيم إحسانه ونيّر برهانه، ونوامي فضله وامتنانه، حمداً يکون لحقّه قضاءً، ولشکره أداءً، وإلي ثوابه مقرّباً، ولحسن مزيده موجباً. ونستعين به استعانة راجٍ لفضله، مؤمّل لنفعه، واثق بدفعه، معترف له بالطول، مذعن له بالعمل والقول. ونؤمن به إيمان من رجاه موقناً، وأناب إليه مؤمناً، وخنع له مذعناً، وأخلص له موحّداً، وعظّمه ممجّداً، ولاذ به راغباً مجتهداً.

لم يُولَد سبحانه فيکون في العزّ مشارَکاً، ولم يلد فيکون موروثاً هالکاً. ولم يتقدّمه وقت ولا زمان. ولم يتعاوره زيادة ولا نقصان، بل ظهر للعقول بما أرانا من علامات التدبير المتقَن والقضاء المبرَم.

[صفحه 152]

فمن شواهد خلقه خلق السموات موطّدات بلا عَمَد، قائمات بلا سَنَد. دعاهن فأجبن طائعات مذعنات، غير متلکّئات ولا مبطِئات. ولولا إقرارهنّ له بالربوبية وإذعانهنّ بالطواعية لما جعلهن موضعاً لعرشه، ولا مسکناً لملائکته، ولا مَصعَداً للکلم الطيّب والعمل الصالح من خلقه. جعل نجومها أعلاماً يستدلّ بها الحيران في مختلف فِجاج[1] الأقطار. لم يمنع ضوء نورها ادلهمامّ سجف الليل المظلم. ولا استطاعت جلابيب سواد الحنادس أن تردّ ما شاع في السموات من تلألؤ نور القمر.

فسبحان من لا يخفي عليه سواد غَسَق داجٍ ولا ليل ساجٍ في بقاع الأرَضين المتطأطئات، ولا في يَفاع السُّفْع[2] المتجاورات. وما يتجلجل به الرعد في اُفق السماء، وما تلاشت عنه بروق الغمام، وما تسقط من ورقة تزيلها عن مسقطها عواصف الأنواء وانهطال السماء، ويعلم مسقط القطرة ومقرّها، ومسحب الذرة ومجرّها، وما يکفي البعوضة من قوتها، وما تحمل الاُنثي في بطنها.

الحمد للَّه الکائن قبل أن يکون کرسي أو عرش، أو سماء أو أرض أو جانّ أو إنس،لا يُدرَک بوَهْم، ولا يُقدَّر بفهم. ولا يشغله سائل، ولا ينقصه نائل، ولا يَنْظر بعين، ولا يُحدّ بأين. ولا يُوصَف بالأزواج، ولا يُخلَق بعلاج. ولا يُدرَک بالحواسّ. ولا يقاس بالناس. الذي کلّم موسي تکليماً، وأراه من آياته عظيماً. بلا جوارح ولا أدوات، ولا نطق ولا لهوات.

بل إن کنت صادقاً أيّها المتکلّف لوصف ربّک فصف جبرائيل وميکائيل وجنود الملائکة المقرّبين في حُجُرات القُدُس مُرْجَحِنّين،[3] متولّهة عقولهم أن يحدّوا

[صفحه 153]

أحسن الخالقين. فإنّما يُدرَک بالصفات ذوو الهيئات والأدوات، ومن ينقضي إذا بلغ أمد حدّه بالفناء؛ فلا إله إلّا هو، أضاء بنوره کلّ ظلام، وأظلم بظلمته کلّ نور.

اُوصيکم عبادَ اللَّه بتقوي اللَّه الذي ألبسکم الرِّياش[4] وأسبغ عليکم المعاش. ولو أنّ أحداً يجد إلي البقاء سُلّماً، أو إلي دفع الموت سبيلاً، لکان ذلک سليمان بن داود عليه السلام الذي سخّر له ملک الجنّ والإنس مع النبوّة وعظيم الزلفة، فلمّا استوفي طعمته، واستکمل مدّته، رمتْهُ قِسِيّ الفناء بنبال الموت، وأصبحت الديار منه خالية، والمساکن معطّلة، وورثها قوم آخرون، وإنّ لکم في القرون السالفة لَعبرةً! أين العمالقة وأبناء العمالقة! أين الفراعنة وأبناء الفراعنة! أين أصحاب مدائن الرسّ الذين قتلوا النبيّين، وأطفؤوا سنن المرسلين، وأحيَوا سنن الجبّارين! وأين الذين ساروا بالجيوش وهَزَموا بالاُلوف. وعسکروا العساکر ومدّنوا المدائن.

ومنها: قد لبس للحکمة جنّتها، وأخذها بجميع أدَبها من الإقبال عليها، والمعرفة بها، والتفرّغ لها؛ فهي عند نفسه ضالّته التي يطلبها، وحاجته التي يسأل عنها؛ فهو مغترب إذا اغترب الإسلام، وضرب بعسيب[5] ذَنَبه، وألصق الأرضِ بِجِرانِه.[6] بقيّة من بقايا حجّته، خليفة من خلائف أنبيائه.

ثمّ قال عليه السلام: أيّها الناس! إنّي قد بثثت لکم المواعظ التي وعظ الأنبياء بها اُممهم، وأدّيت إليکم ما أدّت الأوصياء إلي مَن بعدهم، وأدّبتکم بسوطي فلم تستقيموا. وحدوتکم بالزواجر فلم تستوسقوا.[7] للَّه أنتم! أ تتوقّعون إماماً غيري يطأ بکم

[صفحه 154]

الطريق، ويُرشِدکم السبيل؟ ألا إنّه قد أدبر من الدنيا ما کان مقبلاً، وأقبل منها ما کان مدبراً، وأزمع[8] التَّرحال عبادَ اللَّه الأخيار، وباعوا قليلاً من الدنيالا يبقي بکثيرٍ من الآخرة لا يفني.

ما ضرَّ إخواننا الذين سُفِکت دماؤهم وهم بصفّين ألّا يکونوا اليوم أحياء؟ يُسيغون الغُصَص ويشربون الرَّنْق.[9] قد- واللَّه- لقُوا اللَّه فوفّاهم اُجورهم، وأحلّهم دار الأمن بعد خوفهم.

أين إخواني الذين رکبوا الطريق ومضَوا علي الحقّ؟ أين عمّار؟ وأين ابن التَّيِّهان؟ وأين ذو الشهادتين؟ وأين نظراؤهم من إخوانهم الذين تعاقدوا علي المنيّة، واُبرد برؤوسهم إلي الفَجَرة.

قال: ثمّ ضرب بيده علي لحيته الشريفة الکريمة فأطال البکاء، ثمّ قال عليه السلام: أوِّهْ علي إخواني الذين تلوا القرآن فأحکموه، وتدبّروا الفرض فأقاموه، أحيَوا السُّنَّة وأماتوا البدعة. دُعُوا للجهاد فأجابوا، ووثِقوا بالقائد فاتّبعوه.

ثمّ نادي بأعلي صوته: الجهادَ الجهادَ عباد اللَّه! ألا وإنّي معسکر في يومي هذا؛ فمن أراد الرواحَ إلي اللَّه فليخرج!

قال نَوْف: وعقد للحسين عليه السلام في عشرة آلاف، ولقيس بن سعد في عشرة آلاف، ولأبي أيّوب الأنصاري في عشرة آلاف، ولغيرهم علي أعداد اُخر وهو يريد الرجعة إلي صفّين، فما دارت الجمعة حتي ضربه الملعون ابن ملجم لعنه اللَّه، فتراجعت العساکر، فکنّا کأغنام فقدت راعيها تختطفها الذئاب من کلّ مکان.[10] .

[صفحه 155]



صفحه 152، 153، 154، 155.





  1. لفِجَاج: جمع فجّ؛ وهو الطريق الواسع (النهاية: 412:3).
  2. اليَفاع: المرتفع من کلّ شي ء. والسُّفعة: نوع من السواد ليس بالکثير (النهاية: 299:5 وج374:2) والمراد بها الجبال.
  3. ارجَحنَّ الشي ءُ: إذا مالَ من ثِقلَه وتحرَّک (النهاية: 198:2).
  4. الرِّياش: ما ظَهر من اللِّباس (النهاية: 288:2).
  5. عسيب الذنَب: مَنبِتُه من الجِلدِ والعظم (لسان العرب: 599:1).
  6. الجِران، مقدّم عنق البعير من المذبح إلي المنحر، والبعير أقلّ ما يکون نفعه عند بروکه. وإلصاق جِرانه بالأرض کناية عن الضعف.
  7. استَوسَقَ: استجمع وانضمّ. واستوسق عليه أمرهم: أي اجتَمَعُوا علي طاعَتِه (النهاية: 185:5).
  8. أزمع: عدا وخفّ (لسان العرب: 143:8).
  9. ماٌ رَنْق: کَدِرٌ (لسان العرب: 127:10).
  10. نهج البلاغة: الخطبة 182، بحارالأنوار: 40:313:4.