التحذير من جهنّم الدنيا











التحذير من جهنّم الدنيا



2758- الإمام عليّ عليه السلام- في کلامه مع أهل الکوفة-/ أيّها الناس! إنّي استنفرتکم لجهاد هؤلاء القوم [أي أهل الشام] فلم تنفروا، وأسمعتکم فلم تُجيبوا، ونصحت لکم فلم تقبلوا، شهود کالغُيَّب، أتلو عليکم الحکمة فتُعرضون عنها، وأعظکم بالموعظة البالغة فتتفرّقون عنها، کأنّکم حُمُر مستنفرة فرّت من قَسْوَرة،[1] وأحثّکم علي جهاد أهل الجور فما آتي علي آخر قولي حتي أراکم متفرّقين أيادي سبأ، ترجعون إلي مجالسکم تتربّعون حِلَقاً، تضربون الأمثال وتناشدون

[صفحه 17]

الأشعار، وتجسّسون الأخبار، حتي إذا تفرّقتم تسألون عن الأسعار، جَهلةً من غير علم، وغَفلةً من غير ورع، وتتبُّعاً في غير خوف، نسيتم الحرب والاستعداد لها، فأصبحت قلوبکم فارغة من ذکرها، شغلتموها بالأعاليل والأباطيل. فالعجب کلَّ العجب! وما لي لا أعجب من اجتماع قوم علي باطلهم، وتخاذلکم عن حقّکم!

يا أهل الکوفة! أنتم کاُمّ مجالِدٍ، حملت فأملَصَت،[2] فمات قيِّمُها، وطال تأيّمها، وورثها أبعدُها.

والذي فلق الحبّة وبرأ النسمة، إنّ من ورائکم للأعور الأدبر، جهنّم الدنيا، لا يُبقي ولا يذر، ومن بعده النهّاس الفرّاس الجَموع المَنوع، ثمّ لَيتوارثنّکم من بني اُميّة عدّة، ما الآخر بأرأف بکم من الأوّل، ما خلا رجلاً واحداً،[3] بلاءٌ قضاه اللَّه علي هذه الاُمّة لا محالة کائن، يقتلون خيارکم، ويستعبدون أراذلکم، ويستخرجون کنوزکم وذخائرکم من جوف حِجالکم،[4] نقمةً بما ضيّعتم من اُمورکم، وصلاح أنفسکم ودينکم.

يا أهل الکوفة! اُخبرکم بما يکون قبل أن يکون؛ لتکونوا منه علي حذر، ولتُنذروا به من اتّعظ واعتبر: کأنّي بکم تقولون: إنّ عليّاً يکذب، کما قالت قريش لنبيّها صلي الله عليه و آله وسيّدها نبيّ الرحمة محمّد بن عبد اللَّه حبيب اللَّه، فيا ويلکم!

[صفحه 18]

أفعلي من أکذب؟! أعَلي اللَّه؟ فأنا أوّل من عبده ووحّده، أم علي رسوله؟ فأنا أوّل من آمن به وصدّقه ونصره! کلّا، ولکنّها لهجة خَدعة کنتم عنها أغبياء. والذي فلق الحبّة وبرأ النسمة «لَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ و بَعْدَ حِينِ»[5] وذلک إذا صيّرکم إليها جهلُکم، ولا ينفعکم عندها علمکم.

فقبحاً لکم يا أشباه الرجال ولا رجال، حُلوم[6] الأطفال، وعقول ربّات الحِجال، أمَ واللَّه أيّها الشاهدة أبدانهم، الغائبة عنهم عقولهم، المختلفة أهواؤهم، ما أعزّ اللَّه نصر من دعاکم، ولا استراح قلب من قاساکم، ولا قرّت عين من آواکم، کلامکم يوهي الصمّ الصلاب، وفعلکم يُطمِع فيکم عدوَّکم المرتاب.

يا ويحکم!! أيّ دار بعد دارکم تمنعون! ومع أيّ إمام بعدي تقاتلون! المغرور- واللَّه- من غررتموه، من فاز بکم فاز بالسهم الأخيب، أصبحتُ لا أطمع في نصرکم، ولا اُصدّق قولکم، فرّق اللَّه بيني وبينکم، وأعقبني بکم من هو خير لي منکم، وأعقبکم من هو شرّ لکم منّي.

إمامکم يُطيع اللَّه وأنتم تعصونه، وإمام أهل الشام يعصي اللَّه وهم يُطيعونه، واللَّه لوددت أنّ معاوية صارفني بکم صرف الدينار بالدرهم، فأخذ منّي عشرة منکم وأعطاني واحداً منهم.

واللَّه لوددت أنّي لم أعرفکم ولم تعرفوني؛ فإنّها معرفة جرّت ندماً. لقد وَرَيتم صدري غيظاً، وأفسدتم عليَّ أمري بالخذلان والعصيان، حتي لقد قالت قريش: إنّ عليّاً رجل شجاع لکن لا علم له بالحروب، للَّه دَرُّهم! هل کان فيهم أحد أطول

[صفحه 19]

لها مِراساً منّي! وأشدّ لها مقاساة! لقد نهضت فيها وما بلغت العشرين، ثمّ ها أَنا ذا قد ذرّفت[7] علي الستّين، لکن لا أمر لمن لا يُطاع.

أمَ واللَّه، لوددت أن ربّي قد أخرجني من بين أظهرکم إلي رضوانه، وإنّ المنيّة لترصدني، فما يمنع أشقاها أن يخضبها- وترک يده علي رأسه ولحيته- عهدٌ عهده إليّ النبيّ الاُمّيّ، وقد خاب من افتري، ونجا من اتّقي وصدَّق بالحسني.

يا أهل الکوفة! دعوتکم إلي جهاد هؤلاء ليلاً ونهاراً وسرّاً وإعلاناً، وقلت لکم: اغزوهم؛ فإنّه ما غُزي قوم في عُقر دارهم إلّا ذلّوا، فتواکلتم وتخاذلتم، وثقل عليکم قولي، واستصعب عليکم أمري، واتّخذتموه وراءکم ظهريّاً، حتي شُنّت عليکم الغارات، وظهرت فيکم الفواحش والمنکرات تُمَسِّيکم وتُصبّحکم، کما فُعل بأهل المَثُلات[8] من قبلکم، حيث أخبر اللَّه تعالي عن الجبابرة والعتاة الطغاة، والمستضعفين الغواة، في قوله تعالي: «يُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَکُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَکُمْ وَ فِي ذَ لِکُم بَلَآءٌ مِّن رَّبِّکُمْ عَظِيمٌ».[9] أمَ والذي فلق الحبّة وبرأ النسمة، لقد حلّ بکم الذي توعَدون.

عاتبتکم يا أهل الکوفة بمواعظ القرآن فلم أنتفع بکم، وأدّبتکم بالدُّرَّة فلم تستقيموا، وعاقبتکم بالسوط الذي يُقام به الحدود فلم ترعووا، ولقد علمت أنّ الذي يصلحکم هو السيف، وما کنت متحرّياً صلاحکم بفساد نفسي، ولکن سيسلَّط عليکم من بعدي سلطان صعب، لا يُوقّر کبيرکم، ولا يرحم صغيرکم،

[صفحه 20]

ولا يُکرِم عالمکم، ولا يقسم الفي ء بالسويّة بينکم، وليضربنّکم، ويُذلّنّکم، ويُجمّرنّکم[10] في المغازي، ويقطعنّ سبيلکم، وليحجبنّکم علي بابه، حتي يأکل قويُّکم ضعيفَکم، ثمّ لا يبعد اللَّه إلّا من ظلم منکم، ولقلّما أدبر شي ء ثمّ أقبل، وإنّي لأظنّکم في فترة، وما عليَّ إلّا النصح لکم.

يا أهل الکوفة! مُنِيت منکم بثلاث واثنتين: صُمّ ذوو أسماع، وبُکم ذوو ألسن، وعُمي ذوو أبصار، لا إخوان صدق عند اللقاء، ولا إخوان ثقة عند البلاء.

اللهمّ إنّي قد مللتهم وملّوني، وسئمتهم وسئموني.

اللهمّ لا تُرضِ عنهم أميراً، ولا تُرضِهم عن أمير، وأمِثْ قلوبهم کما يُماث الملح في الماء.

أمَ واللَّه، لو أجد بُدّاً من کلامکم ومراسلتکم ما فعلت، ولقد عاتبتکم في رشدکم حتي لقد سئمت الحياة، کلّ ذلک تراجعون بالهزء من القول فراراً من الحقّ، وإلحاداً إلي الباطل الذي لا يُعِزّ اللَّه بأهله الدين، وإنّي لأعلم أنّکم لا تَزيدونني غير تخسير، کلّما أمرتکم بجهاد عدوّکم اثّاقلتم إلي الأرض، وسألتموني التأخير دفاع ذي الدَّين المَطُول.

إن قلت لکم في القيظ: سيروا، قلتم: الحرّ شديد، وإن قلت لکم في البرد: سيروا، قلتم: القرّ شديد، کلّ ذلک فراراً عن الجنّة. إذا کنتم عن الحرّ والبرد تعجزون، فأنتم عن حرارة السيف أعجز وأعجز، فإنّا للَّه وإنّا إليه راجعون.

[صفحه 21]

يا أهل الکوفة! قد أتاني الصريخ يخبرني أنّ أخا غامد قد نزل الأنبار[11] علي أهلها ليلاً في أربعة آلاف، فأغار عليهم کما يُغار علي الروم والخزَر، فقتل بها عاملي ابن حسّان وقتل معه رجالاً صالحين ذوي فضل وعبادة ونجدة، بوّأ اللَّه لهم جنّات النعيم، وأنّه أباحها، ولقد بلغني أنّ العُصبة من أهل الشام کانوا يدخلون علي المرأة المسلمة والاُخري المعاهدة فيهتکون سترها، ويأخذون القناع من رأسها، والخُرْصَ[12] من أُذُنها، والأوضاح[13] من يديها ورجليها وعَضُديها، والخلخال والمئزر من سُوقِها، فما تمتنع إلّا بالاسترجاع والنداء: يا لَلمسلمين، فلا يُغيثها مغيثٌ، ولا ينصرها ناصر.

فلو أنّ مؤمناً مات من دون هذا أسفاً ما کان عندي ملوماً، بل کان عندي بارّاً محسناً.

وا عجباً کلّ العجب، من تضافر هؤلاء القوم علي باطلهم، وفشلکم عن حقّکم! قد صرتم غرضاً يُرمي ولا ترمون، وتُغْزَون ولا تَغزون، ويُعصي اللَّه وترضَون، تَرِبت أيديکم يا أشباه الإبل غاب عنها رعاتها، کلّما اجتمعت من جانب تفرّقت من جانب.[14] .

[صفحه 22]



صفحه 17، 18، 19، 20، 21، 22.





  1. قيل: هو الرُّماة من الصيّادين. وقيل: هو الأسد. وقيل: کلُّ شديد (النهاية: 63:4).
  2. إملاص المرأة الجنين: هو أن تُزلِق الجنين قبل وقت الولادة. وکلّ ما زلق من اليد فقد مَلِص (النهاية: 356:4).
  3. قال المجلسي: المراد بالنّهاس الفرّاس إمّا هشام بن عبد الملک؛ لاشتهاره بالبخل، أو سليمان بن عبد الملک، والأوّل أنسب. والمراد بالرجل الواحد هو عمر بن عبد العزيز (بحارالأنوار: 140:34).
  4. الحِجال: جمع الحَجَلة؛ وهي بيت کالقبّة يُستَر بالثياب، وتکون له أزرار کِبار (النهاية: 346:1).
  5. ص: 88.
  6. الحُلوم: جمع الحِلمْ وهو الأناة والعقل (لسان العرب: 146:12).
  7. أي زِدتُ عليها (النهاية: 159:2).
  8. المَثُلَة: العقوبة والجمع المَثُلات (الصحاح: 1816:5).
  9. البقرة: 49.
  10. تجمير الجيش: جمعهم في الثغور، وحبسهم عن العود إلي أهلهم (النهاية: 292:1).
  11. الأنبار: مدينة صغيرة کانت عامرة أيّام الساسانيّين، وآثارها غرب بغداد علي بُعد ستين کيلو متراً مشهودة. وسبب تسميتها بالأنبار هو أنّها کانت مرکزاً لخزن الحنطة والشعير والتبن للجيوش، وإلّا فإنّ الإيرانيّين کانوا يسمّونها «فيروز شاپور». فتحت علي يد خالد بن الوليد عام (12 ه) وقد اتّخذها السفّاح- أوّل خلفاء بني العبّاس- مقرّاً له مدّة من الزمان.
  12. الخُرْص: الحَلْقة الصغيرة من الحَلْي، وهو من حَلْي الاُذُن (النهاية: 22:2).
  13. الأوضاح: نوع من الحُلِيّ يُعمل من الفضّة، سُمّيتْ بها لبياضها (النهاية: 196:5).
  14. الإرشاد: 278:1، الاحتجاج: 89:409:1 نحوه، بحارالأنوار: 956:135:34.