استشهاد محمّد بن أبي بكر











استشهاد محمّد بن أبي بکر



ولّي الإمام عليه السلام محمّد بن أبي بکر علي مصر سنة 36 ه باقتراح من عبد اللَّه بن جعفر، وذلک بعد عزل قيس بن سعد عنها.[1] من هنا لم يشهد محمّدٌ معرکة صفّين.[2] .

تشدّد محمّد علي أشخاص کان هواهم في عثمان،[3] فتمرّدوا عليه بعدما جري في صفّين وما آلَت إليه من التحکيم،[4] وضيّقوا عليه الخناق،[5] وانتهز

[صفحه 91]

معاوية وعمرو بن العاص الفرصة فهبّوا إلي مؤازرة المتمرّدين.[6] فکادت الاُمور تفلت في مصر، ويخرج هذا الإقليم من سيادة الدولة الإسلاميّة، لذا عيّن الإمام عليه السلام مالکاً مکانه ليُخمد الفتنة المستعرة فيها،[7] لکنّ هذا النصير الفذّ الفريد استشهد في الطريق بأسلوبٍ غادر خبيث انتهجه معاوية، فأعاد الإمام عليه السلام محمّداً إليها.[8] .

بعث معاوية عمرو بن العاص مع لُمّةٍ لإعانة المتمرّدين.[9] وکان لابن العاص نفوذ فيها إذ کان قد فتحها في زمان خلافة عمر.[10] فحدثت اشتباکات استُشهد فيها کنانة الذي کان قد بعثه محمّد علي رأس ألفين لمواجهة ابن العاص،[11] فجرّ ذلک إلي أن ترک أصحاب محمّد أميرهم وحيداً، فوقع في قبضة العدوّ.[12] .

ومن جانب آخر لم تُجْدِ استغاثة الإمام عليه السلام واستنصاره أهل الکوفة لمؤازرة

[صفحه 92]

محمّد.[13] وآل الأمر إلي أن يضع معاوية بن خديج محمّداً في جلد حمار ميّت ويحرقه، وهو ظمآن،[14] وجاء في بعض الأخبار أنّه اُحرق حيّاً.[15] .

أحزن استشهاد محمّد بن أبي بکر الإمام عليه السلام کثيراً،[16] وتوجّع علي ما جري علي عزيزه الراحل، وجزع عليه أشدّ الجزع، وحين سُئل عليه السلام عن علّة جزعه الشديد، قال:

«رحم اللَّه محمّداً؛ کان غلاماً حَدَثاً، أما واللَّه لقد کنتُ أردتُ أن اُولّي المرقال هاشم بن عتبة بن أبي وقّاص مصر... بلا ذمّ لمحمّد بن أبي بکر، لقد أجهد نفسه وقضي ما عليه».[17] .

وکان عليه السلام يُثني عليه ويذکره بخير في مناسبات مختلفة ويقول:

«لقد کان إليّ حبيباً، وکان لي ربيباً،[18] فعند اللَّه نحتسبه ولداً ناصحاً، وعاملاً کادحاً، وسيفاً قاطعاً، ورکناً دافعاً».[19] .

[صفحه 93]

2829- تاريخ الطبري عن محمّد بن يوسف بن ثابت الأنصاري عن شيخ من أهل المدينة: خرج محمّد في ألفي رجل، واستقبل عمرو بن العاص کنانة وهو علي مقدّمة محمّد، فأقبل عمرو نحو کنانة، فلمّا دنا من کنانة سرّح الکتائب کتيبة بعد کتيبة، فجعل کنانة لا تأتيه کتيبةٌ من کتائب أهل الشام إلّا شدّ عليها بمن معه، فيضربها حتي يقرّبها لعمرو بن العاص، ففعل ذلک مراراً، فلمّا رأي ذلک عمرو بعث إلي معاوية بن حُدَيج السکوني، فأتاه في مثل الدهم،[20] فأحاط بکنانة وأصحابه، واجتمع أهل الشام عليهم من کلّ جانب، فلمّا رأي ذلک کنانة بن بشر نزل عن فرسه، ونزل أصحابه وکنانة يقول: «وَمَا کَانَ لِنَفْسٍ أَن تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ کِتَبًا مُّؤَجَّلاً وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ ي مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الْأَخِرَةِ نُؤْتِهِ ي مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّکِرِينَ»،[21] فضاربهم بسيفه حتي استشهد.

وأقبل عمرو بن العاص نحو محمّد بن أبي بکر، وقد تفرّق عنه أصحابه لمّا بلغهم قتل کنانة، حتي بقي وما معه أحد من أصحابه، فلمّا رأي ذلک محمّد خرج يمشي في الطريق حتي انتهي إلي خربةٍ في ناحية الطريق، فأوي إليها، وجاء عمرو ابن العاص حتي دخل الفسطاط، وخرج معاوية بن حديج في طلب محمّد... حتي دخلوا عليه، فاستخرجوه، وقد کاد يموت عطشاً، فأقبلوا به نحو فسطاط مصر...

قال له معاوية: أ تدري ما أصنع بک؟ اُدخلک في جوف حمار، ثمّ أحرقه عليک بالنار.

فقال له محمّد: إن فعلتم بي ذلک، فطالما فُعِل ذلک بأولياء اللَّه! وإنّي لأرجو

[صفحه 94]

هذه النار التي تُحرقني بها أن يجعلها اللَّه عليَّ برداً وسلاماً کما جعلها علي خليله إبراهيم، وأن يجعلها عليک وعلي أوليائک کما جعلها علي نمرود وأوليائه، إنّ اللَّه يحرقک ومن ذکرته قبل وإمامک- يعني معاوية- وهذا- وأشار إلي عمرو ابن العاص- بنارٍ تلظّي عليکم، کلّما خبت زادها اللَّه سعيراً، قال له معاوية: إنّي إنّما أقتلک بعثمان.

قال له محمّد: وما أنت وعثمان؟ إنّ عثمان عمل بالجور، ونبذ حکم القرآن، وقد قال اللَّه تعالي: «ومَن لَّمْ يَحْکُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَل-کَ هُمُ الْفَسِقُونَ »،[22] فنقمنا ذلک عليه فقتلناه، وحسّنت أنت له ذلک ونظراؤک، فقد برّأنا اللَّه إن شاء اللَّه من ذنبه، وأنت شريکه في إثمه وعظم ذنبه، وجاعلک علي مثاله.

قال: فغضب معاوية فقدّمه فقتله، ثمّ ألقاه في جيفة حمار، ثمّ أحرقه بالنار، فلمّا بلغ ذلک عائشة جزعت عليه جزعاً شديداً، وقنتت عليه في دبر الصلاة تدعو علي معاوية وعمرو، ثمّ قبضت عيال محمّد إليها، فکان القاسم بن محمّد بن أبي بکر في عيالها.[23] .



صفحه 91، 92، 93، 94.





  1. تاريخ الطبري: 554:4، الکامل في التاريخ: 356:2؛ الغارات: 219:1.
  2. تاريخ الطبري: 557:4، الکامل في التاريخ: 357:2؛ الغارات: 254:1.
  3. تاريخ الطبري: 94:5 و 95، الکامل في التاريخ: 357:2؛ الغارات: 254:1.
  4. الغارات: 254:1.
  5. تاريخ الطبري: 95:5، الکامل في التاريخ: 410:2؛ الغارات: 254:1.
  6. الغارات: 276:1؛ تاريخ الطبري: 94:5.
  7. الأمالي للمفيد: 4:79، الغارات: 259 - 257:1؛ أنساب الأشراف: 167:3 و 168، تاريخ الطبري: 95:5.
  8. نهج البلاغة: الکتاب 34، الغارات: 268:1 و 269؛ أنساب الأشراف: 168:3 و 169، تاريخ الطبري: 96:5 و 97، الکامل في التاريخ: 410:2.
  9. أنساب الأشراف: 170:3، تاريخ الطبري: 100:5، مروج الذهب: 420:2، الکامل في التاريخ: 412:2؛ تاريخ اليعقوبي: 193 2، الغارات: 276:1.
  10. تاريخ الطبري: 111 - 104:4، الکامل في التاريخ: 177-174:2.
  11. تاريخ الطبري: 103:5، الکامل في التاريخ: 412:2، أنساب الأشراف: 171:3؛ الغارات: 282:1.
  12. أنساب الأشراف: 170:3، تاريخ الطبري: 103:5 و 104، مروج الذهب: 420:2، الکامل في التاريخ: 413:2؛ تاريخ اليعقوبي: 194:2، الغارات: 282:1 و 283.
  13. تاريخ الطبري: 107:5، الکامل في التاريخ: 413:2 و 414، أنساب الأشراف: 170:3؛ الغارات: 290:1.
  14. أنساب الأشراف: 171:3 و 172، تاريخ الطبري: 104:5 و 105، الکامل في التاريخ: 413: 2، تاريخ الإسلام للذهبي: 601:3، الاستيعاب: 2348:423:3، مروج الذهب: 420:2، اُسد الغابة: 4751:98:5؛ تاريخ اليعقوبي: 194:2 وليس في الخمسة الأخيرة ذکر لعطشه، الغارات: 283:1 و 284.
  15. الاستيعاب: 2348:423:3، مروج الذهب: 420:2.
  16. نهج البلاغة: الحکمة 325، الغارات: 295:1؛ تاريخ الطبري: 108:5، مروج الذهب: 420:2.
  17. الغارات: 301:1، نهج البلاغة: الخطبة 68 نحوه.
  18. نهج البلاغة: الخطبة 68، الغارات: 301:1 وليس فيه صدره.
  19. نهج البلاغة: الکتاب 35.
  20. الدُّهمة: السواد، والدَّهْم: الجماعة الکثيرة (لسان العرب: 209:12 و ص 210).
  21. آل عمران: 145.
  22. المائدة: 47.
  23. تاريخ الطبري: 103:5، الکامل في التاريخ: 412:2 و 413؛ الغارات: 285 - 282:1 کلاهما نحوه وراجع أنساب الأشراف: 171:3 و 172.