واجبات مالك في حكومة مصر











واجبات مالک في حکومة مصر[1]



.

2803- الإمام عليّ عليه السلام- في عهده إلي مالک الأشتر حين ولّاه مصر وأعمالها-: بسم اللَّه الرحمن الرحيم. هذا ما أمر به عبد اللَّه عليٌّ أميرالمؤمنين مالکَ بن الحارث الأشتر في عهده إليه حين ولّاه مصر: جبايةَ خراجها، ومجاهدةَ عدوّها، واستصلاحَ أهلها، وعمارة بلادها. أمره بتقوي اللَّه، وإيثار طاعته، واتّباع ما أمر اللَّه به في کتابه من فرائضه وسننه التي لا يسعد أحد إلّا باتّباعها، ولا يشقي إلّا مع جحودها وإضاعتها، وأن ينصرَ اللَّه بيده وقلبه ولسانه؛ فإنّه قد تکفّل بنصر من نصره، إنّه قوي عزيز.

[صفحه 55]

وأمره أن يکسر من نفسه عند الشهوات؛ فإنّ النفس أمّارة بالسوء إلّا ما رحم ربي، إنّ ربّي غفور رحيم. «وأن يعتمد کتاب اللَّه عند الشبهات؛ فإنّ فيه تبيان کلّ شي ء، وهديً ورحمةً لقوم يؤمنون. وأن يتحرّي رضا اللَّه، ولا يتعرّض لسخطه، ولا يصرّ علي معصيته، فإنّه لا ملجأ من اللَّه إلّا إليه».

ثمّ اعلم يا مالک أنّي وجهتک إلي بلاد قد جرت عليها دول قبلک من عدل وجور، وأنّ الناس ينظرون من اُمورک في مثل ما کنت تنظر فيه من اُمور الولاة قبلک، ويقولون فيک ما کنت تقول فيهم، وإنّما يستدلّ علي الصالحين بما يُجري اللَّه لهم علي ألسن عباده، فليکن أحبّ الذخائر إليک ذخيرة العمل الصالح «بالقصد فيما تجمع وما ترعي به رعيتک»، فاملک هواک، وشُحّ بنفسک عمّا لا يحلّ لک؛ فإنّ الشحّ بالنفس الإنصاف منها فيما أحببت وکرهت.

وأشعِر قلبک الرحمة للرعيّة، والمحبّة لهم، واللطف بالإحسان إليهم، ولا تکوننّ عليهم سبُعاً ضارياً تغتنم أکلهم؛ فإنّهم صنفان؛ إمّا أخ لک في الدين، وإمّا نظير لک في الخلق، يفرط[2] منهم الزلل، وتَعرِض لهم العِلل، ويؤتي علي أيديهم في العمد والخطأ، فأعطِهم من عفوک وصفحک مثل الذي تحبّ أن يعطيک اللَّه من عفوه؛ فإنّک فوقهم، ووالي الأمر عليک فوقک، واللَّهُ فوق من ولّاک بما عرّفک من کتابه، وبصّرک من سنن نبيه صلي الله عليه و آله.

عليک بما کتبنا لک في عهدنا هذا، لا تنصبنّ نفسک لحرب اللَّه؛ فإنّه لا يدَ لَک بنقمته، ولا غني بک عن عفوه ورحمته. فلا تندمنّ علي عفو، ولا تبجحنّ[3] .

[صفحه 56]

بعقوبة، ولا تسرعنّ إلي بادرة[4] وجدت عنها مندوحة،[5] ولا تقولنّ: إنّي مُؤمّر؛ آمر فاُطاع؛ فإنّ ذلک إدغال[6] في القلب، ومنهکة[7] للدين، وتقرّب من الفتن، فتعوّذ باللَّه من درک الشقاء.

وإذا أعجبک ما أنت فيه من سلطانک فحدثت لک به اُبّهة أو مخيلة فانظر إلي عظم ملک اللَّه فوقک، وقدرته منک علي ما لا تقدر عليه من نفسک؛ فإن ذلک يُطامِن[8] إليک من طِماحک،[9] ويکفّ عنک من غربک،[10] ويَفي ءُ إليک ما عزب[11] من عقلک.

وإيّاک ومساماته في عظمته، أو التشبه به في جبروته؛ فإنّ اللَّه يُذلّ کلّ جبّار، ويُهين کلّ مختال فخور.

أنصف اللَّه، وأنصف الناس من نفسک ومن خاصّتک ومن أهلک ومن لک فيه هوي من رعيتک؛ فإنّک إلّا تفعل تظلم، ومن ظلم عباد اللَّه کان اللَّه خصمه دون عباده، ومن خاصمه اللَّه أدحض حجّته، وکان للَّه حرباً حتي ينزع ويتوب.

وليس شي ء أدعي إلي تغيير نعمة من إقامة علي ظلم؛ فإنّ اللَّه يسمع دعوة المظلومين، وهو للظالمين بمرصاد، ومن يکن کذلک فهو رهين هلاک في الدنيا

[صفحه 57]

والآخرة.

وليکن أحبّ الاُمور إليک أوسطها في الحقّ، وأعمّها في العدل، وأجمعها للرعيّة؛ فإن سخط العامّة يُجحف برضي الخاصّة، وإنّ سخط الخاصّة يُغتفر مع رضي العامّة. وليس أحد من الرعيّة أثقل علي الوالي مؤونة في الرخاء، وأقلّ له معونة في البلاء، وأکره للإنصاف، وأسأل بالإلحاف،[12] وأقلّ شکراً عند الإعطاء، وأبطأ عذراً عند المنع، وأضعف صبراً عند ملمّات الاُمور، من الخاصّة، وإنّما عمود الدين وجماع المسلمين والعدة للأعداء أهل العامّة من الاُمّة، فليکن لهم صَغوک، واعمد لأعمّ الاُمور منفعة وخيرها عاقبة، ولا قوّة إلّا باللَّه.

وليکن أبعد رعيتک منک وأشنأهم عندک أطلبهم لعيوب الناس؛ فإنّ في الناس عيوباً الوالي أحقّ مَن سترها، فلا تکشفنّ ما غاب عنک، واستر العورة ما استطعت؛ يستر اللَّه منک ما تحبّ ستره من رعيّتک.

وأطلق عن الناس عقد کلّ حقد، واقطع عنک سبب کلّ وتر، «واقبل العذر. وادرأ الحدود بالشبهات».

وتغابَ عن کلّ ما لا يَضِحُ[13] لک، ولا تعجلنّ إلي تصديق ساعٍ؛ فإنّ الساعي غاشّ وإن تشبّه بالناصحين.

لا تُدخلنّ في مشورتک بخيلاً يخذلک عن الفضل، ويَعدکَ الفقرَ، ولا جباناً يُضعف عليک الاُمور، ولا حريصاً يُزيّن لک الشَّرَه بالجور؛ فإن البخل والجور[14] .

[صفحه 58]

والحرص غرائز شتّي يجمعها سوء الظنّ باللَّه، کمونها في الأشرار.

أيقن أنّ شرّ وزرائک من کان للأشرار وزيراً، ومن شرکهم في الآثام وقام باُمورهم في عباد اللَّه؛ فلا يکوننّ لک بطانة،[15] «تُشرکهم في أمانتک کما شرکوا في سلطان غيرک فأردَوهم وأوردوهم مصارع السوء.

ولا يُعجبنّک شاهد ما يحضرونک به»؛ فإنّهم أعوان الأثَمة، وإخوان الظلمة، وعباب کلّ طمع ودغل،[16] وأنت واجد منهم خير الخلف ممّن له مثل أدبهم ونفاذهم ممّن قد تصفّح الاُمور، فعرف مساويها بما جري عليه منها، فأولئک أخفّ عليک مؤونة، وأحسن لک معونة، وأحني عليک عطفاً، وأقلّ لغيرک إلفاً، لم يعاون ظالماً علي ظلمه، ولا آثماً علي إثمه، «ولم يکُن مع غيرک له سيرة أجحفت بالمسلمين والمعاهدين»؛ فاتّخِذ أولئک خاصّة لخلوتک وملائک.

ثمّ ليکُن آثرهم عندک أقولهم بمرّ الحقّ، «وأحوطهم علي الضعفاء بالإنصاف، وأقلّهم لک مناظرة فيما يکون منک مما کره اللَّه لأوليائه واقعاً ذلک من هواک حيث وقع؛ فإنّهم يقفونک علي الحقّ، ويُبصّرونک ما يعود عليک نفعه». والصق بأهل الورع و الصدق وذوي العقول والأحساب، ثمّ رُضْهم علي ألّا يُطروک، ولا يبجّحوک بباطل لم تفعله؛ فإن کثرة الإطراء تُحدث الزهو، وتُدني من الغِرّة، «والإقرار بذلک يوجب المقت من اللَّه».

لا يکوننّ المحسن والمسي ء عندک بمنزلة سواء؛ فإنّ ذلک تزهيد لأهل الإحسان، في الإحسان، وتدريب لأهل الإساءة علي الإساءة، فألزِم کلّاً منهم ما

[صفحه 59]

ألزم نفسه؛ أدباً منک ينفعک اللَّه به، وتنفع به أعوانک.

ثمّ اعلم أنّه ليس شي ء بأدعي لحسن ظنّ والٍ برعيته من إحسانه إليهم، وتخفيفه المؤونات عليهم، وقلّة استکراهه إيّاهم علي ما ليس له قبلهم، فليکن في ذلک أمر يجتمع لک به حسن ظنّک برعيّتک؛ فإنّ حسن الظنّ يقطع عنک نصباً طويلاً، وإنّ أحقّ من حسن ظنّک به لمن حسن بلاؤک عنده، وأحقّ من ساء ظنّک به لمن ساء بلاؤک عنده، «فاعرف هذه المنزلة لک وعليک لتزدک بصيرة في حسن الصنع، واستکثار حسن البلاء عند العامّة، مع ما يوجب اللَّه بها لک في المعاد».

ولا تنقض سنّة صالحة عمل بها صدور هذه الاُمّة، واجتمعت بها الاُلفة، وصلحت عليها الرعيّة. ولا تحدثنّ سنّة تضرّ بشي ء مما مضي من تلک السنن؛ فيکون الأجر لمن سنّها، والوزر عليک بما نقضت منها.

وأکثر مدارسة العلماء، ومثافنة[17] الحکماء، في تثبيت ما صلح عليه أهل بلادک، وإقامة ما استقام به الناس من قبلک؛ «فإنّ ذلک يحقّ الحقّ، ويدفع الباطل، ويکتفي به دليلاً ومثالاً لأنّ السنن الصالحة هي السبيل إلي طاعة اللَّه».

ثمّ اعلم أنّ الرعيّة طبقات، لا يصلح بعضها إلّا ببعض، ولا غني ببعضها عن بعض؛ فمنها جنود اللَّه، ومنها کُتّاب العامّة والخاصّة، ومنها قضاة العدل، ومنها عمّال الإنصاف والرفق، ومنها أهل الجزية والخراج من أهل الذمّة ومَسلَمة الناس، ومنها التجّار وأهل الصناعات، ومنها الطبقة[18] السفلي من ذوي الحاجة والمسکنة، وکلّاً قد سمّي اللَّه سهمه، ووضع علي حدّ فريضته في کتابه أو سنّة

[صفحه 60]

نبيّه صلي الله عليه و آله، وعهداً عندنا محفوظاً.

فالجنود- بإذن اللَّه- حصون الرعيّة، وزين الولاة، وعزّ الدين، وسبيل الأمن والخفض، وليس تقوم الرعيّة إلّا بهم. ثمّ لا قوام للجنود إلّا بما يخرج اللَّه لهم من الخراج الذي يصلون به إلي جهاد عدوّهم، ويعتمدون عليه، ويکون من وراء حاجاتهم.

ثمّ لا بقاء لهذين الصنفين إلّا بالصنف الثالث من القضاة والعمّال والکُتّاب؛ لما يحکمون من الأمور، ويظهرون من الإنصاف، ويجمعون من المنافع، ويُؤمَنون عليه من خواصّ الاُمور وعوامّها.

ولا قوام لهم جميعاً إلّا بالتجّار وذوي الصناعات فيما يجمعون من مرافقهم، ويقيمون من أسواقهم، ويکفونهم من الترفّق بأيديهم مما لا يبلغه رفق غيرهم.

ثمّ الطبقة السفلي من أهل الحاجة والمسکنة الذين يحقّ رِفدُهم،[19] وفي في اللَّه لکلٍّ سعة، ولکلٍّ علي الوالي حقّ بقدر يصلحه، وليس يخرج الوالي من حقيقة ما ألزمه اللَّه من ذلک إلّا بالاهتمام والاستعانة باللَّه وتوطين نفسه علي لزوم الحقّ والصبر فيما خفّ عليه وثقل. فولّ من جنودک أنصحهم في نفسک للَّه ولرسوله ولإمامک، وأنقاهم جيباً، وأفضلهم حلماً، وأجمعهم علماً وسياسة، ممّن يبطئ عن الغضب، ويسرع إلي العذر، ويرأف بالضعفاء، وينبو[20] علي الأقوياء، ممّن لا يثيره العنف، ولا يقعد به الضعف.

ثمّ الصق بذوي الأحساب وأهل البيوتات الصالحة والسوابق الحسنة، ثمّ

[صفحه 61]

أهل النجدة والشجاعة والسخاء والسماحة؛ فإنّهم جِماع من الکرم، وشُعَبٌ من العُرف، يهدون إلي حسن الظنّ باللَّه، والإيمان بقَدره.

ثمّ تفقّد اُمورهم بما يتفقّد الوالد من ولده، ولا يتفاقمنّ[21] في نفسک شي ء قَوّيتهم به. ولا تَحقِرنّ لُطفاً تعاهدتهم به وإن قلّ؛ فإنّه داعية لهم إلي بذل النصيحة وحسن الظنّ بک. فلا تدَع تفقّد لطيف اُمورهم اتّکالاً علي جسيمها؛ فإنّ لليسير من لطفک موضعاً ينتفعون به، وللجسيم موقعاً لا يستغنون عنه.

وليکن آثر رؤوس جنودک من واساهم في معونته، وأفضل عليهم في بذله ممّن يسَعهم ويسَع مَن وراءهم من الخُلوف[22] من أهلهم، حتي يکون همّهم همّاً واحداً في جهاد العدوّ.

«ثمّ واتر إعلامَهم ذات نفسک في إيثارهم والتکرمة لهم، والإرصاد بالتوسعة. وحقّق ذلک بحسن الفعال والأثر والعطف»؛ فإنّ عطفک عليهم يعطف قلوبهم عليک.

وإن أفضل قرّة العيون للولاة استفاضة العدل في البلاد، وظهور مودّة الرعيّة؛ لأنّه لا تظهر مودّتهم إلّا بسلامة صدورهم، ولا تصحّ نصيحتهم إلّا بحوطتهم علي ولاة اُمورهم، وقلّة استثقال دولتهم، وترک استبطاء انقطاع مدّتهم.

«ثمّ لا تَکِلنّ جنودک إلي مغنم وزّعته بينهم، بل أحدِث لهم مع کلّ مغنم بدلاً ممّا سواه مما أفاء اللَّه عليهم، تستنصر بهم به، ويکون داعية لهم إلي العودة لنصر اللَّه ولدينه. واخصص أهل النجدة في أملهم إلي منتهي غاية آمالک من النصيحة بالبذل»، وحسن الثناء عليهم، ولطيف التعهّد لهم رجلاً رجلاً وما أبلي

[صفحه 62]

في کلّ مشهد؛ فإنّ کثرة الذکر منک لحسن فِعالهم تهزّ الشجاع، وتحرّض الناکل إن شاء اللَّه.

«ثمّ لا تدَع أن يکون لک عليهم عيون[23] من أهل الأمانة والقول بالحقّ عند الناس، فيثبتون بلاء کلّ ذي بلاء منهم ليثِق اُولئک بعلمک ببلائهم».

ثمّ اعرف لکلّ امرئ منهم ما أبلي، ولا تَضُمّنَّ بلاء امرئ إلي غيره، ولا تُقصّرنّ به دون غاية بلائه، «وکافِ کلاًّ منهم بما کان منه، واخصُصه منک بهَزِّه». ولا يدعونّک شرف امرئ إلي أن تعظّم من بلائه ما کان صغيراً، ولا ضِعة امرئ علي أن تصغّر من بلائه ما کان عظيماً. «ولا يفسدنّ امرأ عندک علّة إن عرضت له، ولا نبوة حديث له قد کان له فيها حسن بلاء، فإنّ العزة للَّه يؤتيه من يشاء والعاقبة للمتقين.

وإن استُشهد أحد من جنودک وأهل النکاية في عدوّک فاخلفه[24] في عياله بما يخلف به الوصيّ الشفيق الموثق به؛ حتي لا يُري عليهم أثر فقده؛ فإنّ ذلک يعطف عليک قلوب شيعتک، ويستشعرون به طاعتک، ويسلسون[25] لرکوب معاريض التلف الشديد في ولايتک.

وقد کانت من رسول اللَّه صلي الله عليه و آله سنن في المشرکين ومنّا بعده سنن، قد جرت بها سنن وأمثال في الظالمين، ومن توجّه قِبلتنا، وتَسمّي بديننا»؛ وقد قال اللَّه لقوم أحب إرشادهم: «يَأَيُّهَا الَّذِينَء َامَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنکُمْ فَإِن تَنَزَعْتُمْ فِي شَيْ ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَي اللَّهِ وَالرَّسُولِ «إِن کُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ

[صفحه 63]

الْأَخِرِ ذَ لِکَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً»،[26] وقال: «وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَي الرَّسُولِ وَإِلَي أُوْلِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنم-بِطُونَهُ و مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْکُمْ وَرَحْمَتُهُ و لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَنَ إِلَّا قَلِيلاً»»[27] فالرّد إلي اللَّه الأخذ بمحکم کتابه، والردّ إلي الرسول الأخذ بسنّته الجامعة غير المتفرّقة، «ونحن أهل رسول اللَّه الذين نستنبط المحکم من کتابه، ونميز المتشابه منه، ونعرف الناسخ ممّا نسخ اللَّه ووضع إصره.

فسِر في عدوّک بمثل ما شاهدت منّا في مثلهم من الأعداء، وواتر إلينا الکتب بالأخبار بکلّ حدث يأتِک منّا، أمر عامّ، واللَّه المستعان.

ثمّ انظر في أمر الأحکام بين الناس بنيّة صالحة؛ فإنّ الحکم في إنصاف المظلوم من الظالم والأخذ للضعيف من القويّ وإقامة حدود اللَّه علي سنّتها ومنهاجها ممّا يُصلح عباد اللَّه وبلاده». فاختَر للحکم بين الناس أفضل رعيّتک في نفسک، «وأنفسهم للعلم والحلم والورع والسخاء»، ممّن لا تضيق به الاُمور، ولا تُمحِکه[28] الخصوم، ولا يتمادي في إثبات الزلّة، ولا يحصر من الفي ء إلي الحقّ إذا عرفه، ولا تشرف نفسه علي طمع، ولا يکتفي بأدني فهم دون أقصاه، وأوقَفهم في الشبهات، وآخذهم بالحجج، وأقلّهم تبرّماً بمراجعة الخصوم، وأصبرهم علي تکشّف الاُمور، وأصرمهم عند اتّضاح الحکم، ممّن لا يزدهيه إطراء، ولا يستميله إغراق، ولا يصغي[29] للتبليغ؛ فولّ قضاءک من کان کذلک، وهم قليل.

[صفحه 64]

ثمّ أکثر تعهّد قضائه، وافتح له في البذل ما يزيح علّته، ويستعين به، وتقلّ معه حاجته إلي الناس، وأعطِه من المنزلة لديک ما لا يطمع فيه غيره من خاصّتک؛ ليأمن بذلک اغتيال الرجال إيّاه عندک. «وأحسن توقيره في صحبتک، وقربه في مجلسک، وأمضِ قضاءه، وأنفِذ حکمه، واشدد عضده، واجعل أعوانه خيار من ترضي من نظرائه من الفقهاء وأهل الورع والنصيحة للَّه ولعباد اللَّه؛ ليناظرهم فيما شبه عليه، ويلطف عليهم لعلم ما غاب عنه، ويکونون شهداء علي قضائه بين الناس إن شاء اللَّه.

ثمّ حملة الأخبار لأطرافک قضاة تجتهد فيهم نفسه، لا يختلفون ولا يتدابرون في حکم اللَّه وسنّة رسول اللَّه صلي الله عليه و آله؛ فإنّ الاختلاف في الحکم إضاعة للعدل، وغِرة في الدين، وسبب من الفرقة. وقد بيّن اللَّه ما يأتون وما ينفقون، وأمر بردّ ما لا يعلمون إلي من استودعه اللَّه علمَ کتابه، واستحفظه الحکم فيه، فإنّما اختلاف القضاة في دخول البغي بينهم، واکتفاء کل امرئ منهم برأيه دون من فرض اللَّه ولايته ليس يصلح الدين ولا أهل الدين علي ذلک.

ولکن علي الحاکم أن يحکم بما عنده من الأثر والسنّة، فإذا أعياه ذلک ردّ الحکم إلي أهله، فإن غاب أهله عنه ناظَر غيره من فقهاء المسلمين؛ ليس له ترک ذلک إلي غيره، وليس لقاضيين من أهل الملّة أن يُقيما علي اختلاف في الحکم نما رفع ذلک إلي وليّ الأمر فيکم، فيکون هو الحاکم بما علّمه اللَّه، ثمّ يجتمعان علي حکمه فيما وافقهما أو خالفهما». فانظر في ذلک نظراً بليغاً، فإنّ هذا الدين قد کان أسيراً بأيدي الأشرار، يُعمل فيه بالهوي، وتطلب به الدنيا.

«واکتب إلي قضاة بلدانک فليرفعوا إليک کلّ حکم اختلفوا فيه علي حقوقه، ثمّ تصفّح تلک الأحکام؛ فما وافق کتاب اللَّه وسنّة نبيّه والأثر من إمامک فأمضِه

[صفحه 65]

واحملهم عليه، وما اشتبه عليک فاجمع له الفقهاء بحضرتک فناظرهم فيه، ثمّ أمضِ ما يجتمع عليه أقاويل الفقهاء بحضرتک من المسلمين، فإنّ کلّ أمر اختلف فيه الرعيّة مردود إلي حکم الإمام، وعلي الإمام الاستعانة باللَّه، والاجتهاد في إقامة الحدود، وجبر الرعيّة علي أمره، ولا قوة إلّا باللَّه».

ثمّ انظر إلي اُمور عمّالک، واستعملهم اختباراً، ولا تولِّهم اُمورک محاباة[30] أثرة؛[31] فإن المحاباة والأثرة جِماع الجور والخيانة، «وإدخال الضرورة علي الناس، وليست تصلح الاُمور بالإدغال، فاصطفِ لولاية أعمالک أهل الورع والعلم والسياسة»، وتوخَّ منهم أهل التجربة والحياء من أهل البيوتات الصالحة والقدم في الاسلام؛ فإنّهم أکرم أخلاقاً، وأصحّ أعراضاً وأقلّ في المطامع إشرافاً، وأبلغ في عواقب الاُمور نظراً من غيرهم، «فليکونوا أعوانک علي ما تقلّدت».

ثمّ أسبغ عليهم «في العمالات، ووسّع عليهم في» الأرزاق؛ فإنّ في ذلک قوّة لهم علي استصلاح أنفسهم، وغني عن تناول ما تحت أيديهم، وحجّة عليهم إن خالفوا أمرک، أو ثلموا أمانتک. ثمّ تفقّد أعمالهم، وابعث العيون عليهم من أهل الصدق والوفاء؛ فإنّ تعهّدک في السرّ اُمورهم حدوة لهم علي استعمال الأمانة والرفق بالرعيّة.

وتحفّظ من الأعوان؛ فإن أحد منهم بسط يده إلي خيانة اجتمعت بها أخبار عيونک اکتفيتَ بذلک شاهداً، فبسطتَ عليه العقوبة في بدنه، وأخذته بما أصاب من عمله، ثمّ نصبته بمقام المذلّة فوسمته بالخيانة، وقلّدته عار التهمة.

[صفحه 66]

وتفقّد ما يُصلح أهل الخراج؛ فإنّ في صلاحه وصلاحهم صلاحاً لمن سواهم، ولا صلاح لمن سواهم إلّا بهم؛ لأنّ الناس کلّهم عيال علي الخراج وأهله. فليکن نظرک في عمارة الأرض أبلغ من نظرک في استجلاب الخراج؛ فإنّ الجلب لا يدرک إلّا بالعمارة، ومن طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد، وأهلک العباد، ولم يستقِم له أمره إلّا قليلاً.

«فاجمع إليک أهل الخراج من کلّ بلدانک، ومُرهم فليُعلموک حال بلادهم وما فيه صلاحهم ورخاء جبايتهم، ثمّ سَل عمّا يرفع إليک أهل العلم به من غيرهم»؛ فإن کانوا شکوا ثقلاً أو علّة من انقطاع شرب أو إحالة أرض اغتمرها غرق أو أجحف بهم العطش أو آفة خفّفتَ عنهم ما ترجو أن يصلح اللَّه به أمرهم، «وإن سألوا معونة علي إصلاح ما يقدرون عليه بأموالهم فاکفهِم مؤونته؛ فإنّ في عاقبة کفايتک إيّاهم صلاحاً، فلا يثقلنّ عليک شي ء خفّفت به عنهم المؤونات»؛ فإنّه ذخر يعودون به عليک لعمارة بلادک، وتزيين ولايتک، «مع اقتنائک مودّتهم وحسن نيّاتهم، واستفاضة الخير، وما يسهّل اللَّه به من جلبهم، فإنّ الخراج لا يُستخرج بالکدّ والأتعاب، مع أنّها عقد[32] تعتمد عليها إن حدثَ حدثٌ کنتَ عليهم معتمداً»؛ لفضل قوّتهم بما ذخرت عنهم من الجَمام،[33] والثقة منهم بما عوّدتهم من عدلک ورفقک، ومعرفتهم بعذرک فيما حدث من الأمر الذي اتّکلت به عليهم، فاحتملوه بطيب أنفسهم، فإنّ العمران محتمل ما حمّلته، وإنّما يؤتي خراب الأرض لإعواز أهلها، وإنّما يعوز أهلها لإسراف الولاة وسوء ظنّهم بالبقاء وقلّة انتفاعهم بالعبر.

[صفحه 67]

«فاعمل فيما وليت عمل من يحبّ أن يدّخر حسن الثناء من الرعيّة، والمثوبة من اللَّه، والرضا من الإمام. ولا قوّة إلّا باللَّه».

ثمّ انظر في حال کتّابک «فاعرف حال کل امرئ منهم فيما يحتاج إليه منهم، فاجعل لهم منازل ورتباً»، فولّ علي اُمورک خيرهم، واخصص رسائلک التي تُدخل فيها مکيدتک وأسرارک بأجمعهم لوجوه صالح الأدب، «ممّن يصلح للمناظرة في جلائل الاُمور، من ذوي الرأي والنصيحة والذهن، أطواهم عنک لمکنون الأسرار کشحاً»، ممّن لا تُبطره الکرامة، «ولا تمحق به الدالّة»[34] فيجترئ بها عليک في خلاء، أو يلتمس إظهارها في ملاء، ولا تقصر به الغفلة عن إيراد کتب الأطراف عليک، وإصدار جواباتک علي الصواب عنک، وفيما يأخذ ويعطي منک، ولا يضعف عقداً اعتقده لک، ولا يعجز عن إطلاق ما عقد عليک، ولا يجهل مبلغ قدر نفسه في الاُمور؛ فإنّ الجاهل بقدر نفسه يکون بقدر غيره أجهل.

«وولّ ما دون ذلک من رسائلک وجماعات کُتب خَرجِک ودواوين جنودک قوماً تجتهد نفسک في اختيارهم؛ فإنّها رؤوس أمرک، أجمعها لنفعک، وأعمّها لنفع رعيّتک».

ثمّ لا يکن اختيارک إيّاهم علي فراستک واستنامتک[35] وحسن الظنّ بهم، فإنّ الرجال يعرفون فراسات الولاة بتصنّعهم وخدمتهم وليس وراء ذلک من النصيحة والأمانة، ولکن اختبرهم بما ولوا للصالحين قبلک، فاعمد لأحسنهم کان في

[صفحه 68]

العامّة أثراً وأعرفهم فيها بالنبل والأمانة، فإنّ ذلک دليل علي نصيحتک للَّه ولمن وليت أمره. «ثمّ مُرهم بحسن الولاية، ولين الکلمة». واجعل لرأس کلّ أمر من اُمورک رأساً منهم، لا يقهره کبيرها، ولا يتشتّت عليه کثيرها.

«ثمّ تفقّد ما غاب عنک من حالاتهم، واُمور من يرد عليک رسله، وذوي الحاجة وکيف ولايتهم وقبولهم وليّهم وحجّتهم؛ فإنّ التبرّم والعزّ والنخوة من کثير من الکُتّاب إلّا من عصم اللَّه، وليس للناس بدّ من طلب حاجاتهم». ومهما کان في کتابک من عيب فتغابيت عنه اُلزمته، أو فضل نُسب إليک، مع مالک عند اللَّه في ذلک من حسن الثواب.

ثمّ التجّار وذوي الصناعات فاستوصِ وأوصِ بهم خيراً؛ المقيم منهم، والمضطرب[36] بماله، والمترفّق بيده؛ فإنّهم موادّ للمنافع، وجلّابها في البلاد في برّک وبحرک وسهلک وجبلک، وحيث لا يلتئم الناس لمواضعها ولا يجترئون عليها «من بلاد أعدائک من أهل الصناعات التي أجري اللَّه الرفق منها علي أيديهم فاحفظ حرمتهم، وآمن سبلهم، وخُذ لهم بحقوقهم»؛ فإنّهم سلم لا تُخاف بائقته، وصلح لا تُحذر غائلته، «أحبّ الاُمور إليهم أجمعها للأمن وأجمعها للسلطان»، فتفقّد اُمورهم بحضرتک، وفي حواشي بلادک.

واعلم مع ذلک أنّ في کثير منهم ضيقاً فاحشاً، وشحّاً قبيحاً، واحتکاراً للمنافع، وتحکّماً في البياعات، وذلک باب مضرّة للعامّة، وعيب علي الولاة؛ فامنع الاحتکار فإن رسول اللَّه صلي الله عليه و آله نهي عنه.

وليکن البيع والشراء بيعاً سمحاً، بموازين عدل، وأسعار لا تجحف بالفريقين

[صفحه 69]

من البائع والمبتاع، فمن قارف حُکرة بعد نهيک فنکّل وعاقب في غير إسراف؛ «فإنّ رسول اللَّه صلي الله عليه و آله فعل ذلک».

ثمّ اللَّه اللَّه في الطبقة السفلي من الذين لا حيلة لهم، والمساکين، والمحتاجين، وذوي البؤس، والزمني؛[37] فإنّ في هذه الطبقة قانعاً ومعترّاً، فاحفظ اللَّه ما استحفظک من حقّه فيها، واجعل لهم قسماً من غلّات صوافي الإسلام في کلّ بلد، فإنّ للأقصي منهم مثل الذي للأدني، وکلّاً قد استُرعيت حقّه، فلا يشغلنّک عنهم نظر؛ فإنّک لا تُعذر بتضييع الصغير لإحکامک الکثير المهمّ، فلا تُشخص همّک عنهم، ولا تُصعّر خدک لهم، «وتواضع للَّه يرفعک اللَّه، واخفض جناحک للضعفاء، واربهم إلي ذلک منک حاجة»، وتفقّد من اُمورهم ما لا يصل إليک منهم ممّن تقتحمه العيون وتحقره الرجال، ففرِّغ لاُولئک ثقتک من أهل الخشية والتواضع فليرفع إليک اُمورهم، ثمّ اعمل فيهم بالإعذار إلي اللَّه يوم تلقاه، فإنّ هؤلاء أحوج إلي الإنصاف من غيرهم، وکلّ فأعذر إلي اللَّه في تأدية حقّه إليه. وتعهّد أهل اليُتم والزمانة والرقّة في السنّ ممّن لا حيلة له، ولا ينصب للمسألة نفسه؛ «فأجرِ لهم أرزاقاً، فإنّهم عباد اللَّه، فتقرّب إلي اللَّه بتخلّصهم ووضعهم مواضعهم في أقواتهم وحقوقهم، فإنّ الأعمال تخلص بصدق النيّات. ثمّ إنّه لا تسکن نفوس الناس أو بعضهم إلي أنّک قد قضيت حقوقهم بظهر الغيب دون مشافهتک بالحاجات»، وذلک علي الولاة ثقيل، والحقّ کلّه ثقيل، وقد يخفّفه اللَّه علي أقوام طلبوا العاقبة فصبّروا نفوسهم، ووثقوا بصدق موعود اللَّه «لمن صبر واحتسب، فکن منهم واستعن باللَّه».

[صفحه 70]

واجعل لذوي الحاجات منک قسماً تفرغ لهم فيه شخصک «وذهنک من کلّ شغل، ثمّ تأذن لهم عليک»، وتجلس لهم مجلساً تتواضع فيه للَّه الذي رفعک، وتُقعد عنهم جندک وأعوانک من أحراسک وشرطک، «تخفض لهم في مجلسک ذلک جناحک، وتُلين لهم کنفک في مراجعتک ووجهک»؛ حتي يکلّمک متکلّمهم غير مُتعتع، فإنّي سمعت رسول اللَّه صلي الله عليه و آله يقول في غير موطن: لن تقدّس اُمّة لا يؤخذ للضعيف فيها حقّه من القويّ غير متعتع.

ثمّ احتمل الخرق منهم والعيّ، ونحِّ عنک الضيق والأنف يبسط اللَّه عليک أکناف رحمته، ويوجب لک ثواب أهل طاعته، فأعطِ ما أعطيت هنيئاً، وامنع في إجمال وإعذار، «وتواضع هناک؛ فإنّ اللَّه يحبّ المتواضعين. وليکن أکرم أعوانک عليک ألينهم جانباً، وأحسنهم مراجعة، وألطفهم بالضعفاء، إن شاء اللَّه».

ثمّ إنّ اُموراً من اُمورک لابدّ لک من مباشرتها؛ منها: إجابة عمّالک ما يَعيي عنه کتّابک. ومنها: إصدار حاجات الناس في قصصهم. «ومنها: معرفة ما يصل إلي الکتّاب والخزّان ممّا تحت أيديهم ، فلا تتوانَ فيما هنالک، ولا تغتنم تأخيره، واجعل لکلّ أمر منها من يناظر فيه ولاته بتفريغ لقلبک وهمّک، فکلّما أمضيت أمراً فأمضِه بعد التروية ومراجعة نفسک، ومشاورة وليّ ذلک بغير احتشام، ولا رأي يکسب به عليک نقيضه».

ثمّ أمضِ لکلّ يوم عمله؛ فإن لکلّ يوم ما فيه. واجعل لنفسک فيما بينک وبين اللَّه أفضل تلک المواقيت، وأجزل تلک الأقسام، وإن کانت کلّها للَّه إذا صحّت فيها النيّة وسلمت منها الرعيّة.

وليکن في خاصّ ما تخلص للَّه به دينک إقامة فرائضه التي هي له خاصّة، فأعطِ اللَّه من بدنک في ليلک ونهارک ما يجبّ؛ «فإنّ اللَّه جعل النافلة لنبيّه خاصّة

[صفحه 71]

دون خلقه فقال: «وَ مِنَ الَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ ي نَافِلَةً لَّکَ عَسَي أَن يَبْعَثَکَ رَبُّکَ مَقَامًا مَّحْمُودًا»،[38] فذلک أمر اختصّ اللَّه به نبيّه وأکرمه به، ليس لأحد سواه، وهو لمن سواه تطوّع؛ فإنّه يقول: «وَ مَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاکِرٌ عَلِيمٌ»»،[39] فوفّر ما تقرّبت به إلي اللَّه وکرمه وأدِّ فرائضه إلي اللَّه کاملاً غير مثلوب ولا منقوص، بالغاً ذلک من بدنک ما بلغ.

فإذا قُمت في صلاتک بالناس فلا تُطوِّلنّ ولا تکوننّ منفّراً ولا مضيّعاً؛ فإنّ في الناس من به العلّة وله الحاجة، وقد سألت رسول اللَّه صلي الله عليه و آله حين وجّهني إلي اليمن: کيف نصلّي بهم؟ فقال: صلّ بهم کصلاة أضعفهم وکن بالمؤمنين رحيماً.

وبعد هذا فلا تطولنّ احتجابک عن رعيّتک؛ فإنّ احتجاب الولاة عن الرعية شعبة من الضيق، وقلّة علم بالاُمور، والاحتجاب يقطع عنهم علم ما احتجبوا دونه، فيصغر عندهم الکبير، ويعظم الصغير، ويقبح الحسن، ويحسن القبيح، ويُشاب الحقّ بالباطل، وإنّما الوالي بشر لا يعرف ما تواري عنه الناس به من الاُمور، وليست علي القول سمات يعرف بها الصدق من الکذب، فتحصّن من الإدخال في الحقوق بلين الحجاب؛ فإنّما أنت أحد رجلين: إمّا امرء سخت نفسک بالبذل في الحقّ ففيم احتجابک من واجب حقّ تعطيه، أو خلق کريم تسديه؟ وإمّا مبتلي بالمنع فما أسرع کفّ الناس عن مسألتک إذا أيسوا من بذلک، مع أنّ أکثر حاجات الناس إليک مالا مؤونة عليک فيه؛ من شکاية مظلمة، أو طلب إنصاف. «فانتفع بما وصفتُ لک، واقتصر فيه علي حظّک ورشدک، إن شاء اللَّه».

ثمّ إنّ للملوک خاصّة وبِطانة فيهم استئثار وتطاول، وقلّة إنصاف، فاحسم

[صفحه 72]

مادّة أولئک بقطع أسباب تلک الأشياء، ولا تقطعنّ لأحد من حشمک ولاحامّتک[40] قطيعة، ولا تعتمدنّ في اعتقاد عقدة تضرّ بمن يليها من الناس؛ في شرب، أو عمل مشترک يحملون مؤونتهم علي غيرهم، فيکون مَهنأ ذلک لهم دونک، وعيبه عليک في الدنيا والآخرة.

«عليک بالعدل في حکمک إذا انتهت الاُمور إليک»، وألزم الحقّ من لزمه من القريب والبعيد، وکن في ذلک صابراً محتسباً، وافعل ذلک بقرابتک حيث وقع، وابتغِ عاقبته بما يثقل عليه منه؛ فإنّ مغبّة ذلک محمودة. وإن ظنّت الرعيّة بک حيفاً فأصحِر[41] لهم بعذرک، واعدل عنک ظنونهم بإصحارک؛ فإنّ في تلک رياضة منک لنفسک، ورفقاً منک برعيّتک، وإعذاراً تبلغ فيه حاجتک من تقويمهم علي الحقّ في خفض وإجمال.

لا تدفعنّ صلحاً دعاک إليه عدوّک فيه رضي؛ فإنّ في الصلح دعة[42] لجنودک، وراحة من همومک، وأمناً لبلادک. ولکنّ الحذر کلّ الحذر من مقاربة عدوّک في طلب الصلح؛ فإنّ العدوّ ربما قارب ليتغفّل، فخُذ بالحزم، «وتحصّن کلّ مخوف تؤتي منه، وباللَّه الثقة في جميع الاُمور».

وإن لجّت بينک وبين عدوّک قضيّة عقدت له بها صلحاً أو ألبسته منک ذمّة فحُط عهدک بالوفاء، وارعَ ذمّتک بالأمانة، واجعل نفسک جُنّة دونه؛ فإنّه ليس شي ء من فرائض اللَّه جلّ وعزّ الناس أشدّ عليه اجتماعاً في تفريق أهوائهم

[صفحه 73]

وتشتيت أديانهم من تعظيم الوفاء بالعهود، وقد لزم ذلک المشرکون فيما بينهم دون المسلمين لما استَوبَلوا[43] من الغدر والختر، فلا تغدرنّ بذمّتک، ولا تخفر[44] بعهدک، ولا تختلنّ[45] عدوّک، فإنّه لا يجترئ علي اللَّه إلّا جاهل، وقد جعل اللَّه عهده وذمّته أمناً أفضاه بين العباد برحمته، وحريماً يسکنون إلي مَنَعته، ويستفيضون به إلي جواره، فلا خداع ولا مدالسة ولا إدغال فيه.[46] فلا يدعونّک ضيق أمر لزمک فيه عهد اللَّه علي طلب انفساخه، فإنّ صبرک علي ضيق ترجو انفراجه وفضل عاقبته خيرٌ من غدر تخاف تبعته، وأن تحيط بک من اللَّه طلبة، ولا تستقيل فيها دنياک ولا آخرتک.

وإيّاک والدماء وسفکها بغير حلّها؛ فإنّه ليس شي ء أدعي لنقمة ولا أعظم لتبعة ولا أحري لزوال نعمة وانقطاع مدّة من سفک الدماء بغير الحقّ، واللَّه مبتدئ بالحکم بين العباد فيما يتسافکون من الدماء، فلا تصوننّ سلطانک بسفک دم حرام، فإنّ ذلک يخلقه[47] ويزيله، «فإيّاک والتعرّض لسخط اللَّه؛ فإنّ اللَّه قد جعل لوليّ من قُتل مظلوماً سلطاناً، قال اللَّه: «وَ مَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ ي سُلْطَنًا فَلَا يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ و کَانَ مَنصُورًا»».[48] .

[صفحه 74]

ولا عذر لک عند اللَّه ولا عندي في قتل العمد، لأنّ فيه قود البدن، فإن ابتليت بخطأ وأفرط عليه سوطک أو يدک لعقوبة فإنّ في الوکزة فما فوقها مقتلة، فلا تطمحنّ[49] بک نخوة[50] سلطانک عن أن تؤدّي إلي أهل المقتول حقّهم؛ «ديّة مسلّمة يتقرّب بها إلي اللَّه زلفي».

إيّاک والإعجاب بنفسک، والثقة بما يعجبک منها، وحبّ الإطراء؛ فإن ذلک من أوثق فرص الشيطان في نفسه ليمحق ما يکون من إحسان المحسن.

إيّاک والمنّ علي رعيّتک بإحسان، أو التزيّد فيما کان من فعلک، أو تعِدهم فتتبع موعدک بخُلفک، «أو التسرّع إلي الرعيّة بلسانک»؛ فإنّ المنّ يُبطل الإحسان، والخُلف يوجب المَقت، وقد قال اللَّه جلّ ثناؤه: «کَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لَا تَفْعَلُونَ».[51] .

إيّاک والعجلة بالاُمور قبل أوانها، والتساقط فيها عند زمانها، واللجاجة فيها إذا تنکّرت، والوهن فيها إذا أوضحت، فضع کلّ أمر موضعه، وأوقع کلّ عمل موقعه.

وإيّاک والاستئثار بما للناس فيه الاُسوة،[52] «والاعتراض فيما يعنيک»، والتغابي عمّا يعني به ممّا قد وضح لعيون الناظرين؛ فإنّه مأخوذ منک لغيرک. وعمّا قليل تُکشف عنک أغطية الاُمور، ويبرز الجبّار بعظمته، فينتصف

[صفحه 75]

المظلومون من الظالمين. ثمّ املک حميّة أنفک، وسورة[53] حِدّتک،[54] وسطوة يدک، وغرب لسانک. واحترس کلّ ذلک بکفّ البادرة، وتأخير السطوة. وارفع بصرک إلي السماء عندما يحضرک منه، حتي يسکن غضبک، فتملک الاختيار، ولن تحکم ذلک من نفسک حتي تُکثِر همومک بذکر المعاد.

«ثمّ اعلم أنّه قد جمع ما في هذا العهد من صنوف ما لم آلک فيه رشداً إن أحبّ اللَّه إرشادک وتوفيقک أن تتذکّر ما کان من کلّ ما شاهدت منّا، فتکون ولايتک هذه» من حکومة عادلة، أو سنّة فاضلة، أو أثر عن نبيّک صلي الله عليه و آله، أو فريضة في کتاب اللَّه، فتقتدي بما شاهدت مما عملنا به منها، وتجتهد نفسک في اتّباع ما عهدت إليک في عهدي، واستوثقت من الحجّة لنفسي لکيلا تکون لک علّة عند تسرّع نفسک إلي هواها. «فليس يعصم من السوء ولا يوفّق للخير إلّا اللَّه جلّ ثناؤه.

وقد کان ممّا عهد إليّ رسول اللَّه صلي الله عليه و آله في وصايته تحضيضاً علي الصلاة والزکاة وما ملکت أيمانکم، فبذلک أختم لک ما عهدت، ولا حول ولا قوّة إلّا باللَّه العليّ العظيم».

وأنا أسأل اللَّه سعة رحمته، وعظيم مواهبه وقدرته علي إعطاء کلّ رغبة أن يوفّقني وإيّاک لما فيه رضاه؛ من الإقامة علي العذر الواضح إليه وإلي خلقه، مع حسن الثناء في العباد، وحسن الأثر في البلاد، وتمام النعمة، وتضعيف الکرامة، وأن يختم لي ولک بالسعادة والشهادة، وإنّا إليه راغبون. والسلام علي رسول اللَّه

[صفحه 76]

وعلي آله الطيّبين الطاهرين، وسلّم کثيراً.[55] .



صفحه 55، 56، 57، 58، 59، 60، 61، 62، 63، 64، 65، 66، 67، 68، 69، 70، 71، 72، 73، 74، 75، 76.





  1. جاء عهد الإمام عليه السلام إلي مالک الأشتر في نهج البلاغة وتحف العقول ودعائم الإسلام- تحت عنوان آخر-. وبما أنّ متن تحف العقول أتمّ وأکثر تناسقاً فلذا رجّحناه علي المصدرين الآخرين وقد ميّزنا زيادته بوضع الأقواس«».
  2. کما في نهج البلاغة، وفي المصدر: «تفرط».
  3. البَجَح: الفَرَح، وتبجّح به: فخر، وفلان يتبجّح: أي يفتخر ويباهي بشي ء ما، وقد بَجِح يَبجحَ (لسان العرب: 405:2 و ص 406).
  4. البادِرَة: الحِدّة، وهو ما يَبدر من حِدّةِ الرجل عند غضبه من قول أو فعل (لسان العرب: 48:4).
  5. لي عن هذا الأمر مَندوحة: أي مُتّسعٌ (لسان العرب: 613:2).
  6. أدغلَ في الأمر: أدخل فيه ما يُفسِده ويخالفه (لسان العرب: 244:11).
  7. النَّهک: التنقّص (لسان العرب: 499:10).
  8. طامَنَ ظهره: إذا حني ظهره (لسان العرب: 268:13) والمراد يُخفض ويسکن.
  9. الطِّماح: مثل الجِماحِ، والطَّماح: الکبرِ والفخر (لسان العرب: 534:2).
  10. الغَرْب: الحِدّة (لسان العرب: 641:1).
  11. أعزب عنه حلمه وعزب: ذهب (لسان العرب: 596:1).
  12. الإلحاف: شدّة الإلحاح في المسألة (لسان العرب: 314:9).
  13. وَضَح الشي ء يَضِحُ: بان (لسان العرب: 634:2).
  14. کذا في المصدر، وفي نهج البلاغة: «فإنّ البخل والجبن» وهو الأنسب.
  15. بِطانة الرجل: خاصّته، وصاحبُ سِرِّه وداخِلة أمره الذي يشاوِره في أحواله (لسان العرب: 55:13).
  16. الدَّغَل: الفساد (لسان العرب: 244:11).
  17. المُثافِن: المواظِب، ويقال: ثافَنتُ فلاناً إذا حابَبته تحادِثُه وتلازِمه وتکَلّمه (لسان العرب: 79:12).
  18. في المصدر: «طبقة»، والصحيح ما أثبتناه کما في نهج البلاغة.
  19. الرِّفد: العطاء والصِّلة (لسان العرب: 181:3).
  20. النَّبْو: العلوّ والارتفاع (لسان العرب: 302:15) أي يشتدّ ويعلو عليهم ليکفّ أيديهم عن الظلم.
  21. أي لا تعد ما قوّيتم به عظيماً (بحارالأنوار: 604:33).
  22. الخوالف: الذين لا يغزون (لسان العرب: 86:9).
  23. العَين: الذي يُبعث ليتَجسّس الخبرَ (لسان العرب: 301:13).
  24. خَلَفتُ الرجلَ في أهله: إذا أقمتَ بعده فيهم وقمتَ عنه بما کان يفعله (النهاية: 66:2).
  25. سلس المُهر: إذا انقاد (لسان العرب: 106:6).
  26. النساء: 59.
  27. النساء: 83.
  28. المَحْک: اللَّجاج (لسان العرب: 486:10).
  29. صغا إليه يصغي: مال (لسان العرب: 461:14).
  30. الحِباء: ما يَحبو به الرجل صاحبه ويکرمه به (لسان العرب: 162:14) أي وأن لا يولّيهم محاباة لهم ولمن يشفع فيهم ولا أثَرة ولا إنعاماً عليهم (شرح نهج البلاغة: 69:17).
  31. استأثر فلانٌ بالشي ء: أي استبدّ به، والإسم الأَثَرَة. (الصحاح: 575:2).
  32. العُقدة: کلّ شي ء يستوثق الرجل به لنفسه ويعتمد عليه (لسان العرب: 299:3).
  33. الجَمام: الراحة (لسان العرب: 105:12).
  34. أدَلّ عليه: وثق بمحبّته فأفرط عليه، والاسم الدالّة (لسان العرب: 247:11).
  35. استَنامَ إلي الشي ء: استَأنَس به، واستنامَ فلان إلي فلان: إذا أنسِ به واطمأنّ إليه وسکنَ (لسان العرب: 598:12).
  36. المضطرب بماله: المتردّد به بين البلدان.
  37. الزَّمني: جمع زَمِن، وهو ذو الزمانة، والزمانة: العاهة (لسان العرب: 199:13).
  38. الإسراء: 79.
  39. البقرة: 158.
  40. الحامّة: خاصّة الرجل من أهله وولده وذي قرابته (لسان العرب: 153:12).
  41. أصحرَ بالأمر وأصحرَه: أظهره (تاج العروس: 79:7).
  42. وَدُع الشي ء: سکن واستقرّ وصار إلي الدعة (تاج العروس: 498:11).
  43. الوبال: الوخامة وسوء العاقبة (مجمع البحرين: 1901:3). والمراد: استوخموا من عواقب الغدر والختر.
  44. أخفَره: نقض عهده وخاس به وغدره (لسان العرب: 253:4).
  45. الختل: تخادع عن غفلة (لسان العرب: 199:11).
  46. زاد في نهج البلاغة: ولا تعقِد عقداً تجوّز فيه العلل ولا تعوِّلنّ علي لحن قول بعد التأکيد والتوثقة.
  47. خَلق الشي ءُ وأخلَق: بَليَ، يقال: ثوب خَلَق، ودار خَلَق (لسان العرب: 88:10).
  48. الإسراء: 33.
  49. طَمَحَ به: ذهب به (لسان العرب: 535:2).
  50. النَّخوة: العظمة والکِبر والفخر (لسان العرب: 313:15).
  51. الصفّ: 3.
  52. القوم اُسوة في هذا الأمر: أي حالهم فيه واحدة (لسان العرب: 35:14).
  53. سَورَة السلطان: سطوته واعتداؤه. والسورَة: الوَثبة (لسان العرب: 385:4).
  54. الحِدّة: ما يعتري الإنسان من النزق والغضب (لسان العرب: 141:3).
  55. تحف العقول: 126، نهج البلاغة: الکتاب 53، دعائم الإسلام: 350:1 وذکر أنّ هذا العهد هو ممّا عهد به النبيّ صلي الله عليه و آله لعليّ عليه السلام وکلاهما نحوه، بحارالأنوار: 1:240:77.