بحث حول المتآمرين لاغتيال الإمام عليّ











بحث حول المتآمرين لاغتيال الإمام عليّ



يفهم من النصوص التاريخيّة أنّ الأخبار التي رواها مؤرخو الشيعة والسنّة تشير إلي أنّ الإمام عليّاً عليه السلام اغتيل بمؤامرة نفّذها عدد من بقايا الخوارج.

وتتلخص أخبار المؤرخين الأوائل في هذا المجال: أنّ جماعة من الخوارج اجتمعوا بعد معرکة النهروان في مکّة وأقسموا علي الانتقام لقتلاهم، واستقرّ رأيهم بعد المداولات حول کيفية إيجاد حلّ لمشکلات العالم الإسلامي علي أنّ منشأ الفتنة ثلاثة أشخاص هم: علي عليه السلام، ومعاوية، وعمرو بن العاص. ومادام هؤلاء الثلاثة أحياءً فستبقي الاُمّة الإسلاميّة تعيش حالة من الاضطراب. وهکذا أخذ ثلاثة من اُولئک القوم علي عاتقهم مهمّة اغتيال هؤلاء الثلاثة.

تبنّي عبد الرحمن بن ملجم المرادي مهمّة اغتيال الإمام عليّ عليه السلام، وتبنّي برک بن عبد اللَّه التميمي مهمّة اغتيال معاوية، واُنيطت مهمّة قتل عمرو بن العاص بعمرو بن بکر التميمي.

وعزم هؤلاء الثلاثة علي تنفيذ خطّة القتل في إحدي ليالي شهر رمضان حيث يضطرّ هؤلاء الثلاثة إلي القدوم إلي المسجد- وبناءً علي المشهور لدينا في ليلة

[صفحه 220]

التاسع عشر من رمضان.

فقتل عمرو بن بکر الذي کان مکلّفاً بقتل عمرو بن العاص شخصاً آخر کان قد ذهب إلي الصلاة بدلاً عن ابن العاص في تلک الليلة، وجرح برک بن عبد اللَّه معاوية. أمّا ابن ملجم فقد استطاع تنفيذ مهمّته بتحريض من قطام- وکانت امرأة جميلة- وبمساعدة من وردان بن مجالة وشبيب بن بجرة، وأنهي مهمّة قتل الإمام عليّ عليه السلام.

وهذه الرواية متّفق عليها من قبل جميع المؤرّخين المسلمين تقريباً. وهل کانت القصّة علي هذا المنوال حقّاً، أم أنّ الحقيقة شي ء آخر؟ وهل کان الخوارج- کما جاء في النصوص التاريخيّة- هم المخطّطون الأصليّون لاغتيال الإمام ولم يکن لمعاوية أيّ دور فيه؟ وهل الحکايات التي حکيت حول دور قطام في اغتيال الإمام کانت صحيحة، أم أنّ المخطّط الأصلي لاغتيال الإمام کان معاوية، وکلّ ما جاء في التاريخ عن الفاعلين ليس إلّا تلفيقاً يراد منه تبرئة ساحة معاوية من جريمة اغتيال أميرالمؤمنين؟

يميل بعض المؤرخين المعاصرين إلي تأييد الفرضية، وينکرون أساساً دور الخوارج في عملية الاغتيال هذه.

أشار الدکتور شهيدي إلي هذا الافتراض قائلاً: «لا اُريد القول کما قال المؤرّخ الأباضي المعاصر الشيخ سليمان يوسف بن داود بأنّ الخوارج کانوا أنصار الإمام عليٍّ عليه السلام ولم يشترکوا في قتله، وأنّ قبيلة بني مراد التي ينتمي إليها ابن ملجم لم تکن من الخوارج، وأنّ قصة ابن ملجم ورفيقيه من تلفيق جلاوزة معاوية لإخفاء الحقيقة عن الناس. وقد عرضت بعض الانتقادات علي کتابه هذا في لقاء جمع بيننا في الجزيرة، وکتبتها له في رسالة أيضاً. ولکن لو أنّ أحداً قال

[صفحه 221]

بأنّ مؤامرة شهادة الإمام عليٍّ عليه السلام ليست بالشکل الذي شاع علي الألسن، فإنني لا أستبعد صحّة قوله».[1] .

وبعد نقده لبعض النصوص المتعلّقة بدور قطام في مؤامرة الاغتيال هذه کتب ما يلي: «مجموع هذه التناقضات يؤيد کون هذه القصّة ملفّقة. ويبدو أنّ قصّة قطام قد ابتدعت ورُبطت بقصّة أولئک الثلاثة لکي تتقبلها الأذهان أکثر».[2] .

يبدو أنّ علي الباحث الذي يريد الاقتراب من الحقيقة عند تتبّع واقعة قتل الإمام ومعرفة مسبّبيها أن يبحث في دور الخوارج ومعاوية وقطام في قتل الإمام کلّاً علي حدة:

1- دور الخوارج

دور الخوارج في مؤامرة قتل الإمام عليٍّ عليه السلام من مسلّمات التاريخ الإسلامي ولا يمکن إنکارها. وقد أذعن الخوارج أنفسهم لهذه الحقيقة. فقد نظم عمران بن حطان قصيدة في الثناء علي عمل ابن ملجم جاء فيها:


يا ضربة من تقيٍّ ما أراد بها
إلّا ليبلغ من ذي العرش رضوانا


إنّي لأذکره حيناً فأحسبه
أوفي البريّة عند اللَّه ميزانا[3] .


وقال ابن أبي ميّاس المرادي


ونحن ضربنا يا لک الخيرُ حيدراً
أبا حسن مأمومة فتفطّرا


ونحن خلعنا ملکه من نظامِه
بضربة سيفٍ إذ علا وتجبّرا

[صفحه 222]

ونحن کرام في الصباح أعزّةٌ
إذا الموت بالموت ارتدي وتأزّرا[4] .

لا شکّ في أنّ مثل هذه المسألة لو کانت من اختلاق قُصّاص معاوية لما بقي هذا الموضوع التاريخي المهمّ خافياً عن أذهان المؤرّخين والمحدّثين. ويمکن فهم مدي دورهم في هذه المؤامرة من خلال معرفة هل هم تصرّفوا فيها علي نحو مستقلّ أم کانوا في عملهم القذر هذا أداة بيد معاوية أو جلاوزته؟ وکذلک من خلال النظر إلي کيفيّة تنفيذ المؤامرة. وهذه المسائل تتطلّب التأمّل والتمعّن.

2- دور معاوية لا يوجد من الناحية التاريخيّة سند يمکن أن يعزو بوضوح مؤامرة قتل الإمام إلي معاوية. ولکن توجد ثمّة قرائن لا يمکن للباحث أن ينکر في ضوئها دور معاوية في هذه الواقعة.

لا شکّ في أنّ معاوية کان بصدد قتل الإمام؛ وذلک لأنّه کان يعلم جيّداً بأنّه لن يصل إلي الخلافة طالما بقي عليّ عليه السلام حيّاً، هذا من جهة، ومن جهة اُخري فإنّ قتل الإمام في ساحة المعرکة لم يکن أمراً ميسوراً، بل إنّ تجربة وقعة صفّين أثبتت لو أنّ هذه الحرب تکرّرت مرّةً اُخري لانتهت قطعاً بهزيمة معاوية والقضاء عليه. وعلي هذا فإنّ أفضل السبل لإزاحة الإمام عن الطريق هو اغتياله، وهو عمل سبق له أن جرّبه مع مالک الأشتر الذي يعتبر من أفضل العناصر التي وقفت إلي جانب الإمام.

وکان أنجح اُسلوب لتنفيذ الخطّة هو تنفيذها علي يد أنصار سابقين للإمام؛ أي علي يد بقايا الخوارج الذين دخلوا مؤخّراً في صراع مع الإمام، وکانوا

[صفحه 223]

يفکّرون بالانتقام لقتلاهم. وتوفّرت لديهم الدواعي الکافية للإقدام علي هذا العمل الخطير والخبيث، هذا فضلاً عن عدم إمکانية تتبّع المؤامرة والوصول الي الفاعل الأصلي، ولعلّ هذا هو السبب الذي أدّي إلي عدم وجود أي سند تاريخي يثبت ارتباط هذه القضية بمعاوية. ومن الطبيعي أنّ أمثال هذه القرارات السرّية من قبل الحکومات ليست مما يمکن للمؤرخين الاطّلاع عليه وتثبيته في کتبهم.

إحدي القرائن الاُخري الجديرة بالتأمّل في هذا السياق هو دور الأشعث في هذه الواقعة ؛ فهو لم يکن مؤيّداً للإمام من کلّ قلبه، بل إنّه هدّد الإمام بالقتل، ووصفه الإمام علانية بالنفاق، ولکن بما أنّه کان رئيساً لقبيلة کندة، فإنّ الإمام کان ينتهج معه اُسلوب المداراة؛ لأنّ إبعاده عن الإمام کان يخلق له مشکلة مع تلک القبيلة الکبيرة ويمنعها من الوقوف إلي جانبه.

إنّ دور الأشعث في فرض التحکيم علي الإمام، واختيار أبي موسي للتحکيم وما تبع ذلک من وقائع، ينمّ عن علاقاته الخفية بمعاوية. وعلي هذا الأساس فإنّ علمه المسبق بعملية الاغتيال قبل وقوعها، وعلاقة ابن ملجم به قبل تنفيذ العملية يعدّ مؤشّراً علي وجود يد لدمشق في تلک الحادثة.

نقل ابن أبي الدنيا عن اُستاذه عبد الغفّار أنّه قال: «سمعت غير واحد يذکر أنّ ابن ملجم بات عند الأشعث بن قيس، فلمّا أسحر جعل يقول له: أصبحت».

ونقل الکثير من المؤرّخين أنّ ابن ملجم عندما مرّ بالأشعث عند المسجد قبل الإقدام علي عملية الاغتيال، قال له: «النجاء النجاء لحاجتک فقد فضحک الصبح». ولما سمع حُجر بن عدي مقالته عرف مقصوده، فقال له: «قتلته يا أعور»، وخرج من المسجد من ساعته ليبلغ الإمام بالقضية، ولکنّ الإمام کان قد دخل من باب آخر، وعندما وصل حجر، کان الرجل قد ضرب الإمام!

[صفحه 234]

يمکن لهذه القرائن أن تؤيّد تدخّل دمشق في اغتيال الإمام، ولکن لا بمعني نفي أي دور للخوارج في ذلک الاغتيال، ولکن يعني أنّهم اُقدموا علي هذا العمل تحت تأثير مکائد معاوية ولو عن طريق وسطاء، مثلما يسري هذا الاحتمال علي قضية فرض التحکيم علي الإمام.

الشبهة الوحيدة التي يمکنها الطعن بهذا الرأي هي أنّه لو کانت لمعاوية يد في اغتيال الإمام لما انعکست هذه الخطّة عليه وعلي رفيقه المقرّب عمرو بن العاص.

ويمکن الإجابة عن هذه الشبهة بالقول:

أولاً: يحتمل أنّ الضربة التي أصابت ألية معاوية، کانت- مثل قتل شخص آخر بدلاً من عمرو بن العاص- لعبة سياسية لکي يواجه الحاکم الجديد مشاکل أقلّ مع الناس.

ثانياً: في المؤامرات غير المباشرة التي تحوکها وتنفّذها العناصر المعارضة، کثيراً ما تطال نيران تلک المؤامرات المخطّطين الأصليّين وخاصة في ذلک العصر الذي کانت تنعدم فيه وسائل الاتصال السريع.

3- دور قطام

ذهب المؤرخون إلي الإفراط والتفريط فيما يخصّ دور قطام في مقتل أميرالمؤمنين. فالبعض جعل لها في هذه الحادثة دوراً أساسياً، ولعلّ أول مؤرّخ بالغ في تضخيم دور قطام في مؤامرة القتل، هو ابن أعثم. ونقل کتاب بحارالأنوار عن کتابٍ مجهولٍ هذه القصّة علي صورة رواية غرامية. وعندما وقعت هذه القصة بيد القاص المسيحي جرجي زيدان، جعل لها أغصاناً وفروعاً کثيرة. وفي مقابل ذلک شکّک مؤرخون معاصرون من خلال عرضهم لبعض

[صفحه 225]

إلاشکالات والتناقضات الموجودة في هذه القصّة، في أصل وجود مثل هذه القضية في قتل الإمام عليه السلام.

ويبدو أنّ أصل وجود قطام ودورها في مؤامرة اغتيال الإمام شي ء لا يمکن إنکاره. بيد أنّ الحکايات التي جاءت بهذا الخصوص في فتوح ابن أعثم وفي بحارالأنوار، وفي کتاب جرجي زيدان لا واقع لها.

تتفق مصادر قديمة کالطبقات الکبري (م230)، الإمامة والسياسة (م276)، أنساب الإشراف (م279)، الأخبار الطوال (م282) والکامل للمبرد (م285)، مقاتل الطالبيّين (م 356) علي دور امرأة اسمها قطام قُتل أبوها وأخوها- وفي بعض النصوص عمّها- في معرکة النهروان، ممّا جعلها تحقد علي الإمام وتشارک في مؤامرة اغتياله، وکانت علي صلة بابن ملجم. وعلي هذا لا يمکن إنکار أصل القصّة بهذه البساطة. ولکن يمکن التشکيک في کيفيّتها. وأما ما جاء منها علي شکل رواية ابن اعثم أو کتاب مجهول نقل عنه بحارالأنوار، فهو باطل قطعاً. وربما يمکن القول بأنّ أقرب النصوص إلي الواقع هو النصّ الذي جاء في کتابي أنساب الأشراف والإمامة والسياسة الذي جاء فيه:

«قدم ابن ملجم الکوفة وکتم أمره، وتزوّج امرأة يقال لها: قطام بنت علقمة، وکانت خارجيّة، وکان عليّ قد قتل أخاها في حرب الخوارج، وتزوّجها علي أن يقتل عليّاً فأقام عندها مدّة، فقالت له في بعض الأيّام وهو مختفٍ: لطالما أحببت المکث عند أهلک وأضربت عن الأمر الذي جئت بسببه، فقال: إنّ لي وقتاً واعدت فيه أصحابي ولن اُجاوزه».[5] .

[صفحه 227]



صفحه 220، 221، 222، 223، 234، 225، 227.





  1. علي از زبان علي «عليّ عن لسان عليّ»: 160.
  2. علي از زبان علي «علي عن لسان عليّ»: 162.
  3. شرح نهج البلاغة: 93/5.
  4. تاريخ الطبري: 150/5.
  5. الإمامة والسياسة: 180:1، أنساب الأشراف: 253:3 نحوه.