تابين علي











تابين علي



ولما فرغوا من دفن الإمام (عليه السلام) قام صعصعة بن صوحان يؤبن الإمام بهذه الکلمات، فوقف علي القبر ووضع إحدي يديه علي فؤاده والأخري قد أخذ بها التراب وضرب به رأسه ثم قال: بأبي لأنت وأمي يا أميرالمؤمنين هنيئاً لک يا أباالحسن، فلقد طاب مولدک، وقوي صبرک، وعظم جهادک وظفرت برأيک، وربحت تجارتک، وقدمت علي خالقک فتلقاک ببشارته، وحفتک ملائکته، واستقررت في جوار المصطفي فأکرمک الله بجواره، ولحقت بدرجة أخيک المصطفي وشربت بکأسه الأوفي، فأسأل الله أن يمن علينا باقتفائنا أثرک، والعمل بسيرتک، والموالاة لأوليائک، والمعاداة لأعدائک، وأن يحشرنا في زمرة أوليائک، فقد نلت ما لم ينله أحد، وأدرکت ما لم يدرکه أحد، وجاهدت في سبيل ربک بين يدي أخيک المصطفي حق جهاده، وقمت بدين الله حق القيام حتي أقمت السنن، وأبرت الفتن، واستقام الإسلام وأنتظم الإيمان، فعليک مني أفضل الصلاة والسلام، بک أعتدل ظهر المؤمنين واتضحت أعلام السبل، وأقيمت السنن، وما جمع لأحد مناقبک وخصالک، سبقت إلي إجابة النبي (صلّي الله عليه وآله) مقدماً مؤثراً، وسارعت إلي نصرته، ووقيته بنفسک ورميت سيفک ذا الفقار في مواطن الخوف والحذر، قصم الله بک کل جبار عنيد، وذل بک کل ذي بأس شديد، وهدم بک حصون أهل الشرک والکفر والعدوان والردي، وقتل بک أهل الضلال من العدي، فهنيئاً لک يا أميرالمؤمنين کنت أقرب الناس من رسول الله قربي وأولهم سلماً وأکثرهم علماً وفهماً.

فهنيئاً لک يا أباالحسن، لقد شرف الله مقامک، وکنت أقرب الناس إلي رسول الله (صلّي الله عليه وآله) نسباً، وأولهم إسلاماً وأوفاهم يقيناً، وأشدهم قلباً، وأبذلهم لنفسه مجاهداً، وأعظمهم في الخير نصيباً، فلا حرمنا الله أجرک، ولا ذلنا بعدک، فوالله لقد کانت حياتک مفاتيح للخير ومغالق للشر، وإن يومک هذا مفتاح کل شر ومغلاق کل خير، ولو أن الناس قبلوا منک لأکلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم، ولکنهم آثروا الدنيا علي الآخرة.

ذکر ابن أبي الحديد أن صعصعة بن صوحان العبدي رثا أميرالمؤمنين علياً بهذه الأبيات:


ألا، من لي بأنسک يا أخيا
ومن لي أن أبثک ما لديا؟


طوتک خطوب دهر قد تولي
لذاک خطوبه نشراً وطيا


فلو نشرت قواک لي المنايا
شکوت إليک ما صنعت إليا


بکيتک يا علي بدرّ عيني
فلم يغن البکاء عليک شيا


کفي حزناً بدفنک ثم إني
نفضت تراب قبرک من يديا


وکانت في حياتک لي عظاة
وأنت اليوم أوعظ منک حيا


فيا أسفي عليک وطول شوقي
ألا لو أن ذلک رد شيا


ثم بکي بکاءً شديداً وأبکي کل من کان معه، وعدلوا إلي الحسن والحسين ومحمد وجعفر والعباس ويحيي وعون وعبدالله، فعزوهم في أبيهم وانصرف الناس ورجع أولاد أميرالمؤمنين إلي الکوفة ولم يشعر بهم أحد:


قم ناشد الإسلام عن مصابه
أصيب بالنبي أم کتابه


بلي قضي نفس النبي المصطفي
وأدرج الليلة في أثوابه


فاصفر وجه الدين لاصفراره
وخضب الإيمان لختضابه


قتلتم الصلاة في محرابها
يا قاتليه وهو في محرابه


ثم عمدوا إلي عبدالرحمن بن ملجم فقتلوه، وهجم الناس علي قطام وقطعوها بالسيوف ونهبوا دارها وأحرقوا جثتها وجثة أبن ملجم.

في ناسخ التواريخ لما توفي أميرالمؤمنين (عليه السلام) وقتل أبن ملجم، خرج أبن عباس إلي الناس فقال: إن أميرالمؤمنين توفي، وقد ترک لکم خلفاً، فإن أحببتم خرج إليکم، وإن کرهتم فلا أحد علي أحد، فبکي الناس وقالوا: بل يخرج إلينا.

فخرج الإمام الحسن وعليه ثوب أسود، واعتلي المنبر، فحمد الله وأثني عليه ثم قال: لقد قبض في هذه الليلة رجل لم يسبقه الأولون بعمل، ولم يدرکه الآخرون بعمل، لقد کان يجاهد مع رسول الله فيقيه بنفسه، وکان رسول الله يوجهه برايته، فيکفيه جبرائيل عن يمينه وميکائيل عن شماله ولا يرجع حتي يفتح الله علي يديه.

ولقد توفي في الليلة التي نزل فيها القرآن، وعرج فيها بعيسي بن مريم، والتي قبض فيها يوشع بن نون وصي موسي، وما خلف صفراء ولا بيضاء إلا سبعمائة درهم فضلت من عطيته أراد أن يبتاع بها خادماً لأهله ثم خنقته العبرة فبکي وبکي الناس..