علي يفارق الحياة











علي يفارق الحياة



بسم الله الرحمن الرحيم

عظم الله أجورکم بمصيبة سيدنا وإمامنا أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب ففي هذه الليلة قضي نحبه وفارق الحياة، وقد انطوت صفحات تلک الحياة المشرقة، واستراح الإمام من أيدي الناس وأفواههم وانتهت أيام مسؤوليته.

فقد جمعوا له أطباء الکوفة ومن جملتهم: أثير بن عمرو بن هاني السکوني فلما نظر إلي جرح رأس الإمام طلب رئة شاة حارة فاستخرج منها عرقاً ثم نفخه ثم استخرجه، وإذا عليه بياض الدماغ کأنه قطن مندوف فقال: يا أميرالمؤمنين اعهد عهدک وأوص وصيتک فإن عدو الله قد وصلت ضربته إلي أم رأسک.

قال محمد بن الحنيفة: لما کانت ليلة إحدي وعشرين جمع أبي أولاده وأهل بيته وودعهم ثم قال لهم: الله خليفتي عليکم، وهو حسبي ونعم الوکيل، وأوصاهم بلزوم الإيمان..

وتزايد ولوج السم في جسده حتي نظرنا إلي قدميه وقد احمرتا جميعاً، فکبر ذلک علينا وأيسنا منه.

ثم عرضنا عليه المأکول والمشروب فأبي أن يشرب، فنظرنا إلي شفتيه يختلجان بذکر الله، ثم نادي أولاده کلهم بأسمائهم واحداً بعد واحد وجعل يودعهم وهم يبکون فقال الحسن: ما دعاک إلي هذا؟ فقال: يا بني إني رأيت جدک رسول الله (صلّي الله عليه وآله) في منامي قبل هذه الکائنة بليلة فشکوت إليه ما أنا فيه من التذلل والأذي من هذه الأمة فقال لي: أدع عليهم فقلت: اللهم أبدلهم بي شراً مني وأبدلني بهم خيراً منهم.

فقال لي رسول الله: قد استجاب الله دعاک، سينقلک إلينا بعد ثلاث.

وقد مضت الثلاث، يا أبامحمد أوصيک ويا أباعبدالله خيراً، فأنتما مني وأنا منکما، ثم ألتفت إلي أولاده الذين من غير فاطمة (عليهاالسلام) وأوصاهم أن لا يخالفوا أولاد فاطمة يعني الحسن والحسين، ثم قال: أحسن الله لکم العزاء، ألا وإني منصرف عنکم وراحل في ليلتي هذه ولاحق بحبيبي محمد (صلّي الله عليه وآله) کما وعدني، فإذا أنا مت يا أبامحمد فغسلني وکفني وحنطني ببقية حنوط جدک رسول الله، فإنه من کافور الجنة جاء به جبرائيل إليه، ثم ضعني علي سريري، ولا يتقدم أحد منکم مقدم السرير، واحملوا مؤخره، واتبعوا مقدمه، فأي موضع وضع المقدم فضعوا المؤخر، فحيث قام سريري فهو موضع قبري، ثم تقدم يا أبامحمد وصل علي يا بني يا حسن وکبر علي سبعاً، واعلم أنه لا يحل ذلک علي أحد غيري إلا علي رجل يخرج في آخر الزمان اسمه: القائم المهدي من ولد أخيک الحسين يقيم اعوجاج الحق.

فإذا أنت صليت علي يا حسن فنح السرير عن موضعه ثم اکشف التراب عنه، فتري قبراً محفوراً، ولحداً مثقوباً وساجة منقوبة، فأضجعني فيها، فإذا أردت الخروج من قبري فتفقدني فإنک لا تجدني وإني لاحق بجدک رسول الله (صلّي الله عليه وآله) وأعلم يا بني: ما من نبي يموت وإن کان مدفوناً بالمشرق ويموت وصيه بالمغرب إلا ويجمع الله عزوجل بين روحيهما وجسديهما، ثم يفترقان فيرجع کل واحد منهما إلي موضع قبره وإلي موضعه الذي حط فيه.

ثم أشرج اللحد باللبن (جمع لبنة) وأهِل التراب عليُّ ثم غيِّب قبري.

وللإمام أميرالمؤمنين (عليه السلام) وصية أخري هي من جلائل وصاياه أوصي بها أولاده في مثل هذه الليلة، روي الصدوق في الفقيه عن سليم بن قيس الهلالي قال: شهدت وصية علي بن أبي طالب (عليه السلام) حين أوصي إلي أبنه الحسن (عليه السلام) وأشهد علي وصيته الحسين (عليه السلام) ومحمد وجميع ولده ورؤساء أهل بيته وشيعته ثم دفع إليه الکتاب والسلاح ثم قال: يا بني أمرني رسول الله (صلّي الله عليه وآله) أن أوصي إليک وأن أدفع إليک کتبي وسلاحي، کما أوصي إلي رسول الله (صلّي الله عليه وآله) ودفع إلي کتبه وسلاحه وأمرني أن آمرک إذا حضرک الموت أن تدفعه إلي أخيک الحسين (عليه السلام) ثم أقبل علي أبنه الحسين فقال: وأمرک رسول الله (صلّي الله عليه وآله) أن تدفعه إلي ابنک علي بن الحسين ثم أقبل إلي إبنه علي بن الحسين (عليه السلام) فقال له: وأمرک رسول الله (صلّي الله عليه وآله) أن تدفع وصيتک إلي ابنک محمد بن علي فأقرأه من رسول الله (صلّي الله عليه وآله) ومني السلام، ثم أقبل علي أبنه الحسن فقال: يا بني أنت ولي الأمر بعدي وولي الدم فإن عفوت فلک، وإن قتلت فضربة مکان ضربة ولا تأثم، ثم قال أکتب: بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما أوصي به أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب: أوصي أنه يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريک له، وأن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالهدي ودين الحق ليظهره علي الدين کله ولو کره المشرکون، ثم إن صلاتي ونسکي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريک له وبذلک أمرت وأنا أول المسلمين.

أوصيکما بتقوي الله وأن لا تبغيا الدنيا وإن بغتکما، ولا تأسفا علي شي ء منها زوي عنکما، وقولا بالحق واعملا للأجر (للآخرة) وکونا للظالم خصماً وللمظلوم عوناً.

أوصيکما وجميع ولدي وأهل بيتي (وأهلي) ومن بلغهم کتابي هذا من المؤمنين بتقوي الله ربکم، ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون، واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا، واذکروا نعمة الله عليکم إذ کنتم أعداء فألف بين قلوبکم (بتقوي الله ونظم أمرکم وصلاح ذات بينکم) فإني سمعت رسول الله (صلّي الله عليه وآله) يقول: صلاح ذات البين أفضل من عامة الصلاة والصيام، وإن البغضة حالقة الدين وفساد ذات البين (وإن المبيرة الحالقة للدين فساد ذات البين) ولا قوة إلا بالله، انظروا ذوي أرحامکم فصلوهم يُهوّن الله عليکم الحساب، والله الله في الأيتام لا تغبوا أفواههم ولا يضيعوا بحضرتکم فإني سمعت رسول الله (صلّي الله عليه وآله) يقول: من عال يتيماً حتي يستغني أوجب الله له الجنة کما أوجب لآکل مال اليتيم النار، والله الله في القرآن فلا يسبقکم إلي العمل به غيرکم، والله الله في جيرانکم فإن الله ورسوله أوصيا بهم (فإنه وصية نبيکم) ما زال يوصي بهم حتي ظننا أنه سيورثهم، والله الله في بيت ربکم فلا يخلون منکم ما بقيتم فإنه إن ترک لم تناظروا، الله الله في الصلاة! فإنها خير العمل وإنها عمود دينکم، الله الله في الزکاة فإنها تطفئ غضب ربکم، الله الله في صيام شهر رمضان فإن صيامه جنة من النار، الله الله في الجهاد في سبيل الله بأموالکم وأنفسکم وألسنتکم فإنما يجاهد في سبيل الله رجلان: إمام هدي ومطيع له مقتد بهداه والله الله في ذرية نبيکم فلا يظلمن بين أظهرکم، والله الله في أصحاب نبيکم الذين لم يحدثوا حدثاً ولم يؤوا محدثاً فإن رسول الله (صلّي الله عليه وآله) أوصي بهم، ولعن المحدث منهم ومن غيرهم، والمؤوي للمحدث، والله الله في الفقراء والمساکين فأشرکوهم في معايشکم، والله الله في النساء وما ملکت أيمانکم فإن آخر ما تکلم به رسول الله (صلّي الله عليه وآله) أن قال: أوصيکم بالضعيفين: نسائکم وما ملکت أيمانکم، ثم قال: الصلاة، الصلاة، الصلاة، ولا تخافن في الله لومة لائم، يکفکم من أرادکم وبغي عليکم، قولوا للناس حسناً کما أمرکم الله عزوجل، ولا تترکوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنکر فيولي عليکم أشرارکم، ثم تدعون فلا يستجاب لکم.

وعليکم بالتواصل والتباذل والتبار وإياکم والتقاطع والتدابر والتفرق، وتعاونوا علي البر والتقوي ولا تعاونوا علي الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب، حفظکم الله من أهل بيت وحفظ فيکم نبيکم، وأستودعکم الله خير مستودع، وأقرأ عليکم السلام ورحمة الله وبرکاته.

يا بني عبدالمطلب: لا ألفينکم تخوضون دماء المسلمين خوضاً، تقولون: قتل أميرالمؤمنين.ألا: لا تقتلن بي إلا قاتلي انظروا إذا أنا مت من ضربته هذه فاضربوه ضربة بضربة ولا يمثل بالرجل فإني سمعت رسول الله (صلّي الله عليه وآله) يقول: إياکم والمثلة ولو بالکلب العقور.

هکذا ينهي الإمام (عليه السلام) أولاده عن إقامة المجازر والمذابح لأجل الطلب بدمه کما کان الأمر في قضايا عثمان، يقول: لا تقتلوا إلا قاتلي.

ينهاهم عن التحقيق عن أصل الفتنة ورجال المؤامرة وأسباب الفساد ويأمرهم بالاکتفاء بالقصاص من القاتل، ثم ينهي عن قطع أعضائه.

ثم عرق جبين الإمام فجعل يمسح العرق بيده فقالت أبنته زينب: يا أبه أراک تمسح جبينک؟ قال: يا بنية سمعت جدک رسول الله (صلّي الله عليه وآله) يقول: إن المؤمن إذا نزل به الموت ودنت وفاته عرق جبينه وصار کاللؤلؤ الرطب، وسکن أنينه.

فقامت زينب وألقت بنفسها علي صدر أبيها وقالت: يا أبه حدثتني أم أيمن بحديث کربلاء وقد أحببت أن أسمعه منک، فقال: يا بنية، الحديث کما حدثتک، أم أيمن، وکأني بک وبنساء أهلک لسبايا بهذا البلد، خاشعين تخافون أن يتخطفکم الناس، فصبراً صبراً..

ثم التفت الإمام إلي ولديه الحسن والحسين وقال: يا أبامحمد ويا أباعبدالله کأني بکما وقدج خرجت عليکما من بعدي الفتن من ههنا وههنا فاصبرا حتي يحکم الله وهو خير الحاکمين يا أباعبدالله أنت شهيد هذه الأمة، فعليک بتقوي الله والصبر علي بلائه.

ثم أغمي عليه وأفاق وقال: هذا رسول الله، وعمي حمزة وأخي جعفر وأصحاب رسول الله، وکلهم يقولون: عجل قدومک علينا فإنا إليک مشتاقون، ثم أدار عينيه في أهل بيته کلهم وقال: أستودعکم الله جميعاً، سددکم الله جميعاً، خليفتي عليکم الله، وکفي بالله خليفة، ثم قال: وعليکم السلام يا رسل ربي، ثم قال: لمثل هذا فليعمل العاملون، (إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون).[1] .

وما زال يذکر الله، ويستشهد الشهادتين، ثم استقبل القبلة، وغمض عينيه ومدد رجليه ويديه وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريک له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ثم قضي نحبه!! فعند ذلک صرخت زينب بنت علي وأم کلثوم وجميع نسائه وقد شققن الجيوب ولطمن الخدود، وارتفعت الصيحة في القصر، فعلم أهل الکوفة أن أميرالمؤمنين قد فارق الحياة، فأقبل النساء والرجال يهرعون أفواجاً، وصاحوا صيحة عظيمة فارتجت الکوفة بأهلها، وکثر البکاء والنحيب والضجيج بالکوفة وقبائلها وجميع أقصارها، فکان ذلک اليوم کاليوم الذي مات فيه رسول الله (صلّي الله عليه وآله) وتغير أفق السماء، وسمع الناس أصواتاً وتسبيحاً في الهواء، واشتغلوا بالنياحة علي الإمام.

ثم قام أولاده لتجهيزه ليلاً، ولما جردوه عن ثيابه، وجدوا علي جسده الشريف آثار ألف جراحة من قرنه إلي قدميه وهي الجراحات التي أصابته في سبيل الله في الحروب، وکان الحسن يغسله والحسين يصب عليه الماء، وکان (عليه السلام) لا يحتاج إلي من يقلبه، بل کان يتقلّب کما يريد الغاسل يميناً وشمالاً، لأن الملائکة کانت تقلّبه وکانت رائحته أطيب من رائحة المسک.

ثم نادي الحسن بأخته زينب وأم کلثوم وقال: يا أختاه هلمي بحنوط جدي رسول الله، فبادرت زينب مسرعة حتي أتته به، فلما فتحته فاحت الدار وجميع الکوفة، ولما حنطوه لفوه بخمسة أثواب ثم وضعوه علي السرير وتقدم الحسن والحسين إلي السرير من مؤخره وإذا مقدمه قد ارتفع، ولا يري حامله، وکان حاملاه جبرائيل وميکائيل، فما مر بشي ء علي وجه الأرض إلا انحني له.

وضجت الکوفة بالبکاء والنحيب، وخرجت النساء خلف الجنازة لاطمات فمنعهن الحسن وردهن إلي أماکنهم، والحسين يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، أنا لله وأنا إليه راجعون، يا أبتاه واإنقطاع ظهراه، من أجلک تعلمت البکاء، إلي الله المشتکي.

أمر الإمام الحسن الناس بالإنصراف، ولم يبق إلا أولاد أميرالمؤمنين وعدد قليل من أخص أصحابه المعتمد عليهم، فابتعدوا عن الکوفة في جوف الليل قاصدين النجف، وإذا بمقدم السرير قد وضع، فوضع الحسن والحسين مؤخر السرير، وقام الحسن وصلي مع جماعة علي أبيه فکبر سبعاً کما أمر أبوه، ثم زحزح السرير، وکشف التراب وإذا بقبر مقبور ولحد مشقوق وساجة منقورة مکتوب عليها: هذا ادخره نوح النبي للعبد الصالح الطاهر بن المطهر.

ولما أرادوا إنزاله إلي القبر سمعوا هاتفاً يقول: أنزلوه إلي التربة الطاهرة فقد اشتاق الحبيب إلي الحبيب، فدهش الناس من سماع الهاتف، وانتهي الدفن قبل الفجر، وأخفوا قبره کما أوصي به، لأنه (عليه السلام) کان يعلم من عداوة الخوارج والأعداء له، فقد روي في منتخب التواريخ أن الحجاج بن يوسف نبش في النجف آلاف القبور يفتش عن جثمان علي (عليه السلام) ولکنه لم يعثر عليه، ولم يزل القبر مخفياً عن الناس لا يعرف به إلا أولاد الإمام وأخصاء الشيعة إلي أيام هارون الرشيد.

قال عبدالله بن حازم: خرجنا يوماً مع الرشيد من الکوفة نتصيد فصرنا إلي ناحية الغري، فرأينا ظبيات، فأرسلنا إليها الصقور والکلاب، فحاولتها ساعة، ثم لجأت الظباء إلي الأکمة فسقطت عليها، فسقطت الصقور والکلاب، فتعجب الرشيد من ذلک ثم أن الظباء هبطت من الأکمة فسقطت الصقور والکلاب فرجعت الظباء إلي الأکمة، فتراجعت عنها الکلاب والصقور ففعلت ذلک ثلاثة، فقال هارون: أرکضوا فمن لقيتموه آتوني به؟ فأتيناه بشيخ من بني أسد، فقال هارون ما هذه الأکمة؟ قال: إن جعلت لي الأمان أخبرتک! قال: لک عهد الله وميثاقه أن لا أهيجک ولا أؤذيک.

قال الشيخ حدثني أبي عن أبيه أنهم کانوا يقولون: هذه الأکمة قبر علي بن أبي طالب (عليه السلام) جعله الله حرماً لا يأوي إليه أحد إلا أمن.

فنزل هارون ودعي بماء فتوضأ وصلي عند الأکمة وتمرغ عليها وجعل يبکي، وأمر ببناء القبة علي القبر، ومن ذلک اليوم لم يزل البناء في تطور وهو الآن صرح بديع متلألئ، وبناء مشيد من قبة ذهبية ومنارتين ذهبيتين، ومشهد عظيم وضريح فخم في داخله صندوق لا يثمن، والبقعة مزينة بهدايا الملوک والسلاطين علي مر القرون، وقد بني المشهد علي أحسن هندسة وأبدع فن معماري وأجمل نقوش يتوصل إليها الفکر البشري.

والمعلقات الموجودة والذخائر المکنونة والهدايا الثمينة لا يمکن تقديرها وتثمينها، ويقصد القبر الشريف ملايين من الناس من شرق الأرض وغربها، وکذلک الوفود والسواح من المسلمين.







  1. سورة النحل، الآية: 128.