علي طريح الفراش











علي طريح الفراش



بسم الله الرحمن الرحيم

أيها الأخوان: في مثل صبيحة هذا اليوم وقعت الحادثة الکبري التي ذکرنا عنها اليسير ليلة أمس، لا يملک القلم واللسان بياناً لشرح الواقعة والدهشة التي استولت علي الناس إثر استماع الصيحة السماوية وانتشار الخبر في الکوفة بأسرع ما يکون، وأقبلت الجماهير تتراکض إلي المسجد (محل الحادثة) حتي المخدرات خرجن من خدورهن، وغص المسجد الجامع بالناس، فلا تري إلا صفق الأيدي علي الرؤوس ولا تسمع إلا أصوات النياحة وصرخات الناس، وقد أزدحم الناس حول الإمام ينظرون إلي ذلک البطل الذي کان يخوض غمار الموت، وکانت الأسود تخاف من باسه واسمه، ينظرون إليه وقد أبيض وجهه من نزف الدم، وصلي الإمام صلاة الصبح من جلوس، ثم قال احملوني إلي منزلي.

فحملوه والناس حوله يبکون وينتحبون، وکان الحسن والحسين أشد الناس بکاء وحزناً، فکان الحسين (عليه السلام) يبکي ويقول: يا أبتاه من لنا بعدک؟ لا يوم کيومک إلا يوم رسول الله، من أجلک تعلمت البکاء، يعز والله علي أن أراک هکذا.

فعزاه الإمام وسلاه، ومسح دموع ولده ووضع يده علي قلب ولده وقال: يا بني ربط الله علي قلبک وأجزل لک ولأخوتک عظيم الأجر.

أقبلت بنات رسول الله وسائر بنات الإمام وجلسن حول فراشه ينظرن إلي أسد الله وهو بتلک الحالة، فصاحت زينب الکبري وأختها: أبتاه من للصغير حتي يکبر؟ ومن للکبير بين الملأ؟ يا أبتاه حزننا عليک طويل، وعبرتنا لا ترقا! فضج الناس من وراء الحجرة بالبکاء والنحيب، وشارکهم الإمام وفاضت عيناه بالدموع.

اجتمع الأطباء والجراحون فوصفوا للإمام اللبن، لأن سيف ابن ملجم کان مسموماً، فکان اللبن طعامه وشرابه، ودعي الإمام بولديه وجعل يقبلهما ويحصنهما لأنه علم أنه سيفارقهما وکان يغمي عليه ساعة بعد ساعة، فناوله الحسن قدحاً من اللبن فشرب منه قليلاً، ثم نحاه عن فمه وقال: احملوه إلي أسيرکم! ثم قال للحسن: يا بني بحقي عليک إلا ما طيبتم مطعمه ومشربه وارفقوا به إلي حين موتي! وتطعمه مما تأکل، وتسقيه مما تشرب حتي تکون أکرم منه!! وکان اللعين ابن ملجم محبوساً في بيت، فحملوا إليه اللبن وأخبروه بعطف الإمام وحنانه علي قاتله، فشرب اللعين اللبن.

قال محمد بن الحنيفة: بتنا ليلة عشرين من شهر رمضان مع أبي وقد نزل السم إلي قدميه، وکان يصلي تلک الليلة من جلوس ولم يزل يوصينا بوصاياه ويعزينا عن نفسه، ويخبرنا بأمره إلي طلوع الفجر، فلما أصبح استأذن الناس عليه، فأذن لهم بالدخول، فدخلوا عليه واقبلوا يسلمون عليه وهو يرد (عليهم السلام) ثم يقول: أيها الناس اسألوني قبل أن تفقدوني، وخففوا سؤالکم لمصيبة إمامکم!! فبکي الناس بکاء شديداً، وأشفقوا أن يسألوه تخفيفاً عنه فقام إليه حجر بن عدي الطائي وقال:


فيا أسفي علي المولي النقي
أبي الأطهار حيدرة الزکي


قتله کافر حنث زنيم
لعين فاسق نغل شقي


إلي آخر أبياته، فلما بصر الإمام وسمع شعره قال له: کيف بک إذا دعيت إلي البراءة مني؟ فما عساک أن تقول؟ فقال: والله يا أميرالمؤمنين لو قطعت بالسيف إرباً إرباً، وأضرم لي النار وألقيت فيها لآثرت ذلک علي البراءة منک!! فقال (عليه السلام): وفقت لکل خير يا حجر، جزاک الله عن أهل بيت نبيک.

ثم قال هل من شربة لبن؟ فأتوه بلبن فشربه کله، فذکر (عليه السلام) ابن ملجم وأنه لم يترک له من اللبن شيئاً فقال: وکان أمر الله قدراً مقدوراً، أعلموني أني شربت الجميع، ولم أبق لأسيرکم شيئاً من هذا! ألا: وإنه آخر رزقي من الدنيا! فبالله عليک يا بني إلا ما سقيته مثل ما شربت، فحمل إليه اللبن فشرب.

کان الناس متجمهرين علي باب الإمام ينتظرون تنفيذ حکم الإعدام في حق ابن ملجم، فخرج إليهم الإمام الحسن وأمرهم عن قول أبيه بالانصراف، فانصرف الناس، وکان الأصبغ بن نباته جالساً فلم ينصرف، فخرج الإمام الحسن مرة ثانية وقال: يا أصبغ أما سمعت قولي عن أميرالمؤمنين؟ قال: بلي، ولکني رأيت حاله، فأحببت أن أنظر إليه فاسمع من حديثاً، فاستأذن لي رحمک الله.

فدخل الحسن ولم يلبث أن خرج فقال له: أدخل.

قال الأصبغ فدخلت فإذا أميرالمؤمنين معصب بعصابة، وقد علت صفرة وجهه علي تلک العصابة، وإذا هو يرفع فخذاً ويضع أخري من شدة الضربة وکثرة السم.

فقال لي: يا أصبغ أما سمعت قول الحسن عن قولي؟ قلت: بلي يا أميرالمؤمنين، ولکني رأيتک في حالة فأحببت النظر إليک، وأن أسمع منک حديثاً.

فقال لي: أقعد، فما أراک تسمع مني حديثاً بعد يومک هذا!! إعلم يا أصبغ: أني أتيت رسول الله (صلّي الله عليه وآله) عائداً کما جئت الساعة فقال: يا أباالحسن أخرج فناد في الناس: الصلاة جامعة، واصعد المنبر وقم دون مقامي بمرقاة، وقل للناس: ألا: من عق والديه فلعنة الله عليه، ألا:

من أبق مواليه فلعنة الله عليه، ألا: من ظلم أجيراً أجرته فلعنة الله عليه! يا أصبغ: ففعلت ما أمرني به حبيبي رسول الله، فقام من أقصي المسجد رجل فقال: يا أباالحسن تکلمت بثلاث کلمات أوجزتهن (اختصرتهن) فلم أرد جواباً حتي أتيت رسول الله (صلّي الله عليه وآله) فقلت ما کان من الرجل.

قال الأصبغ: ثم أخذ بيدي وقال: يا أصبغ أبسط يدک، فبسطت يدي، فتناول أصبع من أصابع يدي وقال: يا أصبغ کذا تناول رسول الله الحسن ألا: وإني وأنت أبوا هذه الأمة، فمن عقنا فلعنة الله عليه، ألا وإني وأنت موليا هذه الأمة فعلي من أبق عنا لعنة الله، ألا: وإني وأنت أجيرا هذه الأمة، فمن ظلمنا أجرنا فلعنة الله عليه، ثم قال: آمين.

فقلت آمين.

قال الأصبغ: ثم أغمي عليه ثم أفاق فقال لي: أقاعد أنت يا أصبغ؟ قلت: نعم يا مولاي قال: أزيدک حديثاً آخر؟ قلت نعم زادک الله من مزيدات الخير، قال: يا أصبغ: لقيني رسول الله (صلّي الله عليه وآله) في بعض طرقات المدينة وأنا مغموم، قد تبين الغم في وجهي، فقال لي: يا أباالحسن أراک مغموماً؟ ألا أحدثک بحديث لا تغتم بعده أبداً؟؟ قلت: نعم.

قال: إذا کان يوم القيامة نصب الله منبراً يعلو منبر النبيين والشهداء ثم يأمرني الله أن أصعد فوقه ثم يأمرک الله أن تصعد دوني بمرقاة ثم يأمر الله ملکين فيجلسان دونک بمرقاة، فإذا استقللنا علي المنبر لا يبق أحد من الأولين والآخرين إلا حضر، فينادي الملک الذي دونک بمرقاة: معاشر الناس ألا: من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا أعرفه بنفسي: أنا أدفع مفاتيح الجنة إلي محمد، وإن محمداً أمرني أن أدفعها إلي علي بن أبي طالب، فاشهدوا لي عليه.

ثم يقوم ذلک الذي تحت ذلک الملک بمرقاة منادياً يسمع أهل الموقف: معاشر الناس من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا أعرفه بنفسي: أنا مالک (خازن) النيران، ألا: إن الله بمنه وکرمه وفضله وجلاله قد أمرني أن أدفع مفاتيح النار إلي محمد وإن محمداً قد أمرني أن أدفعها إلي علي بن أبي طالب فاشهدوا لي عليه.

فآخذ مفاتيح الجنان والنيران، يا علي فتأخذ بحجزتي،[1] وأهل بيتک يأخذون بحجزتک، وشيعتک يأخذون بحجزة أهل بيتک.

قال الإمام: فصفقت بکلتا يدي وقلت: وإلي الجنة يا رسول الله؟ قال: إي ورب الکعبة..







  1. الحجزة بضم الحاء: الإزار أو معقد الإزار.