علي ينعي نفسه











علي ينعي نفسه



بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله حمد الشاکرين علي المصيبة وصلي الله علي محمد وآله المظلومين.

قال الله تعالي: (من المؤمنين رجالاً صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم من قضي نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا).[1] .

نبدأ حديثنا من هذه الليلة حول شهادة الإمام أميرالمؤمنين (عليه السلام)، فلقد سبق أن رسول الله (صلّي الله عليه وآله) أخبر علياً بأنه يفوز بالشهادة في سبيل الله، ففي يوم أحد تأسف الإمام أميرالمؤمنين علي حرمانه الشهادة في ذلک اليوم فقال له النبي: إنها من ورائک.

ويوم الخندق لما ضربه عمرو بن عبدود علي رأسه کانت الدماء تسيل علي وجهه الشريف فقام رسول الله (صلّي الله عليه وآله) يشد جرحه ويقول له: أين أنا يوم ضربک أشقي الآخرين علي رأسک ويخضب لحيتک من دم رأسک؟؟

وخطب رسول الله (صلّي الله عليه وآله) في آخر جمعة من شهر شعبان وذکر ما يتعلق بشهر رمضان، فقام علي (عليه السلام) وقال: ما أفضل الأعمال في هذا الشهر؟ فقال: يا أباالحسن أفضل الأعمال في هذا الشهر الورع عن محارم الله عز وجل، ثم بکي النبي فقال (عليه السلام): ما يبکيک؟ فقال: يا علي أبکي لما يستحل منک في هذا الشهر! کأني بک وأنت تصلي لربک وقد انبعث أشقي الأولين والآخرين شقيق عاقر ناقة ثمود، فضربک ضربة علي قرنک فخضب منها لحيتک، قال الإمام: وذلک في سلامة من ديني؟ فقال: في سلامة من دينک... الخ.

وکان الإمام (عليه السلام) کثيراً ما يخبر الناس بشهادته واختضاب لحيته الکريمة بدم رأسه، وحينما أتاه عبدالرحمن بن ملجم ليبايعه نظر علي في وجه طويلاً، ثم قال: أرأيتک إن سألتک عن شي ء وعندک منه علم هل أنت مخبر عنه؟ قال: نعم، وحلفه عليه فقال: أکنت تواضع الغلمان وتقوم عليهم وکنت إذا جئت فرأوک من بعيد قالوا: قد جاءنا ابن راعية الکلاب؟؟ فقال: اللهم نعم.

فقال له: مررت برجل وقد أيفعت (صرت يافعاً) فنظر إليک نظراً حاداً فقال: أشقي من عاقر ناقة ثمود؟ قال: نعم قال: قد أخبرتک أمک أنها حملت بک في بعض حيضها؟ فتعتع هنيئة ثم قال: نعم.

فقال الإمام: قم فقام، قال (عليه السلام): سمعت رسول الله (صلّي الله عليه وآله) يقول: (قاتلک شبه اليهودي بل هو اليهودي).

وقد تکرر منه (عليه السلام) أن رأي ابن ملجم فقال: أريد حياته ويريد قتلي، وفي تلک السنة الأخيرة من حياته والشهر الأخير من حياته کان يخبر الناس بشهادته فيقول: ألا وإنکم حاجوا العام صفاً واحداً، وآية (علامة) ذلک أني لست فيکم.

فعلم الناس أنه ينعي نفسه، ولم يکتفِ (عليه السلام) بذلک بل کان يدعو علي نفسه ويسأل من الله تعالي تعجيل الوفاة، وتارة کان يکشف عن رأسه وينشر المصحف علي رأسه ويرفع يديه للدعاء قائلاً: اللهم إني قد سئمتهم وسئموني ومللتهم وملوني، أما أن تخضب هذه من هذا ويشير إلي هامته ولحيته.

وقبل الواقعة أخبر (عليه السلام) أبنته أم کلثوم بأنه رأي رسول الله (صلي الله عليه وآله) وهو يمسح الغبار عن وجهه ويقول: يا علي لا عليک، قضيت ما عليک.

وکان الإمام قد بلغ من العمر ثلاثاً وستين سنة، وفي شهر رمضان من تلک السنة کان الإمام يفطر ليلة عند ولده الحسن وليلة عند ولده الحسين وليلة عند ابنته زينب الکبري زوجة عبدالله بن جعفر وليلة عند أبنته زينب الصغري المکناة بأم کلثوم.

وفي الليلة التاسعة عشر کان الإمام (عليه السلام) في دار ابنته أم کلثوم فقدمت له فطوره في طبق فيه: قرصان من خبز الشعير، وقصعة فيها لبن حامض، فأمر الإمام ابنته أن ترفع اللبن، وأفطر بالخبز والملح، ولم يشرب من اللبن شيئاً لأن في الملح کفاية، وأکل قرصاً واحداً، ثم حمد الله وأثني عليه، و قام إلي الصلاة، ولم يزل راکعاً وساجداً ومبتهلاً ومتضرعاً إلي الله تعالي، وکان يکثر الدخول والخروج وينظر إلي السماء ويقول: هي، هي والله الليلة التي وعدنيها حبيبي رسول الله.

ثم رقد هنيئة وانتبه مرعوباً وجعل يمسح وجهه بثوبه، ونهض قائماً علي قدميه وهو يقول: اللهم بارک لنا في لقائک.

ويکثر من قول (لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم) ثم صلي حتي ذهب بعض الليل، ثم جلس للتعقيب، ثم نامت عيناه وهو جالس، ثم انتبه من نومته مرعوباً، وقالت أم کلثوم: قال لأولاده: إني رأيت في هذه الليلة رؤيا هالتني وأريد أن أقصها عليکم قالوا: وما هي؟ قال: إني رأيت الساعة رسول الله (صلّي الله عليه وآله) في منامي وهو يقول لي: يا أباالحسن إنک قادم إلينا عن قريب، يجي ء إليک أشقاها فيخضب شيبتک من دم رأسک، وأنا والله مشتاق إليک، وإنک عندنا في العشر الآخر من شهر رمضان، فهلم إلينا فما عندنا خير لک وأبقي.

قال: فلما سمعوا کلامه ضجوا بالبکاء والنحيب وأبدوا العويل، فأقسم عليهم بالسکوت فسکتوا، ثم أقبل عليهم يوصيهم ويأمرهم بالخير وينهاهم عن الشر قالت أم کلثوم: لم يزل أبي تلک الليلة قائماً وقاعداً وراکعاً وساجداً ثم يخرج ساعة بعد ساعة يقلب طرفه في السماء وينظر في الکواکب وهو يقول: والله ما کذبت ولا کذبت، وإنها الليلة التي وعدت بها، ثم يعود إلي مصلاه ويقول: اللهم بارک لي في الموت.

ويکثر من قول: (أنا لله وأنا إليه راجعون) ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ويصلي علي النبي (صلّي الله عليه وآله) ويستغفر الله کثيراً قالت أم کلثوم فلما رأيته في تلک الليلة قلقاً متململاً کثير الذکر والاستغفار أرقت معه ليلتي وقلت: يا أبتاه ما لي أراک هذه الليلة لا تذوق طعم الرقاد؟ قال: يا بنية إن أباک قتل الأبطال وخاض الأهوال وما دخل الخوف له جوفاً، وما دخل في قلبي رعب أکثر مما دخل في هذه الليلة ثم قال: (أنا لله وأنا إليه راجعون).

فقلت يا أبا ما لک تنعي نفسک منذ الليلة؟ قال: بنية قد قرب الأجل وانقطع الأمل قالت أم کلثوم: فبکيت فقال لي يا بنية لا تبکي فإني لم أقل ذلک إلا بما عهد إلي النبي (صلّي الله عليه وآله) ثم إنه نعس وطوي ساعة ثم استيقظ من نومه، وقال: يا بنية إذا قرب الأذان فأعلميني.

ثم رجع إلي ما کان عليه أول الليل من الصلاة والدعاء والتضرع إلي الله سبحانه وتعالي قالت أم کلثوم: فجعلت أرقب الأذان فلما لاح الوقت أتيته ومعي إناء فيه ماء، ثم أيقظته فأسبغ الوضوء، وقام ولبس ثيابه وفتح بابه ثم نزل إلي الدار وکان في الدار إوز قد أهدي إلي أخي الحسين (عليه السلام) فلما نزل خرجن وراءه ورفرفن، وصحن في وجهه.

وکان قبل تلک الليلة لم يصحن فقال (عليه السلام): لا إله إلا الله، صوائح تتبعها نوائح، وفي غداة غد يظهر القضاء.

فقلت: يا أبتاه هکذا تتطير؟ فقال: بنية ما منا أهل البيت من يتطير ولا يتطير به.

ولکن قول جري علي لساني ثم قال: يا بنية بحقي عليک إلا ما أطلقتيه، وقد حبست ما ليس له لسان، ولا يقدر علي الکلام إذا جاع أو عطش فأطعميه واسقيه وإلا خلي سبيله يأکل من حشائش الأرض.

فلما وصل إلي الباب فعالجه ليفتحه فتعلق الباب بمئزره فانحل مئزره حتي سقط فأخذه وشده وهو يقول:


أشدد حيازيمک للموت
فإن الموت لاقيکا


ولا تجزع من الموت
إذا حل بناديکا


کما أضحک الدهر
کذاک الدهر يبکيکا


ثم قال: اللهم بارک لنا في الموت اللهم بارک لنا في لقائک قالت أم کلثوم: وکنت أمشي خلفه فلما سمعته يقول ذلک قلت: واغوثاه يا أبتاه أراک تنعي نفسک منذ الليلة قال: يا بنية ما هو بنعاء ولکنها دلالات وعلامات للموت يتبع بعضها بعضاً، فامسکي عن الجواب، ثم فتح الباب وخرج قالت أم کلثوم: فجئت إلي أخي الحسن (عليه السلام) فقلت: يا أخي قد کان من أمر أبيک الليلة کذا وکذا وهو قد خرج في هذا الليل الغلس فالحقه فقام الحسن بن علي (عليه السلام) وتبعه فلحق به قبل أن يدخل الجامع فأمره الإمام بالرجوع فرجع.

وأما عدو الله: عبدالرحمن بن ملجم فکان علي رأي الخوارج وکانت بينه وبين قطام حب وغرام، وقطام قد قتل أبوها وأخوها وزوجها في النهروان، وقد امتلأ قلبها غيظاً وعداءً لأميرالمؤمنين وأراد ابن ملجم أن يتزوجها فاشترطت عليه أن يقتل أميرالمؤمنين (عليه السلام) فاستعظم هذا الأمر وطلبت منه ثلاثة آلاف دينار وعبداً وقينة (جارية) وينسب إليه هذه الأبيات:


فلم أر مهراً ساقه ذو سماحة
کمهر قطام من فصيح وأعجم


ثلاثة آلاف وعبد وقينة
وضرب علي بالحسام المصمم


وقيل إنه تعاهد هو ورجلين علي قتل معاوية وعمرو بن العاص واختار الثالث قتل معاوية، فقصد البرک بن عبدالله التميمي مصر ليقتل ابن العاص، ولم يخرج ابن العاص تلک الصبيحة فأرسل رجلاً يقال له: خارجة بن تميم، فلما وقف في المحراب صربه البرک ظناً منه أنه ابن العاص فمات خارجة من تلک الضربة.

وأما الآخر ويقال له: العنبري فإنه قصد الشام يقصد قتل معاوية وتعرف بمعاوية وجعل يدخل عليه ويلاطف له في الکلام وينشده الأشعار حتي صارت صبيحة يوم التاسع عشر من شهر رمضان وجاء معاوية للصلاة وثار إليه العنبري ورفع السيف ليضرب عنقه فأخطأ الضربة فوقع السيف علي إلية معاوية، ولم يقتل من ضربته بل جرح جرحاً برء بالمعالجة.

وأما عبدالرحمن بن ملجم فقد جاء تلک الليلة وبات في المسجد ينتظر طلوع الفجر ومجي ء الإمام للصلاة وهو يفکر حول الجريمة العظمي التي قصد ارتکابها ومعه رجلان: شبيب بن بحرة ووردان بن مجالد يساعدانه علي قتل الإمام.

وسار الإمام إلي المسجد فصلي في المسجد، ثم صعد المأذنة ووضع سبابته في أذنيه وتنحنح، ثم أذن، فلم يبق في الکوفة بيت إلا اخترقه صوته، ثم نزل عن المأذنة وهو يسبح الله ويقدسه ويکبره، ويکثر من الصلاة علي النبي (صلّي الله عليه وآله)، وکان يتفقد النائمين في المسجد ويقول للنائم: الصلاة، يرحمک الله، قم إلي الصلاة المکتوبة ثم يتلو: (إن الصلاة تنهي عن الفحشاء والمنکر).

لم يزل الإمام يفعل ذلک حتي وصل إلي ابن ملجم وهو نائم علي وجهه وقد أخفي سيفه تحت إزاره فقال له الإمام: يا هذا قم من نومک هذا فإنها نومة يمقتها الله، وهي نومة الشيطان، ونومة أهل النار بل نم علي يمينک فإنها نومة العلماء، أو علي يسارک فإنها نومة الحکماء، أو نم علي ظهرک فإنها نومة الأنبياء.

نعم، الشمس تشرق علي البر والفاجر والکلب والخنزير وکل رجس وقذر، والإمام أميرالمؤمنين (عليه السلام) يفيض من علومه علي الأخيار والأشرار وينصح السعداء والأشقياء ولا يبخل عن الخير حتي لأشقي الأشقياء، ويرشد کل أحد حتي قاتله!! ثم قال له الإمام: لقد هممت بشي ء تکاد السماوات أن يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هداً، ولو شئت لأنبأتک بما تحت ثيابک ثم ترکه، واتجه إلي المحراب، وقام قائماً يصلي، وکان (عليه السلام) يطيل الرکوع والسجود في صلاته، فقام المجرم الشقي لإنجاز أکبر جريمة في تاريخ الکون!! وأقبل مسرعاً يمشي حتي وقف بازاء الاسطوانة التي کان الإمام يصلي عليها، فأمهله حتي صلي الرکعة الأولي وسجد السجدة الأولي ورفع رأسه منها فتقدم اللعين وأخذ السيف وهزه ثم ضربه علي رأسه الشريف فوقعت الضربة علي مکان الضربة التي ضربه عمر بن عبدود العامري.

فوقع الإمام علي وجهه قائلاً: بسم الله وعلي ملة رسول الله ثم صاح الإمام: قتلني ابن ملجم قتلني ابن اليهودية، أيها الناس لا يفوتکم ابن ملجم.

أخبر الإمام عن قاتله کيلا يشتبه الناس بغيره فيقتلون البري ء، کما قتل في حادثة قتل عمر بن الخطاب جماعة من الأبرياء المساکين الذين هجم عليهم عبيدالله بن عمر وقتلهم.

حتي في تلک اللحظة يحافظ الإمام علي النظام وعلي حياة الناس، نبع الدم العبيط من هامة الإمام وسال علي وجهه المنير، وخضب لحيته الکريمة وصدق کلام الرسول ووقع ما أخبر به، لم يفقد الإمام وعيه وما انهارت أعصابه بالرغم من وصول الضربة إلي جبهته وبين حاجبيه، فجعل يشد الضربة بمئزره ويضع عليها التراب، ولم يمهله الدم فقد سال علي صدره وأزياقه، وعوضاً من التأوه والتألم والتوجع کان يقول (صلوات الله عليه): فزت ورب الکعبة! هذا ما وعد الله ورسوله! وصدق الله ورسوله! استولت الدهشة والذهول علي الناس، وخاصة علي المصلين في المسجد، وفي تلک اللحظة هتف جبرائيل بذلک الهتاف السماوي.

لم نسمع في تاريخ الأنبياء أن جبرائيل هتف يوم وفاة نبي من الأنبياء أو وصي من الأوصياء، ولکنه هتف ذلک الهتاف لما وصل السيف إلي هامة الإمام وهو بعد حي، هتف بشهادته کما هتف يوم أحد بفتوته وشهامته يوم قال: لا فتي إلا علي ولا سيف إلا ذو الفقار.

فاصطفت أبواب الجامع وضجت الملائکة في السماء بالدعاء وهبت ريح عاصف سوداء مظلمة ونادي جبرائيل بين السماء والأرض بصوت يسمعه کل مستيقظ: تهدمت والله أرکان الهدي وانطمست والله نجوم السماء وأعلام التقي وانفصمت والله العروة الوثقي قتل ابن عم محمد المصطفي (صلّي الله عليه وآله) قتل الوصي المجتبي قتل علي المرتضي، قتل والله سيد الأوصياء، قتله أشقي الأشقياء.

فلما سمعت أم کلثوم نعي جبرائيل لطمت علي وجهها، وخدها وشقت جيبها وصاحت: واأبتاه واعلياه وامحمداه واسيداه.

وخرج الحسن والحسين فإذا الناس ينوحون وينادون: واإماماه واأمير المؤمنيناه، قتل والله إمام عابد مجاهد لم يسجد لصنم قط وکان أشبه الناس برسول الله.

فلما سمع الحسن والحسين (عليهماالسلام) صرخات الناس ناديا: واأبتاه واعلياه ليت الموت أعدمنا الحياة، فلما وصلا إلي الجامع ودخلا وجدا أباجعدة بن هبيرة ومعه جماعة من الناس وهم يجتهدون أن يقيموا الإمام في المحراب ليصلي بالناس.

فلم يطق علي النهوض، وتأخر عن الصف وتقدم الحسن (عليه السلام) فصلي بالناس، وأميرالمؤمنين (عليه السلام) صلي إيماء من جلوس وهو يمسح الدم عن وجهه وکريمته يميل تارة ويسکن أخري والحسن (عليه السلام) ينادي: واانقطاع ظهراه! يعز والله علي أن أراک هکذا ففتح الإمام (عليه السلام) عينه.

وقال: يا بني لا جزع علي أبيک بعد اليوم! هذا جدک محمد المصطفي وجدتک خديجة الکبري وأمک فاطمة الزهراء والحور العين محدقون فينتظرون قدوم أبيک، فطب نفساً وقر عيناً وکف عن البکاء، فإن الملائکة قد ارتفعت أصواتهم إلي السماء.

ثم إن الخبر شاع في جوانب الکوفة وانحشر الناس حتي المخدرات خرجن من خدرهن إلي الجامع ينظرون إلي الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) فدخل الناس الجامع فوجدوا الحسن (عليه السلام) ورأس أبيه في حجره وقد غسل الدم عنه، وشد الضربة وهي بعدها تشخب دماً ووجهه قد زاد بياضاً بصفرة وهو يرمق السماء بطرفه، ولسانه يسبح الله ويوحده، وهو يقول أسألک يا رب الرفيع الأعلي.

فأخذ الحسن (عليه السلام) رأسه في حجره فوجده مغشياً عليه فعندها بکي بکاء شديداً وجعل يقبل وجه أبيه وما بين عينيه وموضع سجوده فسقط من دموعه قطرات علي وجه أميرالمؤمنين (عليه السلام) ففتح عينيه فرآه باکياً.

فقال له الإمام (عليه السلام): يا بني يا حسن ما هذا البکاء؟ يا بني لا روع علي أبيک بعد اليوم! يا بني أتجزع علي أبيک وغداً تقتل بعدي مسموماً مظلوماً؟ ويقتل أخوک بالسيف هکذا؟ وتلحقان بجدکما وأبيکما وأمکما؟ فقال له الحسن (عليه السلام): يا أبتاه ما تعرفنا من قتلک؟ ومن فعل بک هذا؟ قال (عليه السلام): قتلني ابن اليهودية: عبدالرحمن بن ملجم المرادي فقال: يا أباه من أي طريق مضي؟ قا لا يمضي أحد في طلبه فإنه سيطلع عليکم من هذا الباب.

وأشار بيده الشريفة إلي باب کنده.

ولم يزل السم يسري في رأسه وبدنه ثم أغمي عليه ساعة والناس ينتظرون قدوم الملعون من باب کنده، فاشتغل الناس بالنظر إلي الباب ويرتقبون قدوم الملعون وقد غص المسجد بالعالم ما بين باکٍ ومحزون فما کان إلا ساعة وإذا بالصيحة قد ارتفعت، من الناس وقد جاءوا بعدو الله ابن ملجم مکتوفاً هذا يلعنه وهذا يضربه.

فوقع الناس بعضهم علي بعض ينظرون إليه فأقبلوا باللعين مکتوفاً وهم ينهشون لحمه بأسنانهم، ويقولون له: يا عدو الله ما فعلت؟ أهلکت أمة محمد (صلّي الله عليه وآله) وقتلت خير الناس.

وإنه لصامت وبين يديه رجل يقال له حذيفة النخعي بيده سيف مشهور وهو يرد الناس عن قتله وهو يقول هذا قاتل الإمام علي (عليه السلام) حتي أدخلوه إلي المسجد.

وکانت عيناه قد طارتا في أم رأسه کأنهما قطعتا علق وقد وقعت في وحهه ضربة قد هشمت وجهه وأنفه والدم يسيل علي لحيته وعلي صدره، وهو ينظر يميناً وشمالاً وعيناه قد طارتا في أم رأسه وهو أسمر اللون وکان علي رأسه شعر أسود منشوراً علي وجهه کأنه الشيطان الرجيم.


فلما جاءوا به أوقفوه بين يدي أميرالمؤمنين (عليه السلام) فلما نظر إليه الحسن (عليه السلام): قال له: يا ويلک يا لعين! يا عدو الله! أنت قاتل أميرالمؤمنين ومثکلنا بإمام المسلمين؟ هذا جزاؤه منک حيث آواک وقربک وأدناک وآثرک علي غيرک؟ وهل کان بئس الإمام لک حتي جازيته هذا الجزاء يا شقي؟؟ فلم يتکلم بل دمعت عيناه.

فقال له الملعون: يا أبامحمد أفأنت تنقذ من في النار؟ فعند ذاک ضج الناس بالبکاء والنحيب.

فأمر الحسن (عليه السلام) بالسکوت ثم التفت الحسن (عليه السلام) إلي الذي جاء به حذيفة فقال له: کيف ظفرت بعدو الله وأين لقيته؟ فقال: يا مولاي کنت نائماً في داري إذ سمعت زوجتي الزعقة، وناعياً ينعي أميرالمؤمنين (عليه السلام) وهو يقول: تهدمت والله أرکان الهدي وانطمست والله أعلام التقي قتل ابن عم محمد المصطفي قتل علي المرتضي قتله أشقي الأشقياء.

فأيقظتني وقالت لي: أنت نائم؟ وقد قتل إمامک علي بن أبي طالب.

فانتبهت من کلامها فزعاً مرعوباً وقلت لها: يا ويلک ما هذا الکلام؟ رض الله فاک! لعل الشيطان قد ألقي في سمعک هذا أن أميرالمؤمنين ليس لأحد من خلق الله تعالي قبله تبعه ولا ظلامة، فمن ذا الذي يقدر علي قتل أميرالمؤمنين؟ وهو الأسد الضرغام والبطل الهمام والفارس القمقام فأکثرت علي وقالت: إني سمعت ما لم تسمع وعلمت ما لم تعلم، فقلت لها: وما سمعت فأخبرتي بالصوت.

ثم قالت: ما أظن أن بيتاً في الکوفة إلا وقد دخله هذا الصوت.

قال: وبينما أنا وهي في مراجعة الکلام وإذا بصيحة عظيمة وجلبة وقائل يقول: قتل أميرالمؤمنين (عليه السلام) فحس قلبي بالشر فمددت يدي إلي سيفي وسللته من غمده، وأخذته ونزلت مسرعاً، وفتحت باب داري وخرجت، فلما صرت في وسط الجادة نظرت يميناً وشمالاً فإذا بعدو الله يجول فيها، يطلب مهرباً فلم يجد، وإذا قد انسدت الطرقات في وجهه، فلما نظرت إليه وهو کذلک رابني أمره فناديته: من أنت وما تريد؟ لا أم لک! في وسط هذا الدرب؟ فتسمي بغير اسمه، وانتمي إلي غير کنيته فقلت له: من أين أقبلت؟ قال: من منزلي قلت: وإلي أين تريد لأن تمضي في هذا الوقت؟ قال إلي الحيرة، فقلت: ولم لا تقعد حتي تصلي مع أميرالمؤمنين (عليه السلام) صلاة الغدة وتمضي في حاجتک؟ فقال: أخشي أن أقعد للصلاة فتفوتني حاجتي.

فقلت: يا ويلک إني سمعت صيحة وقائلاً يقول قتل أميرالمؤمنين (عليه السلام) فهل عندک من ذلک خبر؟ قال: لا علم لي بذلک.

فقلت له: ولم لا تمضي معي حتي تحقق الخبر وتمضي في حاجتک؟ فقال: أنا ماض في حاجتي وهي أهم من ذلک.

فلما قال لي مثل ذلک القول قلت: يا لکع الرجال حاجتک أحب إليک من الجسس لأمير المؤمنين وإمام المسلمين؟ وإذا والله يا لکع ما لک عند الله من خلاق.

وحملت عليه بسيفي وهممت أن أعلو به، فراغ عني فبينما أنا أخاطبه وهو يخاطبني إذ هبت ريح فکشفت إزاره وإذا بسيفه يلمع تحت الإزار وکأنه مرآة مصقولة.

فلما رأيت بريقه تحت ثيابه قلت: يا ويلک ما هذا السيف المشهور تحت ثيابک؟ لعلک أنت قاتل أميرالمؤمنين فأراد أن يقول: لا.

فأنطق الله لسانه بالحق فقال: نعم، فرفعت سيفي وضربته فرفع هو سيفه وهم أن يعلوني به فانحرفت عنه فضربته علي ساقيه فأوقعته ووقع لجينه ووقعت عليه وصرخت صرخة شديدة وأردت أخذ سيفه فمانعني عنه، فخرج أهل الحيرة فأعانوني عليه حتي أوثقته وجئتک به، فهو بين يديک جعلني الله فداک فاصنع به ما شئت.

فقال الحسن (عليه السلام): الحمد لله الذي نصر وليه وخذل عدوه ثم انکب الحسن (عليه السلام) علي أبيه يقبله وقال: يا أباه هذا عدو الله وعدوک قد أمکن الله منه.

ففتح عينيه (عليه السلام) وهو يقول: أرفقوا بي يا ملائکة ربي.

فقال له الحسن (عليه السلام): هذا عدو الله وعدوک ابن ملجم قد أمکن الله منه وقد حضر بين يديک.

ففتح أميرالمؤمنين (عليه السلام) عينيه ونظر إليه وهو مکتوف وسيفه معلق في عنقه.

فقال له بضعف وانکسار صوت ورأفة ورحمة: يا هذا لقد جئت عظيماً، وارتکبت أمراً عظيماً، وخطباً جسيماً، أبئس الإمام کنت لک حتي جازيتني بهذا الجزاء؟ ألم أکن شفيقاً عليک وآثرتک علي غيرک وأحسنت إليک وزدت في عطائک؟ ألم أکن يقال لي فيک کذا وکذا، فخليت لک السبيل ومنحتک عطائي؟ وقد کنت أعلم أنک قاتلي لا محالة ولکن رجوت بذلک الاستظهار من الله تعالي عليک يا لکع فغلبت عليک الشقاوة فقتلتني يا شقي الأشقياء؟ فدمعت عينا ابن ملجم وقال يا أميرالمؤمنين: أفأنت تنقذ من في النار.

قال له: صدقت ثم التفت (عليه السلام) إلي ولده الحسن (عليه السلام) وقال له: إرفق يا ولدي بأسيرک.

وارحمه وأحسن إليه واشفق عليه، ألا تري إلي عينيه قد طارتا في أم رأسه وقلبه يرجف خوفاً وفزعاً؟؟ فقال له الحسن (عليه السلام) يا أباه قد قتلک هذا اللعين الفاجر وأفجعنا فيک وأنت تأمرنا بالرفق به؟ فقال: نعم يا بني نحن أهل بيت لا نزداد علي الذنب إلينا إلا کرماً وعفواً! والرحمة والشفقة من شيمتنا! بحقي عليک فاطعمه يا بني مما تأکله! واسقه مما تشرب! ولا تقيد له قدماً ولا تغل له يداً! فإن أنتا مت فاقتص منه بأن تقتله وتضربه ضربة واحدة ولا تحرقه بالنار ولا تمثل بالرجل فإني سمعت جدک رسول الله (صلّي الله عليه وآله) يقول: إياکم والمثلة ولو بالکلب العقور، وإن أنا عشت فأنا أولي به بالعفو عنه وأنا أعلم بما أفعل به.

ولقد أحسن وأجاد المرحوم السيد جعفر الحلي (ره):


لبس الإسلام أبراد السواد
يوم أردي المرتضي سيف المرادي


ليلة ما أصبحت إلا وقد
غلب الغي علي أمر الرشاد


والصلاح انخفضت أعلامه
وغدت ترفع أعلام الفساد


ما رعي الغادر شهر الله في
حجة الله علي کل العباد


وببيت الله قد جدّ له
ساجداً ينشج من خوف المعاد


يا ليال أنزل الله بها
سور الذکر علي أکرم هادي


مُحيت فيک علي رغم العلي
آية في فضلها الذکر ينادي


قتلوه وهو في محرابه
طاوي الأحشاء عن ماء وزاد


سل بعينيه الدجي هل جفتا
عن بکا أو ذاقتا طعم الرقاد؟


وسل الأنجم هل أبصرنه
ليلة مضطجعاً فوق الوساد؟


وسل الصبح هل صادفه
ملّ من نوح مذيب للجماد؟


عاقر الناقة مع شقوته
ليس بالأشقي من الرجس المرادي


فلقد عمم بالسيف فتي
عمّ خلق الله طراً بالأيادي


فبکته الأنس والجن معاً
وطيور الجومع وحش البوادي


وبکاه الملأ الأعلي دماً
وغدي جبريل بالويل ينادي


هدمت والله أرکان الهدي
حيث لا من منذر فينا وهادي







  1. سورة الأحزاب، الآية: 23.