خطب أخري له











خطب أخري له



ومن کلام (عليه السلام)

ولقد علم المستحفظون من أصحاب محمد (صلّي الله عليه وآله) أني لم أردّ علي الله ولا علي رسوله ساعة قط، ولقد واسيته بنفسي في المواطن التي تنکص فيها الأبطال، وتتأخر فيها الأقدام، نجدة أکرمني الله بها.

ولقد قبض رسول الله (صلّي الله عليه وآله) وإن رأسه علي صدري، ولقد سالت نفسه في کفي فأمررتها علي وجهي.

ولقد ولّيت غسله (صلّي الله عليه وآله) والملائکة أعواني، فضجت الدار، والأفنية ملأٌ يهبط وملأٌ يعرج، وما فارقت سمعي هينمة منهم (الهينمة: الصوت الخفي) يصلون عليه حتي واريناه في ضريحه.

فما أحق به مني حياً وميتاً؟ فأنفذوا بصائرکم، ولتصدق نياتکم في جهاد عدوکم.

فوالذي لا إله إلا هو إني لعلي جادة الحق وإنهم لعلي مزلة الباطل أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولکم.

ومن کلام له (عليه السلام)

والله لأن أبيت علي حسک السعدان مسهّداً، وأُجرّ في الأغلال مصفداً، أحب إلي من أن ألقي الله ورسوله يوم القيامة ظالماً لبعض العباد وغاصباً لشي ءٍ من الحطام.

وکيف أظلم أحداً لنفس يسرع إلي البلي قفولها، ويطول في الثري حلولها، والله لقد رأيت عقيلا وقد أملق حتي استماحني من بُرّکم صاعاً، ورأيت صبيانه شعث الشعور غبر الألوان من فقرهم کأنما سودت وجوههم بالعظلم، وعاودني مؤکداً وکرر علي القول مردّداً، فأصغيت إليه سمعي، فظن أني أبيعه ديني، وأتبع قياده مفارقاً طريقي فأحميت له حديدة ثم أدنيتها من جسمه ليعتبر بها فضج ضجيج ذي دنف من ألمها، وکاد أن يحترق من ميسمها.

فقلت له: ثکلتک الثواکل يا عقيل أتئن من حديدة أحماها إنسانها للعبه؟ وتجرني إلي نار سجرها جبارها لغضبه؟ أتئن من الأذي؟ ولا أئن من لظي؟ وأعجب من ذلک طارق طرقنا بملفوفة في وعائها، ومعجونة شنئتها، کأنما عُجنت بريق حية أو قيئها، فقلت: أصلة أم زکاة أم صدقة؟ فذلک محرم علينا أهل البيت.

فقال: لا ذا ولا ذاک ولکنها هدية.

فقلت: هبلتک الهبول، أعن دين الله أتيتني لتخدعني؟ أمختبط أنت؟ أم ذو جنة أم تهجر؟ والله لو أعطيت الأقاليم السبعة بما تحت افلاکها علي أن أعصي الله في نملة أسلبها جلب شعيرة ما فعلت وإن دنياکم عندي لأهون من ورقة في فم جرادة تقضمها! ما لعلي ولنعيم يفني ولذة لا تبقي؟ نعوذ بالله من سبات العقل وقبح الزلل وبه نستعين.

ومن خطبة له (عليه السلام)

أما بعد أيها الناس.

فأنا فقأت عين الفتنة، ولم تکن ليجرأ عليها أحد غيري، بعد أن ماج غيهبها، وأشتد کلبها، فاسألوني قبل أن تفقدوني فوالذي نفسي بيده لا تسألوني عن شي ء فيما بينکم وبين الساعة، ولا عن فئة تهدي مائة وتضل مائة إلا أنبأتکم بناعقها وقائدها وسائقها، ومناخ رکابها ومحط رحالها، ومن يقتل من أهلها قتلاً، ويموت منهم موتاً، ولو قد فقدتموني ونزلت بکم کرائه الأمور وحوازب الخطوب لأطرق کثير من السائلين وفشل کثيراً من المسؤولين. ومن خطبه له (عليه السلام) أيها الناس إني قد بثثت لکم المواعظ التي وعظ الأنبياء بها أممهم.

وأدّيت إليکم ما أدت الأوصياء إلي من بعدهم.

وأدبتکم بسوطي فلم تستقيموا.

وحدوتکم بالزواجر فلم تستوثقوا.

لله أنتم! أتتوقعون إماماً غيري يطأ بکم في الطريق، ويرشدکم السبيل؟

ألا إنه قد أدبر من الدنيا ما کان مقبلاً، وأقبل منها ما کان مدبراً وأزمع الترحال عباد الله الأخيار، وباعوا قليلاً من الدنيا لا يبقي، بکثير من الآخرة لا يفني.

ما ضر إخواننا الذين سفکت دماؤهم بصفين أن لا يکونوا اليوم أحياء؟ يسيغون الغصص ويشربون الرنق.

قد والله لقوا الله فوفاهم أجورهم، وأحلهم دار الأمن، بعد خوفهم؟ أين إخواني الذين رکبوا الطريق ومضوا علي الحق؟ أين عمار؟ وأين أبن التيهان؟ وأين ذو الشهادتين؟ وأين نظراؤهم من إخوانهم الذين تعاقدوا علي المنية، وأبرد برؤوسهم إلي الفجرة؟ (قال ثم ضرب بيده علي لحيته الشريفة الکريمة فأطال البکاء).

ثم قال (عليه السلام): أوه علي إخواني الذين تلوا القرآن فأحکموه، وتدبروا الفرض فأقاموه أحيوا السنة وأماتوا البدعة، دعوا للجهاد فأجابوا، ووثقوا بالقائد فأتبعوه (ثم نادي بأعلي صوته:) الجهاد...

الجهاد عباد الله.

ألا وإني معسکر في يومي هذا فمن أراد الرواح إلي الله فليخرج.

ومن کلام له (عليه السلام)

لم تکن بيعتکم إياي فلتة، وليس أمري وأمرکم واحداً، إني أريدکم لله وأنتم تريدوني لأنفسکم، أيها الناس، أعينوني علي أنفسکم، وأيم الله لأنصفن المظلوم من ظالمه، ولأقودن الظالم بخزامته، حتي أورده منهل الحق وإن کان کارهاً. ومن کتاب له (عليه السلام) إلي عثمان بن حنيف الأنصاري وهو عامله علي البصرة وقد بلغه أنه دعي إلي وليمة قوم من أهلها فمضي إليها: أما بعد يا بن حنيف فقد بلغني أن رجلاً من فتية أهل البصرة دعاک إلي مأدبة فأسرعت إليها تستطاب لک الألوان وتنقل إليک الجفان، وما ظننت أنک تجيب إلي طعام قوم عائلهم مجفو وغنيهم مدعو، فانظر إلي ما تقضمه من هذا المقضم، فما اشتبه عليک علمه فالفظه، وما أيقنت بطيب وجوهه فنل منه.

ألا وإن لکل مأموم إماماً يقتدي به ويستضي ء بنور علمه، ألا وإن إمامکم قد اکتفي من دنياه بطمريه، ومن طعمه بقرصيه ألا: وإنکم لا تقدرون علي ذلک ولکن أعينوني بورع واجتهاد، وعفة وسداد.

فوالله ما کنزت من دنياکم تبراً، ولا ادخرت من غنائمها وفراً، ولا أعددت لبالي ثوبيّ طمراَ.

بلي کانت في أيدينا فدک من کل ما أظلته السماء، فشحّت عليها نفوس قوم وسخت عنها نفوس قوم آخرين.

ونعم الحکم الله وما أصنع بفدک وغير فدک والنفس مظانها في غد جدث تنقطع في ظلمته آثارها وتغيب أخبارها، وحفرة لو زيد في فسحتها وأوسعت يدا حافرها لأضغطها الحجر والمدر، وسدّ فدجها التراب المتراکم؟، وإنما هي نفسي أروضها بالتقوي لتأتي آمنة يوم الخوف الأکبر، وتثبت علي جوانب المزلق.

ولو شئت لاهتديت الطريق إلي مصفي هذا العسل ولباب هذا القمح ونسائج هذا القز، ولکن هيهات أن يغلبني هواي ويقودني جشعي إلي تخير الأطعمة.

ولعل بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص ولا عهد له بالشبع.

أو أبيت مبطاناً وحولي بطون غرثي وأکباد حري؟ أو أکون کما قال القائل:


وحسبک داءً أن تبيت ببطنة
وحولک أکباد تحن إلي القد


أأقنع من نفسي بان يقال أميرالمؤمنين؟ ولا أشارکهم في مکاره الدهر أو أکون أسوة لهم في جشوبة العيش.

فما خلقت ليشغلني أکل الطيبات کالبهيمة المربوطة همُّها علفها، أو المرسلة شغلها تقممها، تکترش من أعلافها وتلهو عما يراد بها.

أو أترک سدي أو أهمل عابثاً، أو أجر حبل الضلالة، أو أعتسف طريق المتاهة.

وکأني بقائلکم يقول: إذا کان (هذا) قوت ابن أبي طالب فقد قعد به الضعف عن قتال الأقران ومنازلة الشجعان.

ألا: وإن الشجرة البرية أصلب عوداً، والروائع الخضرة أرق جلوداً والنباتات البدوية أقوي وقوداً وأبطأ خموداً، وأنا من رسول الله کالصنو من الصنو والذراع من العضد.

والله لو تظاهرت العرب علي قتالي لما وليت عنها، ولو أمکنت الفرص من رقابها لسارعت إليها، وسأجهد في أن اطهر الأرض من هذا الشخص المعکوس والجسم المرکوس حتي تخرج المدرة من بين حب الحصيد.

إليک عني يا دنيا فحبلک علي غاربک، قد انسللت من مخالبک، وأفلت من حبائلک، واجتنيت الذهاب في مداحضک.

أين القرون الذين غررتهم بمداعبک؟ أين الأمم الذين فتنتهم بزخارفک؟ ها هم رهائن القبور ومضامين اللحود.

والله لو کنت شخصاً مرئياً وقالباً حسياً لأقمت عليک حدود الله في عباد غررتهم بالأماني وأمم ألقيتهم في المهاوي، وملوک أسلمتهم إلي التلف وأوردتهم موارد البلاء إذ لا ورد ولا صدر.

هيهات من وطئ دحضک زلق، ومن رکب لججک غرق، ومن ازورّ حبائلک وُفّق.

والسالم منک لا يبالي إن ضاق به مناخه والدنيا عنده کيوم حان انسلاخه عني.

فو الله لا أذل لک فتستذلني، ولا أسلس لک فتقوديني.

وأيم الله يميناً أستثني فيها بمشيئة الله لأروضن نفسي رياضة تهش معها إلي القرص إذا قدرت عليه مطعوماً، وتقنع بالملح مأدوماً، ولأدعن مقلتي کعين ماء نضب معينها مستفرغة دموعها.

أتمتلئ السائمة من رعيها فتبرک، وتشبع الربيضة من عشبها فتربض ويأکل علي من زاده فيهجع؟ قرت إذاً عينه! إذا اقتدي بعد السنين المتطاولة بالبهيمة الهاملة والسائمة المرعية.

طوبي لنفس أدت إلي ربها فرضها! وعرکت بجنبها بؤسها.

وهجرت في الليل غمضها حتي إذا غلب الکري عليها افترشت أرضها وتوسدت کفها، في معشر أسهر عيونهم خوف معادهم، وتجافت عن مضاجعهم جنوبهم.

وهمهمت بذکر ربهم شفاههم وتقشعت بطول استغفارهم ذنوبهم (أولئک حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون)[1] فاتق الله يا ابن حنيف ولتکفک أقراصک ليکون من النار خلاصک.

في کتاب الأنوار النعمانيه عن کتاب المناقب مسنداً إلي صعصعة بن صوحان: أنه دخل علي أميرالمؤمنين (عليه السلام) لما ضرب فقال: يا أميرالمؤمنين أنت أفضل أم آدم أبوالبشر؟ قال علي (عليه السلام) تزکية المرء نفسه قبيح.

لکن قال الله تعالي لآدم: (يا آدم اسکن أنت وزوجک الجنة وکلا منها رغداً حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتکونا من الظالمين)،[2] وأنا أکثر الأشياء أباحها لي وترکتها وما قاربتها.

ثم قال: أنت أفضل يا أميرالمؤمنين أم نوح؟ قال علي: إن نوحاً دعا علي قومه، وأنا ما دعوت علي ظالمي حقي، وابن نوح کان کافراً، وابناي سيد شباب أهل الجنة.

وقال: أنت أفضل أم موسي؟ قال (عليه السلام): إن الله تبارک وتعالي أرسل موسي إلي فرعون فقال: (إني أخاف أن يقتلون) حتي قال الله تعالي: (لا تخف إني لا يخاف لدي المرسلون)[3] قال: (رب إني قتلت منهم نفساً وأخاف أن يقتلون)[4] وأنا ما خفت حين أرسلني رسول الله بتبليغ سورة البراءة أن أقرأها علي قريش في الموسم مع إني کنت قتلت کثيراً من صناديدهم، فذهبت بها وقرأتها عليهم وما خفتهم.

ثم قال: أنت أفضل أم عيسي بن مريم؟ قال علي: عيسي کانت أمه في بيت المقدس فلما جاء وقت ولادتها سمعت قائلاً يقول: أخرجي، هذا بيت العبادة لا بيت الولادة، وأنا أمي فاطمة بنت أسد لما قرب وضع حملها کانت في الحرم فانشق حائط الکعبة وسمعت قائلاً يقول: أدخلي فدخلت في وسط البيت، وأنا ولدت فيه، وليس لأحد هذه الفضيلة، لا قبلي ولا بعدي.







  1. سورة المجادلة، الآية: 22.
  2. سورة البقرة، الآية: 35.
  3. سورة القصص، الآية: 33.
  4. سورة النمل، الآية: 10.