الغارات الثلاث علي بلاد الإمام











الغارات الثلاث علي بلاد الإمام



بسم الله الرحمن الرحيم

لما وقع التحکيم في صفين وحصل الانشقاق والافتراق في أصحاب الإمام وتکونت الخوارج انتهز معاوية الفرصة فکان يرسل الجيوش إلي بلاد الإمام (عليه السلام) ويفتک بالناس ويهاجمهم غدرا وصبرا.

وقد تکررت منه هذه الجريمة والجناية، ونقتطف ثلاث غارات شنها معاوية علي المسلمين وأقام المجازر والمذابح وبلغ أقصي مراتب القساوة والوحشية والهمجية، نذکر لکم کل غارة بشي ء من التفصيل: الغارة الأولي روي ابن أبي الحديد عن ابن الکنوز قال: حدثني سفيان بن عوف الغامدي قال: دعاني معاوية فقال: إني باعثک في جيش ذي أداة وجلادة، فالزم لي جانب الفرات حتي تمر ب(هيت) فتقطعها، فإن وجدت بها جندا فأغِر عليهم، وإلا فامض حتي تغير علي الأنبار، فإن لم تجد بها جندا فامض حتي توغل المدائن ثم أقبل إلي: واتق أن تقرب الکوفة واعلم: أنک إن أغرت علي الأنبار وأهل المدائن فکأنک أغرت علي الکوفة إن هذه الغارات يا سفيان: علي أهل العرق ترعب قلوبهم وتفرح کل من له فينا هوي منهم، وتدعو إلينا کل من خاف الدوائر، فاقتل من لقيته ممن ليس هو علي مثل رأيک، واخرب کل ما مررت به من القري، وصرب الأموال شبيه بالقتل، وهو أوجع للقلب.

هذه وصايا معاوية، هکذا يأمر عميله بالقتل والحرق والهدم والسلب والنهب بقوم مسلمين مؤمنين، ومع ذلک هو أميرالمؤمنين!! قال سفيان: فخرجت من عنده فعسکرت، وقام معاوية في الناس فخطبهم فقال: أيها الناس، انتدبوا مع سفيان بن عوف فإنه وجه عظيم فيه أجر، سريعة فيه أوبتکم إن شاء الله.

ثم نزل.

فو الله الذي لا إله غيره ما مرت ثالثة حتي خرجت في ستة آلاف، ثم لزمت شاطئ الفرات، فأغذذت (أسرعت) السير حتي أمر بهيت فبلغهم أني قد غشيتهم فقطعوا الفرات فمررت بها وما بها غريب، کأنها لم تحلل قط، فوطأتها حتي أمر بصدوراء ففروا، فلم ألق بها أحدا، فأمضي حتي أفتتح الأنبار، وقد أنذروا بي، فخرج صاحب المسلحة إلي، فوقف فلم أقدم عليه حتي أخذت غلمانا من أهل القرية فقلت لهم: أخبروني کم بالأنبار من أصحاب علي؟ قالوا: عدة رجال المسلحة خمسمائة، ولکنهم تبددوا ورجعوا إلي الکوفة، ولا ندري الذي يکون فيها، قد يکون مائتي رجل.

فنزلت فکتبت أصحابي کتائب، ثم أخذت أبعثهم إليه کتيبة بعد کتيبة، فيقاتلهم والله ويصبر لهم ويطاردهم، ويطاردونه في الأزقة، فلما رأيت ذلک أنزلت إليهم نحوا من مأتين، وأتبعتهم الخيل، فلما حملت الخيل وأمامها الرجال تمشي لم يکن شي ء حتي تفرقوا، وقتل صاحبهم في نحو ثلاثين رجلا، وحملنا ما کان من الأنبار من الأموال، ثم انصرفت، فوالله ما غزوت غزاة کانت أسلم ولا أقر للعيون، ولا أسر للنفوس منها وبلغني أنها رعبت الناس، فلما عدت إلي معاوية حدثته الحديث علي وجهه فقال: کنت عند ظني بک.

ولا تنزل في بلد من بلداني إلا قضيت فيه مثل ما يقضي فيه أميره، وإن أحببت تولية وليتک، وليس لأحد من خلق الله عليک أمر دوني...

الخ.

وصلت هذه الأخبار إلي الإمام (عليه السلام) فصعد المنبر فخطب الناس وقال: إن أخاکم البکري عامل الأنبار قد أصيب، وهو اختار ما عند الله علي الدنيا فانتدبوا إليهم حتي تلاقوهم فإن أصبتم منهم طرفاً أنکتموهم عن العراق أبدا ما بقوا.

ثم سکت عنهم رجاء أن يجيبوه أو يتکلم منهم متکلم، فلم ينبس أحد منهم بکلمة، فلما رأي صمتهم نزل وخرج يمشي حتي أتي النخيلة والناس خلفه حتي أحاط به القوم من أشرافهم، فقالوا: ارجع يا أميرالمؤمنين: نحن نکفيک فقال: ما تکفونني، ولا تکفون أنفسکم!! فلم يزالوا به حتي صرفوه إلي منزله، فرجع وهو واجم ساکت کئيب، ودعي سعيد بت قيس الهمداني.

فبعثه من النخيلة في ثمانية آلاف وذلک أنه أخبر أن القوم جاءوا في جمع کثيف فخرج سعيد بن قيس علي شاطئ الفرات في طلب سفيان بن عوف حتي إذا بلغ عانات سرح أمامه هاني بن الخطاب الهمداني فاتبع آثارهم حتي أدني قنسرين، فقد فاتوه فانصرف.

ولبث الإمام (عليه السلام) تري فيه الکآبة والحزن حتي قدم سعيد بن قيس، وکان (عليه السلام) تلک الأيام عليلا، فلم يقو علي القيام في الناس بما يريده من القول، فجلس بباب السدة التي تصل إلي المسجد، ومعه ابناه الحسن والحسين (عليهماالسلام) وعبدالله بن جعفر، ودعا سعدا مولاه فدفع إليه الکتاب وأمره أن يقرأ علي الناس، فقام سعد بحيث يستمع أميرالمؤمنين صوته، ثم قرأ الخطبة: أما بعد: فإن الجهاد باب من أبواب الجنة فتحه الله لخاصة أوليائه وهو لباس التقوي، ودرع الله الحصينة، وجنته الوثيقة، فمن ترکه رغبة عنه ألبسه الله ثوب الذل، وشملة البلاء، وديث بالصغار والقمار، وضرب علي قلبه بالأسداد وأديل الحق منه بتضييع الجهاد، وسيم الخسف، ومنع النصف.

ألا:

وإني قد دعوتکم إلي قتال القوم ليلاً ونهاراً، وسراً وإعلاناً، وقلت لکم: أغزوهم قبل أن يغزوکم، فوالله ما غزي قوم قط في عقر دارهم إلا ذلوا.

فتواکلتم وتخاذلتم حتي شنت عليکم الغارات وملکت عليکم الأوطان، وهذا أخو غامد قد وردت خيله الأنبار وقد قتل حسان البکري وأزال خيلکم عن مسالحها.

ولقد بلغني: أن الرجل منهم کان يدخل علي المرأة المسلمة والأخري المعاهدة، فينتزع منها حجلها وقلبها وقلائدها ورعاثها ما تمتنع منه إلا بالاسترجاع والاسترحام، ثم انصرفوا وافرين، ما نال رجلا منهم کلم ولا أريق لهم دم، فلو أن امرءً مسلما مات بعد هذا أسفا ما کان به ملوما، بل کان به عندي جديرا.

فيا عجباً، عجباً والله يميت القلب، ويجلب الهم من اجتماع هؤلاء القوم علي باطلهم وتفرقکم عن حقکم، فقبحا لکم وترحا! حين صرتم غرضا يرمي! يغار عليکم ولا تغيرون وتغزون ولا تغزون، ويعصي الله وترضون فإذا أمرتکم بالسير إليهم في أيام الحر قلتم: هذه حمارة القيظ أمهلنا يسبخ عنا الحر.

وإذا أمرتکم بالسير إليهم في الشتاء قلتم: هذه صبارة القر أمهلنا ينسلخ عنا البرد.

کل هذا فرارا من الحر والقر، فإذا کنتم من الحر والقر تفرون فأنتم والله من السيف أفر.

يا أشباه الرجال ولا رجال! حلوم الأطفال! وعقول ربات الحجال! لوددت أني لم أرکم ولم أعرفکم معرفة والله جرت ندما وأعقبت سدماً! قاتلکم الله! لقد ملأتم قلبي قيحاً، وشحنتم صدري غيظا، وجرعتموني نغب التهمام علي أنفاسا، وأفسدتم علي رأيي بالعصيان والخذلان، حتي قالت قريش: إن أبي طالب رجل شجاع ولکن لا علم له بالحرب!! لله أبوهم! وهل أحد منهم أشد مراساً وأقدم فيها مقاماً مني؟ ولقد نهضت فيها وما بلغت العشرين، وها أنا ذا قد ذرفت علي الستين، ولکن لا رأي لمن لا يطاع!!. الغارة الثانية وهذه جناية أخري قام بها أحد عملاء معاوية وهو بسر بن أرطأة أو ابن أبي أرطأة.

روي ابن أبي الحديد: أن قوماً بصنعاء اليمن کانوا من أتباع عثمان يعظمون قتله، لم يکن لهم نظام ولا رأس، فبايعوا لعلي (عليه السلام) علي ما في أنفسهم، وعامل أميرالمؤمنين علي صنعاء يومئذ عبيدالله بن العباس وعامله علي الجند سعيد بن نمران، فلما اختلف الناس علي علي (عليه السلام) بالعراق وقتل محمد بن أبي بکر بمصر، وکثرت غارات أهل الشام، تکلموا ودعوا إلي الطلب بدم عثمان، فبلغ ذلک عبيدالله بن العباس فأرسل إلي الناس من وجوههم، ما هذا الذي بلغني عنکم؟ قالوا: إنا نفکر في قتل عثمان، ونري مجاهدة من سعي عليه.

فحبسهم، فکتبوا إلي من في الجند من أصحابهم فساروا بسعيد بن نمران وأخرجوه من الجند، وأظهروا أمرهم، وخرج إليهم من کان بصنعاء وانضم إليهم کل من کان علي رأيهم، ولحق بهم قوم لم يکونوا علي رأيهم، إرادة أن يمنعوا الصدقة، فالتقي عبيدالله بن العباس يسعيد بن نمران ومعهما شيعة علي (عليه السلام)، فقال ابن العباس لابن نمران: والله لقد اجتمع هؤلاء، وإنهم لنا لمقاربون وإن قاتلناهم لا نعلم علي من تکون الدائرة؟ فهلم لنکتب إلي أميرالمؤمنين (عليه السلام) بخبرهم.

فکتب إلي أميرالمؤمنين (عليه السلام): أما بعد.

فإنا نخبر أميرالمؤمنين أن أتباع عثمان وثبوا بنا، وأظهروا أن معاوية قد شيد أمره، واتسق له أکثر الناس وإنا سرنا بشيعة أميرالمؤمنين، ومن کان علي طاعته، إلخ.

فلما وصل کتابهما ساء عليا (عليه السلام) وأغضبه، وکتب إليهما: من علي أميرالمؤمنين إلي عبيدالله بن العباس وسعيد بن نمران.

سلام الله عليکما، فإني أحمد إليکما الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد.

فإنه لما أتاني کتابکما تذکران فيه خروج هذه الخارجة وتعظمان من شأنها صغيرا، وتکثران من عددها قليلا، وقد علمت أن نخب جبن أفئدتکما وصغر أنفسکما، وشتات رأيکما وسوء تدبيرکما هو الذي أفسد عليکما من کان عن لقائکما جبانا، فإذا قام رسولي عليکما فامضيا إلي القوم حتي تقرئا عليهم کتابي إليهم، وتدعواهم إلي حظهم، وتقوي ربهم، فإن أجابوا حمدنا الله وقبلناهم، وإن حاربوا استعنا بالله عليهم ونابذناهم علي سواء إن الله لا يحب کيد الخائنين.

فکتب (عليه السلام): من عبدالله علي أميرالمؤمنين إلي من شاق وغدر من أهل الجند وصنعاء.

أما بعد: فإني أحمد الله الذي لا إله إلا هو، الذي لا يعقب له حکم ولا يرد له قضاء، ولا يرد بأسه عن القوم المجرمين، وقد بلغني تجرؤکم وشقاؤکم وإعراضکم عن ديتکم بعد الطاعة، وإعطاء البيعة، فسألت أهل الدين الخالص والورع الصادق واللب الراجح عن بدء مخرجکم وما نويتم به وما أحمشکم له فحدثت عن ذلک بما لم أر لکم في شي ء عذرا منه مبينا، ولا مقالا جميلا ولا حجة ظاهرة، فإذا أتاکم رسولي فتفرقوا، وانصرفوا إلي رحابکم، أعف عنکم، وأصفح عن جاهلکم وأحفظ قاصيکم، وأعمل فيکم بحکم الکتاب، فإن لم تفعلوا فاستعدوا لقدوم جيش جم الفرسان، عظيم الأرکان يقصد لمن طغي وعصي، فتظحنوا کطحن الرحي، فمن أحسن فلنفسه، ومن أساء فعليها وما ربک بظلام للعبيد.

وأرسل الکتاب مع رجل من همدان، فقدم عليهم بالکتاب، فلم يجيبوه إلي خير، فقال لهم: إني ترکت أميرالمؤمنين يريد أن يوجه إليکم يزيد بن قيس الأرحبي في جيش کثيف، فلم يمنعه إلا انتظار جوابکم.

فقالوا: نحن سامعون إن عزل عنا هذين الرجلين عبيدالله وسعيدا.

فرجع الهمداني إلي علي (عليه السلام) فأخبره خبر القوم، وکتبت تلک العصابة حينئذ إلي معاوية يخبرونه، فلما قدم کتابهم دعا معاوية بسر بن أرطأة، وکان قاسي القلب، فظا سفاکا للدماء، لا رأفة عنده ولا رحمة فأمره أن يأخذ طريق الحجاز ومکة حتي ينتهي إلي اليمن، وقال له: لا تنزل علي بلد علي طاعة علي إلا بسطت عليهم لسانک حتي يروا أنهم لا نجاة لهم، وأنک محيط بهم ثم اکفف عنهم، وادعهم إلي البيعة لي! فمن أبي فاقتله، واقتل شيعة علي حيث کانوا!! سار بسر بن أرطأة في ثلاثة آلاف، وکان إذا وردوا ماء أخذوا إبل أهل ذلک الماء فرکبوها، وقادوا خيولهم حتي يردوا الماء الآخر فيردون تلک الإبل، وبرکبون إبل هؤلاء لئلا يصل الخبر إلي البلاد التي يقصدونها فلم يزل يصنع ذلک حتي قرب المدينة فاستقبلتهم قضاعة ينحرون لهم الجزر حتي دخلوا المدينة، وعامل علي (عليه السلام) علي المدينة يومئذ: أبوأيوب الأنصاري صاحب منزل رسول الله (صلّي الله عليه وآله)، فخرج عنها هاربا، ودخل بسر المدينة فخطب الناس وشتمهم وتهددهم يومئذ وتوعدهم، وقال: شاهت الوجوه، إن الله تعالي ضرب مثلا: (قرية کانت آمنة مطمئنة، يأتيها رزقها رغدا فکفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف).[1] .

وقد أوقع الله تعالي ذلک المثل بکم وجعلکم أهله، کان بلدکم مهاجر النبي ومنزله، وفيه قبره ومنازل الخلفاء من بعده، فلم تشکروا نعمة ربکم ولم ترعوا حق نبيکم، وقتل خليفة الله بين أظهرکم، فکنتم بين قاتل وخاذل، ومتربص وشامت، إن کان للمؤمنين قلتم: ألم نکن معکم؟! وإن کان للکافرين نصيب قلتم: ألم نستحوذ عليکم ونمنعکم من المؤمنين؟!.

ثم شتم الأنصار فقال: يا معشر اليهود! وأبناء بني زريق! وبني النجار، وبني سالم وبني عبد الأشهل! والله لأوقعکن بکم وقعة تشفي غليل صدور المؤمنين، وآل عثمان، أما والله لأدعنکم أحاديث کالأمم السالفة!!.

فتهددهم حتي خاف الناس أن يوقع بهم، ففزعوا إلي حويطب بن عبد العزي، ويقال إنه زوج أمه.

فصعد إليه المنبر وناشده، وقال: عترتک وأنصار رسول الله، وليست بقتلة عثمان.

فلم يزل به حتي سکن ودعا الناس إلي بيعة معاوية فبايعوه ونزل، فأحرق دورا کثيرة.

منها دار زرارة بن حرون، ودار أبي أيوب الأنصاري، وفقد جابر بن عبدالله الأنصاري فقال: ما لي لا أري جابرا؟ يا بني سلمة.

لا أمان لکم عندي أو أن تأتوني بجابر.

فعاذ جابر بأم سلمة زوجة النبي، فأرسلت إلي بسر بن أرطأة فقال: لا آمنه حتي يبايع.

فقالت أم سلمة اذهب فبايع.

وقالت لابنها عمر:اذهب فبايع، فذهبا فبايعاه.

ثم خرج إلي مکة، فلما قرب منها هرب قثم بن العباس، وکان عامل علي (عليه السلام) ودخلها بسر، فشتم أهل مکة وأنبهم، ثم خرج عنهم واستعمل عليهم شيبة بن عثمان، وفي طريقه من المدينة قتل رجالا وأخذ أموالا، ثم دخل الطائف وشتم وقتل، ثم دخل نجران وشتم وقتل، حتي دخل صنعاء، وقد خرج عنها عبيدالله بن العباس وسعيد بن نمران، وقد استخلف عبيدالله عليها عمرو بن أراکة، فمنع بسرا عن دخولها، وقاتله فقتله بسر ودخل صنعاء فقتل منها قوما، وأتاه وفد مأرب فقتلهم فلم ينج منهم إلا رجل واحد.

ثم خرج بسر من صنعاء، فأتي أهل جلسان وهم شيعة علي (عليه السلام) فقاتلهم وقاتلوه فهزمهم، وقتلهم قتلا ذريعا، ثم رجع إلي صنعاء فقتل بها مائة شيخ من أبناء فارس، لأن ابني عبيدالله بن العباس کانا مستترين في بيت إمرأة من أبنائهم وذبح بسر ابني عبيدالله بمدية کانت معه، (وکانا طفلين صغيرين وهما: عبدالرحمن وقثم) فلما أراد ذبحهما قيل: وکانا عند رجل من بني کنانة، فقال له الکناني: ولم تقتل هذين ولا ذنب لهما؟ فإن کنت قاتلهما فاقتلني معهما.

قال: أفعل.

فقتله، ثم ذبحهما (!!)، فخرجت نسوة من بني کنانة، فقالت إمرأة: يا هذا قتلت الرجال فعلام تقتل هذين؟ والله ما کانوا يقتلون في الجاهلية والإسلام!!

والله يا بن أرطأة إن سلطانا لا يقوم إلا بقتل الصبي الصغير، والشيخ الکبير، ونزع الرحمة، وعقوق الأرحام لسطان سوء!! فلما سمعت أم الطفلين خبر ذبح ولديها أصابها وله علي ابنيها، فکانت لا تعقل ولا تصغي إلا قول من أعلمها أنهما قد قتلا، ولا تزال تطوف في الموسم تنشد الناس ابنيها بهذه الأبيات:


ها من أحس بابني اللذين هما
کالدرتين تشظي عنهما الصدف


يا من أحس بابني اللذين هما
سمعي وقلبي اليوم مردهف


يا من أحس بابني اللذين هما
مخ العظام فمخي اليوم مختطف


نبئت بسرا وما صدقت ما زعموا
من قولهم، ومن الإفک الذي اقترفوا


أنحي علي ودجي ابني مرهفة
مشحوذة، وکذاک الإفک يقترف


حتي لقيت رجالاً من أرومته
شم الأنوف في قومهم شرف


فالآن ألعن بسراً حق لعنته
هذا لعمر أبي بسر هو السرف


من دل والهة حري مولهة
علي حبيبين ضلا إذ غدي السلف


ولما بلغت هذه الأخبار إلي أميرالمؤمنين (عليه السلام) جزع جزعا شديدا، ودعا علي بسر لعنه الله وقال: اللهم أسلبه دينه، ولا تخرجه من الدنيا حتي تسلبه عقله.

فأصابه ذلک وفقد عقله، وکان يهذي بالسيف ويطلبه فيؤتي بسيف من خشب ويجعل بين يديه زق منفوخ، فلا يزال يضربه حتي يسأم أو يغشي عليه إلي أن مات عليه لعنة الله.

وبلغ عدد القتلي الذين قتلهم بسر في الحجاز واليمن ثلاثين ألفا، سوي الذين أحرقهم بالنار، وعدا الدور التي هدمها.

والخطب الأفظع الذي ارتکبه عميل معاوية بسر بن أرطأة هم أنه لما أغار علي قبيلة همدان، وهم شيعة علي أميرالمؤمنين (عليه السلام): قتل رجالهم وسبي نساءهم، فکن أول مسلمات سبين في الإسلام، ولقد أشار سيدنا أبوذر الغفاري إلي هذه الجناية التي تقشعر منها الجلود جلود أهل الغيرة والحمية والإيمان بقوله: وأما يوم العورة: فإن نساء من المسلمات يسبين، فيکشف عن سوقهن جمع ساق فأيتهن کانت أعظم ساقا اشتريت علي عظم ساقها، فدعوت الله أن لا يدرکني هذا الزمان.

فصدرت هذه الجناية من بسر بن أرطأة.

أنه بعد أن سبي نساء الشيعة من همدان وذهب بهم إلي الشام فأقامهن في السوق، وعرضهن للبيع کما ذکرنا.

ووصلت هذه الأخبار الفجيعة إلي أميرالمؤمنين وهو في الکوفة وکان (عليه السلام) يجلس کل يوم في موضع من المسجد الأعظم يسبح به بعد الغداة إلي طلوع الشمس، فلما طلعت نهض إلي المنبر فضرب بإصبعيه علي راحته وهو يقول: ما هي إلا الکوفة، ما هي إلا الکوفة، أقبضها وأبسطها، إن لم تکوني إلا أنت، تهب أعاصيرک، فقبحک الله، ثم تمثل بقول الشاعر:


لعمر أبيک الخير يا عمرو: إنني
علي وضر من ذا الإناء قليل


ثم قال:

أنبئت بسرا قد اطلع علي اليمن، وإني والله لأظن أن هؤلاء القوم سيدالون منکم باجتماعهم علي باطلهم وتفرقکم عن حقکم، وبمعصيتکم إمامکم في الحق، وطاعتهم إمامهم في الباطل وبأدائهم الأمانة إلي صاحبهم وخيانتکم صاحبکم، وبصلاحهم في بلادهم وفسادکم، فلو ائتمنت أحدکم علي قعب لخشيت أن يذهب بعلاقته: اللهم: إني قد مللتهم وملوني، وسئمتهم وسئموني، فأبدلني بهم خيرا منهم، وأبدلهم شرا مني، اللهم مث قلوبهم کما يماث الملح في الماء.

أما والله لوددت أن لي بکم ألف فارس من بني فراس بن غنم:


هنالک لو دعوت أتاک منهم
فوارس مثل أرمية الحميم


ثم نزل (عليه السلام) من المنبر. الغارة الثالثة ذکر ابن أبي الحديد أنه أرسل معاوية النعمان بن بشير وآباهريرة إلي أميرالمؤمنين عليه الصلاة والسلام يسألانه أن يدفع قتلة عثمان إلي معاوية ليقتص منهم، لعل الحرب أن تطفأ ويصطلح الناس، وإنما أراد معاوية أن يرجع مثل النعمان وأبي هريرة من عند علي (عليه السلام) وهم لمعاوية عاذرون ولعلي لائمون، لأن معاوية کان يعلم أن عليا لا يدفع قتلة عثمان إليه، فأراد أن يکون هذان يشهدان له عند أهل الشام بذلک، وأن يظهر عذره.

فقال لهما معاوية: ائتيا عليا فانشداه الله وسلاه (اسألاه) بالله لما دفع إلينا قتلة عثمان، فإنه قد آواهم أو منعهم، ثم لا حرب بيننا وبينه، فإن أبي فکونوا شهداء لي عليه وأقبلا علي الناس وأعلماهم ذلک.

فأتيا عليا (عليه السلام) فدخلا عليه فقال أبوهريرة: يا أباالحسن، إن الله قد جعل لک في الإسلام فضلا وشرفا: أنت ابن عم محمد رسول الله وقد بعثنا إليک ابن عمک معاوية يسألک أمرا تسکن به هذه الحرب، ويصلح الله تعالي به ذات البين.

أن تدفع إليه قتلة عثمان ابن عمه فيقتلهم به، ويجمع الله تعالي أمرک وأمره، ويصلح بينکم وتسلم هذه الأمة من الفتنة والفرقة.

ثم تکلم النعمان بنحو من هذا، فقال (عليه السلام): دعا الکلام في هذا، حدثني يا نعمان: أنت أهدي قومک سبيلا؟ (يعني الأنصار) فقال: لا.

قال فکل قومک تبعني إلا شذاذ منهم ثلاثة أو أربعة أفتکون أنت من الشذاذ؟ فقال النعمان: أصلحک الله إنما جئت لأکون معک وألزمک، وقد کان معاوية سألني أن أؤدي هذا الکلام، ورجوت أن يکون لي موقف أجتمع فيه معک، وطمعت أن يجري الله بينکما صلحا، فإذا کان غير هذا رأيک فأنا ملازم وکائن معک.

فأما أبوهريرة فلحق بالشام، وأقام النعمان عند علي (عليه السلام)، فأخبر أبوهريرة معاوية بالخبر فأمره أن يعلم الناس ففعل، وأقام النعمان بعده، ثم خرج فارا من علي (عليه السلام) حتي إذا مر بعين التمر، أخذه مالک بن کعب الأرحبي وکان عامل علي عليها، فأراد حبسه وقال له: ما مر بک هيهنا؟ قال: إنما أنا رسول، بلغت رسالة صاحبي ثم انصرفت.

فحبسه مالک وقال: کما أنت حتي أکتب إلي علي فيک.

فناشده، وعظم عليه أن يکتب إلي علي فيه، فأرسل النعمان إلي قرطة بن کعب الأنصاري وهو کاتب عين التمر يجبي خراجها لعلي (عليه السلام)، فجاءه مسرعا فقال لمالک: خل سبيل ابن عمي يرحمک الله.

فقال يا قرطة اتق الله ولا تتکلم في هذا فإنه إن کان من عباد الأنصار ونساکهم کيف يهرب من أميرالمؤمنين إلي أمير المنافقين؟.

فلم يزل يقسم عليه حتي خلي سبيله وقال له: يا هذا الأمان اليوم والليلة وغدا، والله لئن أدرکتک بعدها لأضربن عنقک.

فخرج مسرعا لا يلوي علي شي ء، وذهبت به راحلته فلم يدر أين تتئکع من الأرض ثلاثة أيام لا يعلم أين هو، ثم قدم إلي معاوية فخبره بما لقي، ولم يزل معه مصاحبا له، يجاهد عليا ويتبع قتلة عثمان حتي غزي الضحاک بن قيس أرض العراق ثم انصرف إلي معاوية، فقال معاوية: أما من رجل أبعث معه بجريدة خيل حتي يغير علي شاطئ الفرات فإن الله يرعب بها أهل العراق؟ فقال له النعمان: فابعثني فإن لي في قتالهم نية وهوي وکان النعمان عثمانيا قال: فانتدب علي اسم الله.

فانتدب وندب معه ألفي رجل وأوصاه أن يتجنب المدن والجماعات، وأن لا يغير إلا علي مسلحة، وأن يعجل الرجوع.

فأقبل النعمان حتي دني من عين التمر، وبها مالک بن کعب الأرحبي الذي جري له ما ذکرناه ومع مالک ألف رجل، وقد أذن لهم، فقد رجعوا إلي الکوفة، فلم يبق معه إلا مائة أو نحوها، فکتب مالک إلي علي (عليه السلام): أما بعد: فإن النعمان بن بشير قد نزل بي في جمع کثيف، فمر رأيک سددک الله تعالي وثبتک والسلام.

فوصل الکتاب إلي علي (عليه السلام)، فصعد المنبر، فحمد الله وأثني عليه ثم قال: أخرجوا هداکم الله إلي مالک بن کعب أخيکم، فإن النعمان بن بشير قد نزل في جمع من أهل الشام ليس بالکثير فانهضوا إلي إخوانکم لعل الله يقطع بکم من الکافرين طرفا.

ثم نزل، فلم يخرجوا، فأرسل إلي وجوههم وکبرائهم فأمر أن ينهضوا ويحثوا الناس علي المسير فلم يصنعوا شيئا.

واجتمع منهم نفر يسير نحو ثلاثمائة فارس أو دونها فقام (عليه السلام) فقال: (منيت بمن لا يطيع إذا أمرت، ولا يجيب إذا دعوت، لا أباً لکم ما تنتظرون بنصرکم ربکم؟ أما دين يجمعکم؟ ولا حمية تحمشکم؟ أقوم فيکم مستصرخا، وأناديکم متغوثا فلا تسمعون لي قولا، ولا تطيعون لي أمرا، حتي تکشف الأمور عن عواقب المساءة، فما يدرک بکم ثأر، ولا يبلغ بکم مرام، دعوتکم إلي نصرة إخوانکم، فجرجرتم جرجرة الجمل الأسر، وتثاقلتم تثاقل الأدبر، ثم خرج إلي منکم جنيد متذائب ضعيف کأنما يساقون إلي الموت وهم ينظرون).







  1. سورة النحل، الآية: 112.