علي والخوارج











علي والخوارج



بسم الله الرحمن الرحيم

لما تقرر التحکيم غادر الإمام (عليه السلام) صفين وقصد نحو الکوفة، وبقي في الکوفة، فوقع تحکيم الحکمين، وأنتج ذلک التحکيم خلع الإمام (عليه السلام) عن الإمامة وتثبيت معاوية، ومن هنا تکون مذهب الخوارج وکان الإمام (عليه السلام) ينتظر انقضاء السنة...

وهي مدة الهدنة التي بينه وبين معاوية ليرجع إلي المقاتلة والحرب، وإذا بأربعة آلاف فارس من أصحابه العباد والنساک قد تکتلوا کتلة واحدة ضد الإمام فخرجوا من الکوفة لإعلان المخالفة، وقالوا: لا حکم إلا لله، ولا طاعة لمن عصي الله!! وانضمت إليهم جماعة أخري وهم ثمانية آلاف ممن يري رأيهم فصاروا اثني عشر ألفا، من أهل الکوفة والبصرة وغيرها وساروا إلي أن نزلوا الحروراء، ونادي مناديهم: إن أمير القتال شبث بن ربعي، وأمير الصلاة عبدالله بن الکوا، والأمر شوري بعد الفتح، والبيعة لله علي الأمر بالمعروف والنهي عن المنکر.

فدخل زرعة الطائي وحرقوص بن زهير ذو الثدية فقالا: لا حکم إلا لله.

فقال علي (عليه السلام): کلمة حق يراد بها الباطل.

قال ذو الثدية: فتب من خطيئتک، وارجع عن قصتک، واخرج بنا إلي عدونا نقاتلهم حتي نلقي ربنا.

فقال (عليه السلام): قد أردتکم علي ذلک فعصيتموني، وقد کتبنا بيننا وبين القوم کتابا وشروطا، وأعطينا عليها عهودا ومواثيق، وقد قال الله تعالي: (وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم).[1] .

قال ذو الثدية: ذلک ذنب ينبغي أن تتوب عنه.

فقال (عليه السلام): ما هو بذنب ولکنه عجز من الرأي وضعف في العقل، وقد تقدمت فنهيتکم عنه.

فقال ابن الکوا: الآن صح عندنا أنک لست بإمام، ولو کنت إماما لما رجعت.

فقال (عليه السلام) ويلکم قد رجع رسول الله (صلّي الله عليه وآله) عام الحديبية عن قتال أهل مکة.

وقال زرعة: أما والله لئن لم تتب من تحکيمک الرجال لأقتلنک أطلب بذلک وجه الله ورضوانه! فقال (عليه السلام): بؤساً لک! ما أشقاک! کأني بک قتيلا، تسفي عليه الرياح، قال زرعة: وددت أنه کان ذلک.

بعث الإمام أميرالمؤمنين (عليه السلام) صعصعة بن صوحان مع زياد بن نضر وعبدالله بن العباس إلي القوم فلم يرتدعوا، فدعي الإمام صعصعة وقال له: بأي القوم رأيتم أشد طاعة؟ فقال صعصعة: بيزيد بن قيس الأرحبي، فرکب (عليه السلام) إلي حروراء حتي وصل إلي خيمة يزيد بن قيس فصلي فيه رکعتين ثم خرج، فاتکأ علي قوسه، وأقبل علي الناس فقال: هذا مقام من فلج فيه فلج إلي يوم القيامة، ثم کلمهم وناشدهم فقال لهم: ألا تعلمون أن هؤلاء القوم لما رفعوا المصاحف قلت لکم: إن هذه مکيدة ووهن، ولو أنهم قصدوا إلي حکم المصاحف لأتوني وسألوني التحکيم؟ أفتعلمون أن أحدا أکره إلي التحکيم مني؟ قالوا: صدقت.

قال: فهل تعلمون أنکم استکرهتموني علي ذلکم حتي أجبتکم، فأشرطت أن حکمهما: نافذ ما حکما بحکم الله، فمتي خالفاه فأنا وأنتم من ذلک براء، وأنتم تعلمون أن حکم الله لا يعدوني؟

فقال ابن الکواء: حکمت في دين الله برأينا، ونحن مقرون بأنا کفرنا ولکن تائبون فأقرر بمثل ما أقررنا به، وتب ننهض معک إلي الشام.

فقال (عليه السلام): أما تعلمون أن الله قد أمر بالتحکيم في شقاق بين الرجل وامرأته؟ فقال: (فابعثوا حکما من أهله وحکماً من أهلها)،[2] وفي صيد (کأرنب) يساوي نصف درهم فقال: (يحکم به ذوا عدل منکم).

فقالوا: فإن عمرو بن العاص لما أبي عليک أن تقول في کتابک هذا ما کتبه عبدالله علي أميرالمؤمنين محوت اسمک من الخلافة وکتبت علي بن أبي طالب، فقد خلعت نفسک.

فقال (عليه السلام): لي أسوة برسول الله (صلّي الله عليه وآله) حين أبي عليه سهيل بن عمرو أن يکتب: هذا ما کتبه محمد رسول الله (صلّي الله عليه وآله) وسهيل بن عمرو وقال: لو أقررت بأنک رسول الله ما خالفتک، ولکني أقدمک لفضلک، فاکتب محمد بن عبدالله فقال لي: يا علي، امح رسول الله.

فقلت: يا رسول الله لا تشجعني نفسي علي محو اسمک من النبوة.

فقضي عليه فمحاه بيده ثم قال: اکتب محمد بن عبدالله.

ثم تبسم إلي وقال: إنک لتسام مثلها فتعطي.

فقالوا: إنا أذنبنا ذنبا عظيما، وقد تبنا، فتب إلي الله کما تبنا نعد لک.

فقال علي (عليه السلام): أستغفر الله من کل ذنب.

فرجعوا معه منهم ستة آلاف فلما استقروا بالکوفة أشاعوا: أن عليا رجع عن التحکيم ورآه ضلالا، وقالوا: إنما ينتظر أن يسمن الکراع ويجي ء المال ثم ينهض بنا إلي الشام.

فأتي الأشعث عليا (عليه السلام) فقال: يا أميرالمؤمنين إن الناس قد تحدثوا: أنک رأيت الحکومة تحکيم الحکمين ضلالاً والإقامة عليها کفراً.

فقام علي (عليه السلام) فخطب فقال: من زعم أني رجعت عن الحکمين فقد کذب، ومن رآها ضلالة فقد ضل.

فخرجت الخوارج من المسجد، ثم توجهت إلي النهروان.

ووقعت لهم في طريقهم إلي النهروان طرائف عجيبة وقضايا مبکية ومضحکة، فمنها: أنهم وجدوا مسلما ونصرانيا في طريقهم، فقتلوا المسلم لأنه عندهم کافر إذ کان علي خلاف معتقدهم، واستوصوا بالنصراني وقالوا: احفظوا ذمة نبيکم.

ووثب رجل منهم علي رطبة سقطت من نخلة فوضعها في فمه فصاحوا به، فلفظها تورعا.

ورأي أحدهم خنزيرا فضربه وقتله، فقالوا: هذا فساد في الأرض وأنکروا قتل الخنزير.

وساوموا رجلا نصرانيا بنخلة له فقالوا: ما کنا لنأخذها إلا بالثمن، فقال النصراني: واعجباه أتقتلون مثل عبدالله بن خباب ولا تقبلون منا نخلة إلا بالثمن؟! وأما عبدالله بن خباب الأزدي، فإنه کان راکبا علي حمار ومعه زوجته وهي حامل فقالوا له: حدثنا.


قال سمعت أبي يقول: قال رسول الله: ستکون بعدي فتنة، يموت فيها قلب الرجل کما يموت بدنه، يمسي مؤمنا ويصبح کافرا فکن عند الله المقتول ولا تکن القاتل.

قالوا: فما تقول في أبي بکر وعمر؟ فأثني خيرا.

قالوا: فما تقول في علي قبل التحکيم؟ وفي عثمان في السنين الست الأخيرة؟ فأثني خيرا.

قالوا: فما تقول في علي بعد التحکيم والحکومة؟ قال: إن عليا أعلم بالله وأشد توقياً علي دينه، وأنفذ بصيرة.

قالوا: إنک تتبع الهوي، إنما تتبع الرجال علي أسمائهم، ثم قربوه إلي شاطئ النهر فأضجعوه وذبحوه، ثم عمدوا إلي امرأته فشقوا بطنها وهي حامل! وصل القوم إلي النهروان وتوجه الإمام (عليه السلام) بجيشه إليهم، فقال (عليه السلام): يا ابن عباس امض إلي هؤلاء القوم، فانظر ما هم عليه، ولماذا اجتمعوا؟ فلما وصل إليهم، دار بينهم ما يلي: الخوارج.

ويحک يا ابن عباس: کفرت بربک کما کفر صاحبک علي بن أبي طالب! وخرج خطيبهم عتاب بن الأعور التغلبي فسأله ابن عباس:

ابن عباس: من بني الإسلام؟

عتاب: الله ورسوله.

ابن عباس: النبي أحکم أموره وبين حدوده أم لا؟

عتاب: بلي.

ابن عباس: فالنبي بقي في دار الإسلام أم ارتحل؟

عتاب: بل ارتحل.

ابن عباس: فأمور الشرع ارتحلت معه أم بقيت؟

عتاب: بل بقيت بعده.

ابن عباس: فهل قام أحد بعده بعمارة ما بناه؟

عتاب: نعم الذرية والصحابة.

ابن عباس: فعمروها أو خربوها.

عتاب: بل عمروها.

ابن عباس: فالآن هي معمورة أم خراب؟

عتاب: بل خراب.

ابن عباس: خربها ذريته أم أمته؟

عتاب: بل أمته.

ابن عباس: أنت من الذرية أو من الأمة؟

عتاب: من الأمة.

ابن عباس: أنت من الأمة وخربت دار الإسلام فکيف ترجو الجنة؟

فقالوا: ليخرج إلينا علي بنفسه لنسمع کلامه عسي أن يزول ما بأنفسنا إذا سمعناه فرجع ابن عباس فأخبره، فرکب (عليه السلام) في جماعة، ومضي إليهم فرکب ابن الکوا في جماعة منهم، فلما التقوا قال الإمام (عليه السلام): يا بن الکوا إن الکلام کثير، فأبرز إلي من أصحابک لأکلمک.

فقال: وأنا آمن من سيفک؟ قال (عليه السلام): نعم.

فخرج إليه في عشرة من أصحابه فقال له علي (عليه السلام): ألم أقل لکم إن أهل الشام إنما يخدعونکم بها الحکومة ورفع المصاحف وغير ذلک فإن الحرب قد عضتهم فذروني أناجزهم فأبيتم؟ ألم أرد نصب ابن عمي ابن عباس وقلت: إنه لا ينخدع فأبيتم إلا أباموسي؟ وقلتم: رضينا به حکما.

فأجبتکم کارها؟ ولو وجدت في ذلک الوقت أعوانا غيرکم لما أجبتکم، وشرطت علي الحکمين بحضورکم.

أن يحکما بما أنزل الله من فاتحته إلي خاتمته.

والسنة الجامعة، وإنهما إن لم يفعلا فلا طاعة لهما علي؟ کان ذلک أو لم يکن؟ قال ابن الکواء: صدقت، کان هذا کله، فلم لا نرجع الآن إلي حرب القوم؟ قال الإمام (عليه السلام): حتي تنقضي المدة التي بيننا وبينهم.

قال ابن الکوا: وأنت مجمع علي ذلک؟ قال (عليه السلام): نعم، لا يسعني غيره، فعاد ابن الکواء والعشرة الذين معه إلي أصحاب علي (عليه السلام) راجعين عن دين الخوارج وتفرق الباقون وهم يقولون: لا حکم إلا لله.

وأمروا عليهم عبدالله بن وهب الراسبي وذا الثدية، وعسکروا بالنهروان، وخرج الإمام (عليه السلام) حتي بقي علي فرسخين منهم، وکاتبهم وراسلهم، فلم يرتدعوا، فأمر الإمام ابن عباس أن يرکب إليهم، وقال: سلهم ما الذي نقموه؟ وأنا ردفک فلا تخف منهم.

فلما جاءهم ابن عباس قال: ما الذي نقمتم من أميرالمؤمنين؟ قالوا: نقمنا أشياء لو کان حاضراً لکفرناه بها!! والإمام يسمع کلامهم فقال ابن عباس: يا أميرالمؤمنين قد سمعت کلامهم وأنت أحق بالجواب.

فتقدم (عليه السلام) وقال: أيها الناس أنا علي بن أبي طالب، فتکلموا بما نقمتم علي.

قالوا: نقمنا عليک أولا: إنا قاتلنا بين يديک بالبصرة، فلما أظفرک الله بهم أبحتنا ما في عسکرهم ومنعتنا النساء والذرية، فکيف حل لنا ما في المعسکر ولم يحل لنا النساء؟ فقال (عليه السلام): يا هؤلاء، إن أهل البصرة قاتلونا بالقتال، فلما ظفرتم بهم قسمتم سلب من قاتلکم، ومنعتکم من النساء والذرية، فإن النساء لم يقاتلن، ولدوا علي الفطرة، ولم ينکثوا ولا ذنب لهم، ولقد رأيت رسول الله (صلّي الله عليه وآله) من علي المشرکين، فلا تعجبوا إن مننت علي المسلمين فلم أسب نساءهم ولا ذريتهم.

قالوا: نقمنا عليک يوم صفين کونک محوت اسمک من إمرة المؤمنين فإذن لم تکن أميرنا، ولست أميرا لنا!! قال (عليه السلام): يا هؤلاء إنما اقتديت برسول الله (صلّي الله عليه وآله) حين صالح سهيل بن عمرو وقد تقدمت عنهم في ذلک الوقت.

قالوا: نقمنا عليک.

أنک قلت للحکمين: انظروا کتاب الله، فإن کنت أفضل من معاوية فأثبتاني في الخلافة.

فإذا کنت شاکا في نفسک فنحن فيک أشد وأعظم شکا! قال (عليه السلام): إنما أردت بذلک النصفة الإنصاف فإني لو قلت: أحکما لي دون معاوية لم يرض ولم يقبل، ولو قال النبي (صلّي الله عليه وآله) لنصاري نجران لما قدموا عليه: تعالوا نبتهل فأجعل لعنة الله عليکم.

فلم يرضوا، ولکن أنصفهم من نفسه کما أمره الله فقال: (فنجعل لعنة الله علي الکافرين)[3] فأنصفهم من نفسه، فکذلک فعلت أنا ولم أعلم بما أراد عمرو بن العاص من خدعة أبي موسي.

قالوا: فإنا نقمنا عليک أنک حکمت حکما في حق هو لک.

فقال (عليه السلام): إن رسول الله (صلّي الله عليه وآله) حکم سعد بن معاذ في بني قريظة ولو شاء لم يفعل، وأنا اقتديت به، فهل بقي عندکم شي ء؟ فسکتوا وصاح جماعة منهم من کل جانب: التوبة التوبة يا أميرالمؤمنين فأعطي أميرالمؤمنين راية أمان مع أبي أيوب الأنصاري، فناداهم أبوأيوب من جاء إلي هذه الراية أو خرج من الجماعة فهو آمن.

فرجع منهم ثمانية آلاف، فأمر (عليه السلام) المستأمنين بالاعتزال وبقي أربعة آلاف منهم مستعدين للقتال، فخطبهم الإمام ووعظهم فلم يرتدعوا، وصاح مناديهم فيهم: دعوا مخاطبة علي وأصحابه، وبادروا إلي الجنة.

وصاحوا: الرواح إلي الجنة!! وتقدم حرقوص ذو الثدية وعبدالله بن وهب وقالا: ما نريد بقتالنا إياک إلا وجه الله والدار الآخرة، فقال (عليه السلام): (هل أنبئکم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا)[4] فکان أول من خرج أخنس بن العزيز الطائي، فقتله الإمام (عليه السلام) وخرج عبدالله بن وهب ومالک بن الوضاح، وخرج أميرالمؤمنين (عليه السلام) وقتل الوضاح وضرب ضربة علي رأس الحرقوص وقتله، وأمر أصحابه بالهجوم علي العدو.عند ذلک استعرت الحرب والتهبت نيرانها، وأما عبدالله بن وهب الراسبي فصاح: يا ابن أبي طالب: والله لا نبرح من هذه المعرکة حتي تأتي علي أنفسنا ونأتي علي نفسک، فأبرز إلي وأبرز إليک، وذر الناس جانبا، فلما سمع الإمام کلامه تبسم وقال: قاتله الله من رجل ما أقل حياءه، أما أنه ليعلم إني حليف السيف وخدين الرمح، ولکنه قد يئس من الحياة، وإنه ليطمع طمعا کاذبا، ثم حمل عليه الإمام فضربه وقتله وألحقه بأصحابه في النار، واختلط الجيشان فلم تکن إلا ساعة حتي قتلوا بأجمعهم وکانوا أربعة آلاف، ولم ينج منهم إلا تسعة أنفس: رجلان هربا إلي خراسان إلي أرض سجستان وبها نسلهما، ورجلان صارا إلي اليمن وفيهما نسلهما (وهم الإباضية)، ورجلان صارا إلي بلاد الجزيرة إلي موضع يعرف بالسن والبواريخ نواحي تکريت في شمال العراق والباقون تفرقوا في البلاد.

وقتل من أصحاب علي (عليه السلام) بعدد من سلم من الخوارج.







  1. سورة النحل، الآية: 91.
  2. سورة النساء، الآية: 35.
  3. سورة آل عمران، الآية: 61.
  4. سورة الکهف، الآيتان: 103 و 104.