علي في صفين











علي في صفين



بسم الله الرحمن الرحيم

حديثنا الليلة حول الحرب الثانية التي وقعت في أيام أميرالمؤمنين (عليه السلام) وهي واقعة صفين، تلک المجزرة الرهيبة، التي تقشعر الجلود من استماع الحوادث، والفجائع التي وقعت في تلک المعرکة، وضياع الحق وغلبة الباطل عن طريق الخدعة والغدر والمکر والتزوير، وتتجلي صحيفة أميرالمؤمنين نقية بيضاء متلألئة، وتتمثل فيها العدالة والتقوي والورع، نذکرها في صورة موجزة: لما انتهت غزوة الجمل في البصرة ووضعت الحرب أوزارها، ورجع الإمام (عليه السلام) إلي الکوفة مظفرا منصورا، بعث کتابا إلي معاوية يأمره بأخذ البيعة له (عليه السلام)، وبعث الکتاب بيد رجل إلي الشام، وجمع معاوية بعض مشاهير الشام وأمرهم بإشاعة هذا الخبر وإذاعته فيما بين الناس: (أن عليا قتل عثمان، ومعاوية ولي دم عثمان، فيجب الطلب بثأر عثمان ودمه) 9 وأعانه علي هذه الفکرة عمرو بن العاص واشترط علي معاوية أنه إذا بايعه وأعانه علي حرب الإمام أميرالمؤمنين (عليه السلام) وأخرجوا مصر من تحت سلطة أميرالمؤمنين (عليه السلام) يکون عمرو بن العاص والياً وأميراً علي مصر، فبايعه علي ذلک وبايع أهل الشام معاوية أيضا.

فنهض معاوية بجيشه الجرار وأقبل إلي (صفين)، وهو اسم أرض کبيرة واسعة، مستعداً للقتال ونهض الإمام أميرالمؤمنين (عليه السلام) بعسکره إلي ذلک المکان وبعد أيام من وصوله استعرت نار الحرب فيما بين الفريقين وجرت أنهار من الدماء، وتکونت أتلال وجبال من الأجساد المضرجة من القتلي من الفريقين.

فقد وصل أبوالأعور السلمي وهو علي مقدمة جيش معاوية إلي منطقة صفين، الکائنة بالقرب من مدينة الرقة في سوريا، ونزلا منزلا اختاروه واسعا واستولوا علي شريعة الفرات.

فوصل مالک الأشتر ومعه أربعة آلاف رجل وهم مقدمة الجيش العلوي، فاصطدموا بأبي الأعور وأزالوهم عن الفرات، فوصل معاوية مع الجيش الجرار، فانسحب الأشتر عن الفرات، فاستولي معاوية وأصحابه علي شاطئ الفرات وصار الماء لديهم فوصل الإمام أميرالمؤمنين (عليه السلام) ومعه مائة ألف إنسان ويزيدون، فأمر الإمام الجيش أن ينزلوا ويضعوا أثقالهم وأحمالهم، وتسرع بعضهم إلي ناحية معاوية واقتتلوا قتالا قليلا.

وتقدم طائفة من الناس إلي الفرات ليستقوا فمنعهم أهل الشام فأرسل الإمام (عليه السلام) صعصعة بن صوحان إلي معاوية رسولا يعاتبه علي تسرعه بالاستيلاء علي الماء وجري هنا کلام طويل.

کان عمرو بن العاص ينصح معاوية ويأمره أن يفسح المجال لأصحاب علي ليشربوا، ولکن غرور معاوية منعه عن قبول النصيحة، وخاصة بعد أن استولي أصحابه استيلاء تاما علي الفرات، حتي قال معاوية: يا أهل الشام هذا أول الظفر، لا سقاني الله ولا أباسفيان إن شربوا منه حتي يقتلوا بأجمعهم.

وتباشر أهل الشام من هذه البشري السارة وهي التغلب علي العدو عن طريق حبس الماء، فقام رجل من أهل الشام همداني متعبد وقال: يا معاوية سبحان الله سبقتم القوم إلي الفرات وتمنعونهم الماء؟ أما الله لو سبقوکم إليه لسقوکم منه، أليس أعظم ما تنالون من القوم أن تمنعوهم الفرات؟ أما تعلمون أن فيهم العبد والأمة والأجير والضعيف ومن لا ذنب له؟؟ هذا والله أول الجور.

فأغلط له معاوية في الکلام وقال لعمرو: اکفني صديقک، فأتاه عمرو وقابله بالکلام الخشن، فسار الهمذاني في سواد الليل حتي لحق بعلي (عليه السلام).

ومکث أصحاب علي (عليه السلام) يوما وليلة بغير ماء، واغتم الإمام (عليه السلام) من عطش أصحابه، لأنهم باتوا في البر عطاشا، قد حيل بينهم وبين الورود إلي الماء، فقال عمرو بن العاص لمعاوية: إن عليا لا يموت عطشا، هو وتسعون من أهل العراق وسيوفهم علي عواتقهم، ولکن دعهم يشربون وتشرب.

فقال معاوية: لا والله أو يموتون عطشا کما مات عثمان.

وخرج الإمام في تلک الليلة يدور في عسکره فسمع قائلا يقول:


أيمنعنا القوم ماء الفرات؟
وفينا علي وفينا الهدي


وفينا الصلاة وفينا الصيام
وفينا المناجون تحت الدجي


ثم مر بآخر فسمعه يقول:


أيمنعنا القوم ماء الفرات؟
وفينا الرماح وفينا الحجف


وفينا علي له صولة..
إذا خوفوه الردي لم يخف


ونحن غداة لقينا الزبير
وطلحة خضنا غمار التلف


فما بالنا أمس أسد العرين
وما بالنا اليوم شاء عجف


وألقي علي الأشعث رقعة فيها شعر، فلما قرأها هاجت فيه الحمية، ودخل علي الإمام.

فقال: يا أميرالمؤمنين أيمنعنا القوم ماء الفرات وأنت فينا والسيوف في أيدينا؟ خل عنا وعن القوم، فوالله لا نرجع حتي نرده أو نموت.

فقال الإمام: ذلک إليکم.

فرجع الأشعث فنادي في الناس: من يريد الماء أو الموت فميعاده موضع کذا، فإني ناهض.

فخرج اثنا عشر ألف رجل من قبيلة کندة وغيرهم، واضعي سيوفهم علي عواتقهم، وأقبل الأشتر بخيله فحملوا علي الفرات حملة رجل واحد وأخذت السيوف أهل الشام، فولوا مدبرين حتي غمست خيل أميرالمؤمنين سنابکها في الفرات واستولوا علي الماء، وأزالوا أباالأعور عن الشريعة وغرقوا منهم بشرا وخيلا، وارتحل معاوية عن ذلک الموضع، ولما صار الماء بأيدهم قالوا: لا والله لا نسقيهم، فأرسل إليهم أميرالمؤمنين: أن خذوا حاجتکم من الماء وارجعوا إلي معسکرکم، وخلوا بينکم وبين الماء فإن الله قد نصرکم عليهم بظلمهم وبغيهم، وقالوا له: أمنعهم الماء کما منعوک، فقال: لا، خلوا بينهم وبينه، لا أفعل ما فعله الجاهلون، واستأذنه معاوية في وروده المشرعة فأباح الإمام له ذلک.

کان الإمام (عليه السلام) يحاول المحافظة علي السلم والسلام والأمان کما فعل يوم الجمل فلم يزل يرسل الأفراد إلي معاوية للتفاهم وحسم النزاع وکان معاوية مصرا علي الحرب والقتال.

وأخيرا اشتعلت نار الحرب واصطدم العسکران، فزحف بعضهم علي بعض، وتراموا بالنبال والحجارة حتي فنيت، ثم تطاعنوا بالرماح حتي تکسرت ومشي بعضهم إلي بعض السيوف وعمد الحديد، فلم يسمع السامعون إلا وقع الحديد بعضه علي بعض، وانکسفت الشمس وأمطرت السماء دما، وحملت الأفواج علي الأفواج.

وحيث أن الحرب کانت قد طالت علي الفريقين أراد کل جانب إنهاء الأمر وسئموا البقاء هناک، ولهذا تبادروا إلي القتال واستمرت الحرب ستة وثلاثين ساعة، واقترب الجيش العلوي من مقر قيادة الجيش الأموي وطلب معاوية فرسا لينهزم، وکان أهل الشام ينادون: يا معشر العرب: الله الله في الحرمات من النساء والبنات، الله الله في البقية، لقد فنيت العرب... الخ.

اقترب الجيش العلوي من الفتح، ولاح لهم الظفر والنصر وتوجه الخطر إلي معاوية ولم يستطع المقاومة إلا عن طريق الخدعة والمکر، فأمر معاوية أصحابه في جوف الليل أن يربطوا المصاحف علي رؤوس الرماح، وأصبح الصباح وإذا بأهل العراق يشاهدون خمسمائة مصحف علي رؤوس الرماح وأهل الشام ينادون بما تقدم من کلامهم، ويستعطفون أهل العراق ويطلبون منهم ترک الحرب، وکان آخر کلامهم: هذا کتاب الله بيننا وبينکم.

فقال الإمام: اللهم إنک تعلم أنهم ما الکتاب يريدون.

ومن هنا اختلف أصحاب علي، فطائفة قالت: القتال، وطائفة قالت: المحاکمة إلي الکتاب، ولا يحل لنا الحرب وقد دعينا إلي حکم الکتاب.

فعند ذلک بطلت الحرب ووضعت أوزارها، وکان عدي بن حاتم يري أن الفتح والنصر قد اقترب، ويطلب من الإمام إدامة الحرب، وقام عمرو بن الحمق وطلب من الإمام أم يعمل بما يري، فقام الأشعث بن قيس وقابل هؤلاء بالکلام الخشن وطلب کف القتال.

فقال الأمام: إني أحق من أجاب إلي کتاب الله، ولکن معاوية وعمرو بن العاص وابن أبي معيط وابن أبي سرح وابن مسلمة ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن، وإني أعرف بهم منکم، صحبتهم صغارا ورجالا فکانوا شر صغار وشر رجال!!

ويحکم! إنها کلمة حق يراد بها الباطل، إنهم ما رفعوها أنهم يعرفونها ويعملون بها، ولکنها الخديعة والوهن والمکيدة، أعيروني سواعدکم وجماجمکم ساعة واحدة فقد بلغ الحق مقطعه، ولم يبق إلا أن يقطع دابر الذين ظلموا.

استمرت الحرب من يوم شروعها إلي صبيحة ليلة الهرير مائة وعشرة أيام وبلغ عدد القتلي من أهل الشام تسعين ألفا ومن أهل العراق عشرين ألفا والمجموع مائة وعشرة آلاف کما ذکره المسعودي.

فجاء الإمام من أصحابه زهاء عشرين ألفا مقنعين في الحديد حاملي سيوفهم علي عواتقهم، وقد اسودت جباههم من کثرة السجود، وهم الذين صاروا بعد ذلک خوارج، فنادوا الإمام باسمه لا بإمرة المؤمنين وقالوا: يا علي أجب القوم إلي کتاب الله إذا دعيت إليه، وإلا قتلناک کما قتلنا ابن عفان، فو الله لنفعلها إن لم تجبهم.

فقال الإمام (عليه السلام): ويحکم!! أنا أول من دعا إلي کتاب الله، وأول من أجاب...

ولکني قد أعلمتکم أنهم قد کادوکم، وأنهم ليس العمل بالقرآن يريدون.

کان مالک الأشتر في تلک الساعة يقاتل ويتقدم لحظة بعد لحظة، وجيش معاوية کان ينسحب وينقرض ساعة بعد ساعة ولو أمهلوا الأشتر ساعة واحدة لانتهت الحرب.

فصاح هؤلاء: يا أميرالمؤمنين ابعث إلي الأشتر ليأتيک.

فبعث الإمام رجلا إلي الأشتر: أن ائتني.

فقال الأشتر: ليس هذه بالساعة التي ينبغي لک أن تزيلني عن موقفي، إني قد رجوت الفتح فلا تعجلني.

رجع الرسول فأخبر الإمام، وحمل الأشتر علي أهل الشام وظهرت علامات الفتح، ولکن القوم قالوا: يا أميرالمؤمنين ما نراک إلا أمرته بالقتال.

فقال الإمام: أرأيتموني شاورت رسولي إليه؟ أليس إنما کلمته علي رؤوسکم علانية وأنتم تسمعون؟ فقالوا: ابعث إليه، وإلا فوالله اعتزلناک!! فذهب الرسول إلي الأشتر وأخبره عن اختلاف القوم، وما کان الأشتر يحب مغادرة جبهة القتال في تلک الساعة الحرجة فقال له الرسول: أتحب أنک ظفرت ههنا، وأن أميرالمؤمنين بمکانه الذي هو فيه يفرج عنه ويسلم إلي عدوه؟؟، فقال الأشتر: سبحان الله!! لا والله، لا أحب ذلک فقال الرسول: فإنهم قد حلفوا عليه لترسلن إلي الأشتر فليأتيک أو لنقتلنک بأسيافنا کما قتلنا عثمان أو لنسلمک إلي عدوک!! أقبل الأشتر مغضبا وصاح بالقوم: يا أهل الذل والوهن أحين علوتم القوم وظنوا أنکم قاهرون رفعوا المصاحف يدعونکم إلي ما فيها...

فلا تجيبوهم، أمهلوني فإني قد أحسست بالفتح.

قالوا: لا نمهلک.

جري کلام طويل وعتاب بين الأشتر والقوم وآل الأمر إلي السب والشتم والصياح، فصاح بهم الإمام، فکفوا، فصاح القوم: أم أميرالمؤمنين قد رضي المحاکمة بحکم القرآن.

کان الإمام ساکتا لا يتکلم، والقوم يتکلمون، ولما سکتوا قال الإمام: أيها الناس إن أمري لم يزل معکم علي ما أحب إلي أن أخذت منکم الحرب...

إلا: إني أمس أميرالمؤمنين فأصبحت اليوم مأمورا وکنت ناهيا فأصبحت منهيا، وقد أحببتم البقاء وليس لي أن أحملکم علي ما تکرهون.

اضطرب أقوال الرجال وقام الرؤساء وتکلموا بما تکلموا من الموافقة علي رأي الإمام ورفض المحاکمة، ولکن المهرجين نشروا هذه الکلمة: إن أميرالمؤمنين رضي التحکيم.

ودخل الأشعث بن قيس رأس الفساد واستأذن من الإمام ليکون رسولا إلي معاوية فأذن له الإمام، فجاء الأشعث ودخل علي معاوية وقال: لأي شي ء رفعتم هذه المصاحف؟ فقال معاوية: لنرجع إلي ما أمر الله به فيها، فابعثوا رجلا منکم ترضون به، ونبعث رجلا منا، ونأخذ عليهما أن يعملا بما في کتاب الله، ولا يعدوانه، ثم نتبع ما اتفقنا عليه.

فرجع الأشعث.

فأقبل جماعة من أصحاب الإمام وجماعة من أصحاب معاوية واجتمعوا بين الصفين وتذاکروا حول انتخاب (الحکم) فانتخب أهل الشام عمرو بن العاص، وانتخب الأشعث ونظراؤه أباموسي الأشعري فرفض الإمام أباموسي ولم يرض به، وقال الأشعث وجماعة: لا نرضي إلا به، فلم يوافق الإمام وانتخب ابن عباس ليکون (حکما) فلم يرض الأشعث بابن عباس لأنه من أقارب الإمام فاختار الأشتر فلم يرضوا به.

جادل الأشعث بکل وقاحة وصلافة، ورد علي الإمام جميع مقترحاته وبقي مصرا علي الأشعري، فقال الإمام: فاصنعوا ما شئتم! وکان يصفق بيديه ويقول: يا عجبا! أعصي ويطاع معاوية؟!

أرسلوا إلي أبي موسي وکان في الشام فجاء إلي معسکر الإمام، فجاء الأشتر ورشح نفسه ليکون هو الحکم، وجاء الأحنف بن قيس وحذر الإمام من الأشعري وعجزه وضعف نفسه ورشح نفسه للحکم فوافق الإمام علي ذلک، ولکن الناس رفضوا وقالوا: لا يکون إلا أباموسي.

وکتبوا کتاب الموادعة وهذه صورته: هذا ما تقاضي عليه علي أميرالمؤمنين معاوية بن أبي سفيان...

فلما قرأ معاوية الکتاب قال: بئس الرجل أنا إن أقررت أنه أميرالمؤمنين ثم قاتلته!! أعيد الکتاب إلي الإمام وأخبروه فأمر الإمام بمحو کلمة (أميرالمؤمنين) فنهاه الأحنف عن ذلک، فقال الأشعث: أمح هذا الاسم...!! فقال الإمام: إن هذا اليوم کيوم الحديبية حين کتب الکتاب عن رسول الله (صلّي الله عليه وآله): هذا ما صالح عليه محمد رسول الله وسهيل بن عمرو...

فقال سهيل: لو أعلم أنک رسول الله لم أقاتلک ولم أخالفک، إني إذن لظالم لک...

ولکن أکتب: محمد بن عبدالله.

فقال رسول الله (صلّي الله عليه وآله): يا علي إني لرسول الله وأنا محمد بن عبدالله، ولن يمحو عني الرسالة کتابي لهم.

إن ذلک الکتاب أنا کتبته بيننا وبين المشرکين، واليوم أکتبه إلي أبنائهم کما کان رسول الله کتبه إلي آبائهم شبها ومثلا.

فقال عمرو بن العاص: سبحان الله! أتشبهنا بالکفار ونحن مسلمون؟ فقال الإمام: يا بن النابغة ومتي لم تکن للکافرين وليا وللمسلمين عدوا؟ ولما أرادوا تنظيم الکتاب سألوا الإمام: أتقر أنهم مسلمون مؤمنون؟ فقال الإمام: ما أقر لمعاوية ولا لأصحابه أنهم مؤمنون ولا مسلمون ولکن يکتب معاوية ما شاء ويقر بما شاء لنفسه ولأصحابه ويسمي نفسه بما شاء وأصحابه.

فکتبوا الکتاب، وکان في أعلي الکتاب خاتم أميرالمؤمنين وفي أسفله خاتم معاوية وشهد الشهود عليها وخرج الأشعث بالکتاب وقرأه علي أهل العراق فهاج الناس وظهرت الفتنة والانقسام والتفرقة وتکونت الخوارج وصاحوا: لا حکم إلا لله.

فأين قتلانا يا أشعث؟ وحمل بعضهم علي الأشعث ليقتله.

وأقبل الناس إلي الإمام مستنکرين للحکومة وطلبوا من الإمام نقض العهد والرجوع إلي الحرب فقال الإمام: ويحکم! أبعد الرضا والميثاق والعهد نرجع؟ أليس الله تعالي قد قال: أوفوا بالعقود؟ وقال: (أوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الإيمان بعد توکيدها، وقد جعلتم الله عليکم کفيلاً).[1] .

فبرأ الخوارج من الإمام وبرأ منهم، وأقبل الجيش يستأذنون الإمام بالهجوم علي معاوية فقال الإمام (عليه السلام): لو کان هذا قبل المعاهدة وسطر الصحيفة لأزلتهم عن عسکرهم.

توجه الأشعري للاجتماع بابن العاص للمحاکمة، فحذره الناس عن ابن العاص وغدره ومکيدته وسوء سوابقه حتي يتخذ التدابير اللازمة ويکون علي بصيرة من أمره، ولکن کان کل هذا بلا جدوي بلي کانت النتيجة معکوسة.

اجتمع الحکمان في المکان المعد لهما فقال عمرو: تکلم يا أباموسي فقال الأشعري: بل أنت تکلم.

فقال عمرو: ما کنت لأفعل وأقدم نفسي قبلک، ولک حقوق کلها واجبة...

فتکلم أبوموسي فقال عمرو: إن للکلام أولاً وآخراً ومتي تنازعنا الکلام لم نبلغ آخره حتي ننسي أوله، فاجعل ما کان من کلام بيننا في کتاب يصير إليه أمرنا؟ فقال أبوموسي: اکتب، دعي عمرو بصحيفة وکاتب.

وبعد سؤال وجواب وخداع وتزوير قال الأشعري: قد علمت أن أهل العراق لا يحبون معاوية أبدا، وأن أهل الشام لا يحبون عليا أبدا، فهلم نخلعهما ونستخلف عبدالله بن عمر بن الخطاب.

فقال عمرو: أيفعل ابن عمر؟ قال: نعم، إذا حمله الناس علي فعل ذلک فعل.

فقال عمرو: فهل لک في سعد بن أبي وقاص؟ قال: لا.

فذکر ابن العاص جماعة والأشعري لا يرضي بهم.

فقال عمرو: قم واخطب.

فقال الأشعري: قم أنت واخطب فامتنع ابن العاص وقام الأشعري وخرج من الخيمة وقد اجتمع أربعمائة رجل من أصحاب الإمام ومثلهم من أصحاب معاوية.

فقام الأشعري وخطب خطبة وقال: أيها الناس إنا نظرنا في أمرنا فرأينا أقرب ما يحضرنا من الأمن والصلاح ولم الشعث وحقن الدماء وجمع الألفة خلعنا عليا ومعاوية، وقد خلعت عليا کما خلعت عمامتي هذه، وخلع عمامته...

وقام عمرو وقال: أيها الناس إن أباموسي عبدالله بن قيس قد خلع عليا وأخرجه من هذا الأمر الذي يطلب، وهو أعلم به، ألا وأني خلعت عليا وأثبت معاوية علي وعليکم...

فقال الأشعري کذب عمرو ولم نستخلف معاوية ولکنا خلعنا معاوية وعليا! فقال عمرو بل کذب عبدالله بن قيس قد خلع عليا ولم أخلع معاوية.

فقال الأشعري: ما لک؟ لا وفقک الله غدرت وفجرت، إنما مثلک کمثل الکلب إن تحمل عليه يلهث أو تترکه يلهث.

فقال عمرو: بل إياک يلعن الله، کذبت وغدرت إنما مثلک کمثل الحمار يحمل أسفارا.

فضرب عمرو أباموسي فسقط وضرب شريح عمراً بالسوط، فرکب الأشعري راحلته وتوجه إلي مکة وحلف أن لا ينظر في وجه علي.







  1. سورة النحل، الآية: 91.