علي يوم الجمل











علي يوم الجمل



بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله علي کل حال وصلي الله علي محمد وآله الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً.

انتهي الکلام في الليلة الماضية حول وفاة عثمان، وکانت مدة خلافته إحدي عشرة سنة وأحد عشر شهرا وثمانية عشر يوما.

اجتمعت الصحابة بعد مقتل عثمان في مسجد رسول الله (صلّي الله عليه وآله) وتشاوروا في أمر الإمامة، فأشار بعضهم بعلي (عليه السلام) وهم: عمار بن ياسر وأبوأيوب الأنصاري، وأبوالهيثم بن التيهان وغيرهم، فذکروا سابقة علي (عليه السلام) وفضله جهاده، فأجابهم الناس إليه، فقام کل واحد منهم خطيباً يذکر فضل علي، فمنهم من فضله علي أهل عصره، ومنهم من فضله علي جميع المسلمين عامة، فأتي الناس عليا ليبايعوه، فقال (عليه السلام): دعوني والتمسوا غيري، فإنا مستقبلون أمراً له وجوه، وله ألوان لا تقوم له القلوب.

فقالوا:ننشدک الله: ألا تري ما نحن فيه؟ ألا تري الفتنة؟ ألا تخاف الله؟وقال الشعبي: أقبل الناس إلي علي (عليه السلام) ليبايعوه، ومالوا إليه، فمدوا يده فکفها، وبسطوها فقبضها حتي بايعوه.

قال (عليه السلام): لا حاجة لي في أمرتکم، فمن اخترتم رضيت به.

فقالوا: ما نختار غيرک.

وترددوا إليه مراراً، وقالوا: والله ما نحن بفاعلين حتي نبايعک.

فقال (عليه السلام): ففي المسجد فإن بيعتي لا تکون خفية، ولا تکون إلا في المسجد وکان في بيته فخرج إلي المسجد، وعليه قميص وعمامة خز، ونعلاه في يده، متوکئاً علو قوسه، فبايعه الناس، وکان أول من بايعه من الناس: طلحة، ثم الزبير ثم بايعه المهاجرون والأنصار وسائر المسلمين.

ولما أراد طلحة والزبير أن يبايعا قال لهما أميرالمؤمنين: إن أحببتما أن تبايعاني وإن أحببتما بايعتکما؟ فقالا: بل نبايعک.

وجاءوا بسعد بن أبي وقاص فقال له علي: بايع.

قال: لا حتي يبايع الناس، والله ما عليک مني بأس.

فقال الإمام: خلوا سبيله.

وجاءوا بعبدالله بن عمر فقالوا: بايع.

فقال: لا، حتي يبايع الناس فقال (عليه السلام): ائتني بکفيل.

قال: لا أري کفيلا.

فقال الأشتر: دعني أضرب عنقه.

فقال الإمام: دعوه أنا کفيله!.

کان الازدحام علي الإمام علي بصورة مدهشة، وکاد الناس أن يقتل بعضهم بعضاً من شدة الازدحام.

فبويع له بالخلافة يوم الجمعة لثمانية عشر من ذي الحجة سنة خمس وثلاثين من الهجرة.

ومن ذلک اليوم نهض علي (عليه السلام) بأعباء الخلافة، وأول خطوة تقدم بها الإمام إلي العدالة هو تقسيم بيت مال المسلمين بالسوية وذلک في اليوم الثاني من بيعته، فصعد المنبر، فحمد الله وأثني عليه، وکان مما قال:أما بعد، لما قبض رسول الله (صلّي الله عليه وآله) استخلف الناس أبابکر، ثم استخلف أبوبکر عمر، فعمل بطريقه، ثم جعلها شوري بين ستة، فأفضي الأمر إلي عثمان، فعمل ما أنکرتم وعرفتم، ثم حصر، ثم قتل، ثم جئتموني فطلبتم إلي، وإنما أنا رجل منکم، لي ما لکم وعلي ما عليکم..

إلخ.

ثم التفت يمينا وشمالا فقال: ألا لا يقولن رجال منکم قد غمرتهم الدنيا فاتخذوا العقار وفجروا الأنهار ورکبوا الخيول الفارهة، واتخذوا الوصائف الروقة فصار ذلک عليهم عاراً وشناراً إذا منعتهم ما کانوا يخوضون فيه، وأصرتهم إلي حقوقهم التي يعملون، فينقمون ذلک ويستنکرون ويقولون: حرمنا ابن أبي طالب حقوقنا!! ألا وأيما رجل استجاب لله وللرسول، فصدق ملتنا، ودخل في ديننا واستقبل قبلتنا فقد استوجب حقوق الإسلام وحدوده، فأنتم عباد الله والمال مال الله، يقسم بينکم بالسوية، لا فضل لأحد علي أحد، وللمتقين غداً أحسن الجزاء وفضل الثواب.

وإذا کان غد إن شاء الله فاغدوا علينا، فإن عندنا مالاً نقسمه فيکم، ولا يتخلفن أحد منکم، عربي ولا عجمي، کان من أهل العطاء أو لم يکن، إذا کان مسلما حرا إلا حضر، أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم لي ولکم.

وعن عمار وابن عباس قالا: إنه (عليه السلام) لما صعد المنبر قال لنا: قوموا فتخللوا الصفوف، ونادوا هل من کاره؟ فتصارخ الناس من کل جانب: اللهم قد رضينا وسلمنا وأطعنا رسولک وابن عمه، فقال (عليه السلام): قم يا عمار إلي بيت المال، فأعط الناس، ثلاثة دنانير لکل إنسان وادفع لي ثلاثة دنانير!! فمضي عمار وأبوالهيثم وجماعة من المسلمين إلي بيت المال، ومضي أميرالمؤمنين إلي مسجد قباء يصلي فيه، فوجدوا ثلاثمائة ألف دينار، ووجدوا الناس مائة ألف فقال عمار: جاء والله الحق من ربکم، والله ما علم بالمال ولا بالناس وإن هذه الآية وجبت عليکم بها طاعة الرجل.

أول شي ء کرهه الناس من أميرالمؤمنين تقسيمه العطاء بالسوية فقد قال سهل بن حنيف: يا أميرالمؤمنين هذا غلامي بالأمس وقد أعتقته اليوم فقال (عليه السلام): نعطيه کما نعطيک!! وأمر الإمام أن يبدأوا في العطاء بالمهاجرين ثم يثنون بالأنصار ثم من حضر من الناس کلهم الأحمر والأسود.

تخلف من هذه القسمة يومئذ طلحة والزبير وعبدالله بن عمر وسعيد بن العاص ومروان بن الحکم ورجال من قريش، ومن هنا بدأت التفرقة ونشب الخلاف، وتولدت الفتنة.

وأقبل هؤلاء وجلسوا في ناحية من المسجد، ولم يجلسوا عند علي (عليه السلام) ثم قام الوليد بن عقبة فجاء إلي الإمام فقال: يا أباالحسن إنک قد وترتنا جميعاً، أما أنا: فقتلت أبي يوم بدر صبراً، وخذلت أخي يوم الدار بالأمس، وأما سعيد فقتلت أباه يوم بدر في الحرب وکان ثور قريش، وأما مروان فسخفت أباه عند عثمان إذ ضمه إليه، ونحن إخوانک ونظراؤک من بني عبدمناف، ونحن نبايعک اليوم علي أن تضع عنا ما أصبناه من المال في يوم عثمان وأن تقتل قتلة عثمان، وإنا إن خفناک ترکناک والتحقنا بالشام.

فقال (عليه السلام): أما ما ذکرتم من وتري إياکم فالحق وترکم، وأما وضعي عنکم ما أصبتم فليس لي أن أضع حق الله عنکم ولا عن غيرکم، وأما قتلي عثمان فلو لزمني قتلهم اليوم لقتلتهم أمس، ولکن لکم علي إن خفتموني أن أؤمنکم، وإن خفتکم أن أُسيّرکم.

فقام الوليد إلي أصحابه فحدثهم، فافترقوا علي إظهار العداوة وإشاعة الخلاف، لأن عماراً وعبدالله بن رافع وغيرهما لما قسموا المال بين الناس بالسوية أخذ علي (عليه السلام) مکتله ومسحاته ثم انطلق إلي بئر الملک فعمل فيها فأخذ الناس ذلک القسم حتي بلغوا الزبير وطلحة وعبدالله بن عمر فأمسکوا بأيديهم، وامتنعوا عن القبول وقالوا: هذا منکم أو من صاحبکم؟ فقالوا: هذا أمره، ولا نعمل إلا بأمره، قالوا استأذنوا لنا عليه.

قالوا: ما عليه إذن، هو ببئر الملک يعمل، فرکبوا دوابهم حتي جاءوا إليه فوجدوه في الشمس ومعه أجير له، فقالوا: إن الشمس حارة، فارتفع معنا إلي الظل.

فارتفع معهم إلي الظل، فقالوا: لنا قرابة من نبي الله، وسابقة وجهاد، وإنک أعطيتنا بالسوية، ولم يکن عمر وعثمان يعطوننا بالسوية، کانوا يفضلوننا علي غيرنا.

فقال (عليه السلام): فهذا قسم أبي بکر، وإلا تدعوا أبابکر وغيره، وهذا کتاب الله فانظروا ما لکم من حق فخذوه.

قالوا: فسابقتنا.

قال: أنتما أسبق مني؟ قالا: لا، فقرابتنا من النبي.

قال: أقرب من قرابتي؟ قالا: لا، فجهادنا.

قال: أعظم من جهادي؟ قالا: لا، قال: فو الله ما أنا في هذا المال وأجيري إلا بمنزلة سواء.

وفي اليوم الثاني جاء طلحة والزبير وجلسا في ناحية المسجد.

وجاء مروان بن الحکم وسعيد بن العاص وعبدالله الزبير وجلسوا عندهما، وکان هؤلاء قد امتنعوا عن أخذ قسمتهم من بيت المال وجعلوا يطعنون في أميرالمؤمنين (عليه السلام) والتفت عمار بن ياسر إلي أصحابه وهم جلوس عنده في ناحية أخري من المسجد قائلا: هلموا إلي هؤلاء النفر من إخوانکم فإنه قد بلغنا عنهم ورأينا ما نکره من الخلاف والطعن لإمامهم، وقد دخل أهل الجفاء بينهم وبين الزبير والأعسر العاق (طلحة).

قام عمار ومن معه حتي جلسوا عندهم فتکلم أبوالهيثم وقال: إن لکم لقدماً في الإسلام، وسابقة وقرابة من أميرالمؤمنين، وقد بلغنا عنکم طعن وسخط لأمير المؤمنين، فإن يکن لکما خاصة، فعاتبا ابن عمتکما، وإمامکما؟ وإن تکن النصيحة للمسلمين فلا تؤخراه عنه ونحن عون لکما فقد علمنا أن بني أمية لن تنصحکما أبداً، وقد عرفتما..

فقال أحمد: قد عرفتما عداوتهم لکما، وقد شرکتما في دم عثمان. وملأتما.

فسکت الزبير، وصاح طلحة بصوت عال: أفزعوا جميعاً مما تقولون، فإني قد عرفت إن في کل واحد منکم خطبة.

فتدخل عمار وأبدي النصيحة، وتقدم إبن الزبير وتکلم بکلام خشن فأمر عمار بإخراج ابن الزبير من المسجد، فقام الزبير منزعجاً من هذا العمل وخرج من المسجد، فقال عمار: لو لم يبق أحد إلا خالف علي بن أبي طالب لما خالفته، ولا زالت يدي مع يده، وذلک أن علياً لم يزل مع الحق منذ بعث الله محمد (صلّي الله عليه وآله) فإني أشهد أن لا ينبغي لأحد أن يفضل عليه أحداً.

فقام عمار وجماعة وجاءوا إلي أميرالمؤمنين، وأخبروه بانشقاق القوم وأنهم کرهوا الأسوة والقسمة بالسوية إلي آخر کلامهم.

فخرج الإمام ودخل المسجد وصعد المنبر وقال بعد الحمد والثناء علي الله: يا معشر المهاجرين والأنصار: أتمنون علي الله ورسوله بإسلامکم؟ بل الله يمن عليکم أن هداکم للإيمان إن کنتم صادقين، أنا أبوالحسن وکان يقولها إذا غضب ألا إن هذه الدنيا التي أصبحتم تتمنونها، وترغبون فيها، وأصبحت تغضبکم وترضيکم ليست بدارکم ولا منزلکم الذي خلقتم له، فلا تغرنکم، وأما هذا الفي ء (المال) فليس لأحد أثرة.

فقد فرغ الله من قسمته فهو مال الله، وأنتم عباد الله المسلمون وهذا کتاب الله، به أقررنا وله أسلمنا، وعهد نبينا بين أظهرنا فمن لم يرض فليتول کيف شاء، فإن العامل بطاعة الله الحاکم بحکم الله لا وحشة عليه! نزل الإمام عن المنبر وصلي رکعتين ثم بعث بعمار بن ياسر إلي طلحة والزبير وهما في ناحية المسجد، فدعاهما، فجاء طلحة والزبير، وجلسا عند أميرالمؤمنين (عليه السلام) فقال الإمام: نشدتکما الله؟ هل جئتماني طائعين للبيعة ودعوتماني إليها وأنا کاره لها؟ فقال الرجلان: نعم.

فقال الإمام: غير مجبورين ولا معسورين، فأسلمتما لي ببيعتکما أعطيتماني عهدکما؟؟ فقال الرجلان: نعم.

فقال الإمام: فما دعاکما إلي ما أري؟ فقال الرجلان: أعطيناک بيعتنا علي أن لا تقضي في الأمور، ولا تقطعها دوننا، وأن تستشيرنا في کل أمر، ولا تستبد بذلک علينا، ولنا من الفضل علي غيرنا ما قد علمت فأنت تقسم القسم وتقطع الأمور وتقضي الحکم بغير مشاورتنا ولا علمنا!! فقال الإمام غاضباً: لقد نقمتما يسيراً، وأرجأتما کثيراً، فاستغفرا الله يغفر لکما، ألا تخبراني! أدفعتمکا عن حق واجب لکما فظلمتکما إياه؟ فقال الرجلان: معاذ الله.

فقال الإمام: فهل استأثرت من هذا المال بشي ء؟ فقال الرجلان: معاذ الله، فقال الإمام: أفوقع حکم أوحد من المسلمين فجهلته أو ضعفت فيه؟ فقال الرجلان: معاذ الله.

فقال الإمام: فما الذي کرهتما من أمري حتي رأيتما خلافي؟ فقال الرجلان: خلافک عمر بن الخطاب في القسم، إنک جعلت حقنا في القسم، کحق غيرنا، وسويت بيننا وبين من لا يماثلنا فيها ما أفاء الله تعالي بأسيافنا ورماحنا، وأوجفنا عليه بخيلنا ورجلنا، وظهرت عليه دعوتنا، وأخذناه قسراً وقهراً ممن لا يري الإسلام إلا کرها.

فقال الإمام: أما ما ذکرتما من الاستشارة بکما فوالله ما کانت لي في الولاية رغبة ولکنکم دعوتموني إليها وجعلتموني عليها، فخفت أن أردکم فتختلف الأمة فلما أفضت إلي نظرت في کتاب الله وسنة رسوله فأمضيت ما دلاني عليه واتبعته، ولم أحتج إلي رأيکما فيه ولا رأي غيرکما، ولو وقع حکم ليس في کتاب الله بيانه ولا في السنة برهانه واحتيج إلي المشورة لشاورتکما فيه.

وأما القسم والأسوة: فإن ذلک لم أحکم فيه بادئ بدء، قد وجدت أنا وأنتما رسول الله (صلّي الله عليه وآله) يحکم بذلک، وکتاب الله ناطق به، وهو الکتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حکيم حميد.

وأما قولکما: (جعلت فيئنا وما أفاءته سيوفنا ورماحنا سواء بيننا وبين غيرنا فقديما سبق إلي الإسلام قوم، ونصروه بسيوفهم ورماحهم فلا فضلهم رسول الله بالقسم، ولا آثر بالسبق، والله سبحانه موف السابق والمجاهد يوم القيامة بأعمالهم وليس لکما والله عندي ولا لغيرکما إلا هذا، أخذ الله بقلوبنا وقلوبکم إلي الحق وألهمنا وإياکم الصبر، رحم الله امرئً رأي حقاً فأعان عليه، ورأي جوراً فردّه، وکان عونا للحق علي من خالفه).

قام طلحة والزبير وانصرفا من عند أميرالمؤمنين (عليه السلام) وهما مغضبان ساخطان، وقد عرفا ما کان غلب في ظنهما من رأيه وبعد يومين جاءا واستأذنا عليه فأذن لهما، فقالا: يا أميرالمؤمنين: قد عرفت حال هذه الأزمنة وما نحن فيه من الشدة، وقد جئناک لتدفع إلينا شيئا نصلح به أحوالنا ونقضي به حقوقاً علينا.

فقال أميرالمؤمنين: قد عرفتما مالي ب(ينبع) فإن شئتما کتبت لکما منه ما تيسر.

فقالا: لا حاجة لنا في مالک ب(ينبغ) فقال أميرالمؤمنين: ما أصنع؟ فقالا: اعطنا من بيت المال شيئاً لنا فيه کفاية.

فقال أميرالمؤمنين: سبحان الله وأي يد لي في بيت مال المسلمين؟ وأنا خازنهم أمين لهم، فإن شئتما رقيتما المنبر وسألتما ذلک من الناس ما شئتما فإن أذنوا فيه فعلت، وأني لي بذلک وهو لکافة المسلمين شاهدهم وغائبهم؟ ولکني أبدي لکما عذراً، فقالا: ما کنا بالذي نکلفک ذلک، ولو کلفناک لما أجابک المسلمون.

فقال أميرالمؤمنين: فما أصنع؟ فقالا: سمعنا ما عندک.

ثم حرج الرجلان من دار أميرالمؤمنين، وقد يئسا من بيت المال، فجعلا يفکران في کيفية الخروج إلي مکة، والالتحاق بعائشة، إلي أن صار رأيهما علي هذا وجاءا إلي أميرالمؤمنين (عليه السلام) وقت خلوته وقالا: قد جئناک نستأذنک للخروج في العمرة، لأنا بعيدا العهد بها.

فأذن لنا فيها.

فنظر أميرالمؤمنين في وجهيهما، وقرأ الغدر من فلتات لسانهما ودوران عيونهما، وقد احمر وجهه ولاح الغضب فيه فقال: والله ما تريدان العمرة، ولکنکما تريدان الغدرة، وإنکما تريدان البصرة.

فقال الرجلان: اللهم غفراً، ما نريد إلا العمرة.

فقال أميرالمؤمنين: احلفا لي بالله العظيم أنکما لا تفسدان علي أمر المسلمين، ولا تنکثان لي بيعة ولا تسعيان في فتنة.

فحلفا بالأيمان المؤکدة فيما استحلفهما عليه من ذلک فخرج الرجلان من عنده، فلقيهما ابن عباس سائلاً: أذن لکما أميرالمؤمنين؟ فقالا: نعم.

ودخل ابن عباس علي الإمام فابتدأ الإمام (عليه السلام) قائلاً: يا ابن عباس: أعندک الخبر؟ فقال ابن عباس: قد رأيت طلحة والزبير.

فقال أميرالمؤمنين: إنهما استأذنا في العمرة، فأذنت لهما بعد أن أوثقت منهما بالأيمان أن لا يغدرا ولا ينکثا ولا يحدثا فساداً وبعد هنيئة قال: والله يا بن عباس: إني لأعلم أنهما ما قصدا إلا الفتنة، فکأني بهما وقد صارا إلي مکة ليسعيا إلي حربي، فإن يعلي بن منبه الخائن الفاجر قد حمل أموال العراق وفارس لينفق ذلک، وسيفسد هذان الرجلان علي أمري، ويسفکان دماء شيعتي وأنصاري، فقال ابن عباس: إذا کان ذلک عندک يا أميرالمؤمنين معلوماً، فلم أذنت لهما؟ هلا حبستهما، وأوثقتهما بالحديد، وکفيت المؤمنين شرهما؟ فقال أميرالمؤمنين متعجباً: يا ابن عباس أتأمرني بالظلم أبدا؟ وبالسيئة قبل الحسنة؟ وأعاقب علي الظنة والتهمة؟ وأؤاخذ بالفعل قبل کونه؟ کلا والله، لا عدلت عما أخذ الله علي من الحکم والعدل، ولا ابتدأ بالفصل، يا ابن عباس: إنني أذنت لهما وأعرف ما يکون منهما، ولکني استظهرت بالله عليهما والله لأقتلنهما ولأخيبن ظنهما، ولا يلقيان من الأمر مناهما، وإن الله يأخذهما بظلمهما لي، ونکثهما بيعتي وبغيهما علي.

خرج الرجلان من المدينة متوجهين إلي مکة، فوجدا بني أمية قد أحاطوا بعائشة، ولحق بها جماعة من منافقي قريش، ولحق بها عبدالله بن عمر بن الخطاب وأخوه عبيدالله ومروان بن الحکم وأولاد عثمان وعبيده وخاصته من بني أمية، وجعلوا عائشة ملجأ لهم فيما دبروه من کيد أميرالمؤمنين (عليه السلام)، وصار کل من يبغض علياً أو يکرهه أو يحسده أو يخاف منه استيفاء الحقوق منه، يلتحق بهذه الجماعة، وعائشة تنعي عثمان وتبرأ من قاتله وتحرض الناس علي عداوة أميرالمؤمنين، وتظهر بأن عليا قتل عثمان ظلماً.


وکانت عائشة لما وصلت إلي مکة، وأدت مناسک الحج، ولما فرغت بلغها خبر قتل عثمان استبشرت وقالت للناعي: قتلته أعماله، إنه أحرق کتاب الله، وأمات سنة رسول الله فقتله الله، ومن بايع الناس؟ فقال الناعي: لم أبرح من المدينة حتي أخذ طلحة بن عبيدالله نعاجا لعثمان، وعمل مفاتيح لأبواب بيت المال ولا شک أن الناس بايعوه.

فقالت عائشة وهي فرحانة: بعداً لنعثل وسحقاً! إيه ذا الأصبع! إيه أباشبل! إيه ابن عم! لله أبوک يا طلحة، أما إنهم وجدوا طلحة لها کفواً، لکأني أنظر إلي إصبعه وهو يبايع أحنوها لا بل دغدغوها! وجدوک لها محسنا ولها کافيا، شدوا رحلي فقد قضيت عمرتي، لأتوجه إلي منزلي.

سارت عائشة حتي إذا وصلت إلي موضع يقال له: (شرفاء) لقيها رجل يقال له: عبيد بن أم کلاب، فسألته عائشة: ما الخبر؟ فقال الرجل: قتل عثمان.

فقالت عائشة قتل نعثل!!! أخبرني عن قصته وکيف کان أمره؟ فقال الرجل: لما أحاط الناس بالدار، رأيت طلحة بن عبيدالله قد غلب علي الأمر، واتخذ مفاتيح علي بيوت الأموال والخزائن، وتهيأ ليبايع له، فلما قتل عثمان مال الناس إلي علي بن أبي طالب، ولم يعدلوا به طلحة ولا غيره، وخرجوا في طلب علي يقدمهم الأشتر ومحمد بن أبي بکر وعمار بن ياسر حتي إذا أتوا علياً وهو في بيت سکن فيه فقالوا له: بايعنا علي الطاعة لک، وکان علي (عليه السلام) يتفکر ساعة.

فقال الأشتر: يا علي إن الناس لا يعدلون بک غيرک فبايع قبل أن تختلف الناس.

وکان في الجماعة طلحة والزبير، فظننت أن سيکون بين طلحة والزبير وعلي بن أبي طالب کلام قبل ذلک، فقام طلحة والزبير فبايعا، وأنا أري أيديهما علي يد علي يصفقانهما ببيعته.

ثم صعد علي بن أبي طالب المنبر، فتکلم بکلام لا أحفظ إلا أن الناس بايعوه يومئذ علي المنبر وبايعوه من الغد، فکلما کان اليوم الثالث خرجت ولا أعلم.

فقالت عائشة: لوددت أن السماء انطبقت علي الأرض إن تم هذا!! أنظر ماذا تقول؟ فقال الرجل: هو ما قلت لک يا أم المؤمنين.

فقالت عائشة: إنا لله، أکره والله الرجل، وغصب علي بن أبي طالب أمرهم، وقتل خليفة الله مظلوما! ردوا بغالي ردوا بغالي!! فقال الرجل: ما شأنک يا أم المؤمنين؟ والله ما أعرف بين لابتيها أحداً أولي بها من علي، ولا أحق، ولا أري له نظيراً فلماذا تکرهين؟.

عائشة لا ترد جواباً، وعزمت علي الرجوع إلي مکة، وفي طريقها رآها قيس بن حازم فقالت عائشة تخاطب نفسها: قتلوا ابن عفان مظلوما.

فقال قيس: يا أم المؤمنين ألم أسمعک آنفا تقولين: أبعده الله؟ وقد رأيتک قبل أشد الناس عليه، وأقبحهم فيه قولا.

فقالت عائشة: لقد کان ذلک، ولکن نظرت في أمره فرأيتهم استتابوه حتي إذا ترکوه کالفضة البيضاء أتوه صائماً محرماً في شهر حرام فقتلوه.

فقال عبيد بن أم کلاب:


فمنک البداءة ومنک الغير
ومنک الرياح ومنک المطر


وأنت أمرت بقتل الإمام
وقلت لنا: إنه قد کفر


فهبنا أطعناک في قتله
وقاتله عندنا من أمر


ولم يسقط السقف من فوقنا
ولم ينکسف شمسنا والقمر


وقد بايع الناس ذا ارتداء
يزيل الشبا ويقيم الصعر


وتلبس للحرب أوزارها
وما من وفي مثل من قد غدر


وصلت عائشة إلي مکة، وجاءها رجل يقال له: يعلي بن منبه، وکان من بني أمية وشيعة عثمان وقال لها: قد قتل خليفتک الذي کنت تحرضين علي قتله.

فقالت عائشة: برأت إلي الله ممن قتله.

فقال الرجل: ألآن أظهري البراءة ثانيا من قاتله، فخرجت إلي المسجد، فجعلت تتبرأ ممن قتل عثمان، وهنا وصل خبر عائشة إلي طلحة والزبير وهما في المدينة، فکتبا إليها کتاباً مع ابن أختها عبدالله بن الزبير وکان مضمون الکتاب (خذ لي الناس عن بيعة علي، وأظهري الطلب بدم عثمان).

قرأت عائشة ذلک الکتاب وکشفت عما في ضميرها وجعلت تطلب بدم عثمان وجاءت ووقفت عند الحجر الأسود وقالت: أيها الناس: إن الغوغاء (السفلة) من أهل الأمصار وأهل المياه وعبيد أهل المدينة اجتمعوا علي هذا الرجل فقتلوه ظلماً بالأمس ونقموا عليه استعمال الأحداث، وقد استعمل أمثالهم من قبله، ومواضع الحمي حماها لهم، فتابعهم ونزل عنها، فلما لم يجدوا حجة ولا عذرا بادروا بالعدوان، فسفکوا الدم الحرام، واستحلوا البلد الحرام والشهر الحرام، وأخذوا المال الحرام! والله، لإصبع من عثمان خير من طباق الأرض أمثالهم! والله، لو أن الذي اعتدوا عليه کان ذنبا لخلص منه کما يخلص الذهب من خبئه، والثوب من درنه، إذ ماصوه کما يماص الثوب بالماء.

فتقدم عبدالله بن عامر الحضرمي وکان عامل عثمان علي مکة وقال: أنا أول طالب بدمه.

فکان أول مجيب.

فتبعه بنو أمية، وکانوا قد هربوا من المدينة بعد قتل عثمان إلي مکة فرفعوا رؤوسهم، فکان أول ما تکلموا في الحجاز.

ولما وصل طلحة والزبير إلي مکة أرسلا عبدالله بن الزبير إلي عائشة يطلبان منها الخروج إلي البصرة للطلب بدم عثمان!! امتنعت عائشة من الإجابة لکنها ذهبت إلي أم سلمة تستشيرها في الخروج، ولما دخلت علي أم سلمة ونعت إليها عثمان وأنه قتل مظلوما، صرخت أم سلمة صرخة وهي متعجبة من کلام عائشة وقالت: يا عائشة بالأمس کنت تشهدين عليه بالکفر وهو اليوم أميرالمؤمنين قتل مظلوما؟؟ ثم إن عائشة ذکرت لأم سلمة عزمها علي الخروج إلي البصرة للطلب بدم عثمان وطلبت من أم سلمة أن ترافقها وتشارکها في تلک النهضة!! فجعلت أم سلمة تعاتب عائشة علي تحريضها الناس بقتل عثمان ثم الطلب بدمه مع العلم أن عثمان من بني عبدمناف وعائشة امرأة من تيم بن مرة، وليس بينهما قرابة، ثم ذکرت أم سلمة شيئا من فضائل علي وأنه لا ينبغي لأحد أن يحارب عليا، ووعظتها وذکرتها بما سمعت من رسول الله (صلّي الله عليه وآله) في فضل علي (عليه السلام) وذکرتها بحديث النبي (صلّي الله عليه وآله) يوم قال: أيتکن صاحبة الجمل الأدبب تنبحها کلاب الحوأب فتذکرت عائشة کل ذلک وقنعت بکلام أم سلمة ولکن التأثير کان مؤقتا، ثم عزمت علي السفر إلي البصرة.

وأما يعلي بن منبه فقد اشتري أربعمائة بعير ونادي: أيها الناس من خرج لطلب دم عثمان فعلي جهازه.

ووصل الخبر إلي أم سلمة فقالت لعائشة: لقد وعظتک فلم تتعظي..

ثم حذرتها عن تلک الفکرة وذکرت لها بأنها تهتک حرمة رسول الله (صلّي الله عليه وآله) لأنها زوجته وعرضه إلي آخر کلامها.

وخرجت عائشة بالجيش نحو البصرة وفي أثناء الطريق وصلوا إلي ماء الحوأب فنبحت الکلاب وقال قائل: ما أکثر کلاب الحوأب وما أشد نباحها فأمسکت عائشة زمام بعيرها وصرخت: إنا لله وإنا إليه راجعون إني لهيه!! سمعت رسول الله وعنده نساؤه يقول: ليت شعري أيتکن صاحبة الجمل الأدبب، تخرج فتنبحها کلاب الحوأب، يقتل عن يمينها ويسارها قتلي کثيرة، تنجو بعد ما کادت تقتل؟؟..

ردوني، ردوني.

فأقبل جماعة وشهدوا وحلفوا أن هذا ليس بماء الحوأب فسارت عائشة لوجهها نحو البصرة.

فوصل الخبر إلي أميرالمؤمنين (عليه السلام)، فأمر المنادي فنادي: الصلاة جامعة، اجتمع الناس في مسجد رسول الله في المدينة وصعد الإمام المنبر وخطب فيهم خطبة ذکر فيها الخلافة وأطوارها وأدوارها...

إلي أن قال: وبايعني هذان الرجلان طلحة والزبير في أول من بايع، وتعلمون ذلک، وقد نکثا غدرا، ونهضا إلي البصرة بعائشة ليفرقا جماعتکم ويلقيا بأسکم بينکم.

أللهم: فخذ بما عملا واحدة رابية، ولا تنعش لهما ضرعة، ولا تقلهما عثرة، ولا تمهلهما فواقا، فإنهما يطلبان حقا ترکاه، ودما سفکاه، أللهم إني أقتضيک وعدک فإنک قلت وقولک الحق: (ثم بغي عليه لينصرنه الله...) اللهم أنجز لي موعدي ولا تکلني إلي نفسي إنک علي کل شي ء قدير.

ثم استشار الإمام أصحابه، فقال عمار بن ياسر: الرأي عندي: أن تسير إلي الکوفة، فإن أهلها شيعة، وقد انطلق هؤلاء القوم إلي البصرة وأشار عليه عباس أن يأمر أم سلمة لتخرج معه تقوية لجانبه فقال الإمام: أما أم سلمة فإني لا أري إخراجها من بيتها کما أن الرجلان إخراج عائشة!! وأشار عليه جماعة أن يعتزل الفتنة ويذهب إلي ماله ب(ينبع) فلم يقبل منه وأخيرا نادي الإمام: تجهزوا للمسير، فإن طلحة والزبير نکثا البيعة ونقضا العهد، وأخرجا عائشة من بيتها يريدان البصرة لإثارة الفتنة، وسفک دماء أهل القبلة ورفع يديه للدعاء قائلا: اللهم: إن هذين الرجلين قد بغيا علي، ونکثا عهدي، ونقضا عقدي، وشقياني بغير حق سومهما ذلک، اللهم حذهما بظلمهما وأظفرني بهما، وانصرني عليهما.

وجعل الإمام (عليه السلام) تمام بن العباس والياً علي المدينة وخرج بمن معه إلي الربذة، وإذا بطلحة والزبير قد ارتحلوا منها.

فأرسل الإمام محمد بن أبي بکر ومحمد بن الحنفية إلي الکوفة ليستنفرا أهل الکوفة، وکان والي الکوفة يومذاک أباموسي الأشعري وکان أبوموسي عثماني الهوي، منحرفا عن علي (عليه السلام).

وکانت عائشة قد کتبت کتابا إلي أبي موسي تأمره أن يخذل الناس عن نصرة الإمام، وقام أبوموسي بتلبية طلبها، فخطب فيهم وأمرهم أن يجتنبوا الفتنة ويبتعدوا عن سفک دماء المسلمين.

لم يستطع محمد بن الحنفية ومجمد بن أبي بکر مقاومة الأشعري فرجعا إلي الإمام، وکان الإمام قد کتب قبل ذلک کتابا إلي الأشعري يأمره أن يخرج لمؤازرة الإمام، ولکن الأشعري استمر علي رأيه وامتنع عن البيعة، وأظهر العداء الکامن في صدره، فأخبروا الإمام بذلک.

فکتب الإمام کتابا إلي الأشعري فيه خبر عزله عن الحکم والتهديد إن لم يعتزل، وکتاباً آخر إلي أهل الکوفة يذکر لهم فيه عما جري علي عثمان، ثم ذکر بيعة الناس له ومن جملتهم طلحة والزبير، ثم نکثهما البيعة وخروجهما ضد الإمام (عليه السلام).

وقبل وصول هذين الکتابين کان الإمام الحسن بن علي (عليه السلام) وعمار بن ياسر وزيد بن صوحان وقيس بن سعد جاءوا إلي الکوفة وخطبوا في الناس الخطب المفصلة المطولة، يحثون الناس علي نصرة الإمام.

فکان الأشعري يقوم ويخطب وينقض کلامهم ويخذل الناس ويأمرهم باعتزال الفتنة وعدم الخوض في المعرکة.

وانقضت أيام وأيام والأمر هکذا في الکوفة وأميرالمؤمنين ينتظر المدد وهو في أرض يقال لها: (ذو قار) واليوم يقال لها: (المقيرة) وهي قريب الناصرية في طريق البصرة.

وأخيرا خرج البطل الضرغام مالک الأشتر وأقبل إلي الکوفة ودخلها وهجم علي دار الإمارة واستولي عليها، وأخرج غلمان أبي موسي منها.

کانت الحرب الباردة قائمة في المسجد بين الأشعري وبين أصحاب الإمام وإذا بغلمان الأشعري دخلوا المسجد، وهم ينادون يا أباموسي هذا الأشتر.

ودخل أصحاب الأشتر وصاحوا: أخرج من المسجد، يا ويلک أخرج الله روحک، إنک والله من المنافقين.

خرج أبوموسي معزولاً خائباً مخذولاً، وأراد الناس أن ينهبوا أمواله فمنعهم الأشتر.

وأقبل الأشتر فصعد المنبر وقال: وقد جاءکم الله بأعظم الناس مکانا، وأعظمهم في الإسلام سهما،ابن عم رسول الله (صلّي الله عليه وآله)، وأفقه الناس في الدين، وأقرأهم کتاب الله، وأشجعهم عند اللقاء يوم البأس وقد استنفرکم، فما تنتظرون؟ أسعيداً؟ أم الوليد؟ الذي شرب الخمر وصلي بکم علي سکر؟ واستباح ما حرمه الله فيکم.

أي هذين الرجلين تريدون؟ قبح الله من له هذا الرأي!! فانفروا مع الحسن ابن بنت نبيکم، ولا يختلف رجل له قوة، فو الله ما يدري رجل منکم ما يضره وما ينفعه، وإني لکم ناصح شفيق عليکم إن کنتم تعقلون، أو تبصرون.

أصبحوا إن شاء الله غدا غادين مستعدين، وهذا وجهي إلي ما هناک بالوفاء.

ثم قام ابن عباس وعزل الأشعري عن الولاية وخلعه عنها، وجعل قرضة بن کعب، فلم يبرحوا من الکوفة حتي سيروا سبعة آلاف رجل والتحقوا بأميرالمؤمنين في ذي قار.

والتحق به قبل ذلک ألفان من قبيلة طي، وخرج الإمام (عليه السلام) نحو البصرة.

وکانت عائشة وطلحة والزبير ومن معهم قد وصلوا إلي البصرة قبل ذلک، وتعجب الناس من قدومهم إلي البصرة للطلب بدم عثمان المقتول في المدينة.

وسمع عثمان بن حنيف (والي البصرة) بوصول القوم، فأرسل إليهم أباالأسود الدؤلي وعمران بن حصين للتحقيق، فدخلا علي عائشة وقالا لها: يا أم المؤمنين ما حملک علي المسير؟ ما الذي أقدمک هذا البلد؟ وأنت حبيبة رسول الله وقد أمرک أن تقري في بيتک؟ فجري کلام وجدال طويل بين عائشة والرجلين، وکلما خوفاها من إراقة دماء المسلمين وإفساد الأمر قابلتهم بکل صلابة وحدة.

ودخلا علي طلحة فلم يسمعا منه إلا الکلام القبيح والطرد، ثم السب لأميرالمؤمنين (عليه السلام).

استعدت عائشة للحرب، وخرجت بمن معها إلي محلة في البصرة يقال لها (المربد) وخطبت في أهل البصرة خطبة فنعت عثمان وتأسفت علي قتله ثم ذکرت عليا وبيعته وأفرطت في کلامها ثم طلبت من أهل البصرة نقض خلافة الإمام فصدقها ناس وکذبها ناس، واضطرب الناس بأقوالهم، واشتغلوا بالسب والشتم واللعن، وتوجهت عائشة إلي دار الإمارة وطلبوا من عثمان بن حنيف أن يسلم إليهم دار الإمارة فأبي عليهم، واشتعلت نار الحرب حتي الظهر وقتل في تلک الواقعة خمسمائة شيخ من بني عبدالقيس من شيعة علي وأنصار عثمان بن حنيف سوي الجرحي، واستمرت الحرب في البصرة وکثر القتلي والجرحي، ودخل بعض الناس وقرروا الهدنة، فتم القرار علي: أن تکون دار الإمارة والمسجد وبيوت المال تحت اختيار عثمان بن حنيف، وتکون البصرة تحت حيازة طلحة والزبير وعائشة، وکتبوا علي هذه المصالحة کتابا وشهد الناس علي ذلک، ولما أمن الناس واطمئنوا وألقوا سلاحهم أقبل طلحة والزبير وأصحابهما حتي أتوا دار الإمارة علي حين غفلة وکان خمسون رجلا يحرسون بيوت الأموال وهم من شيعة علي أحاط الزبير بهؤلاء وقتل منهم أربعين رجلا صبرا ثم هجموا علي عثمان بن حنيف فأوثقوه رباطا، وعمدوا إلي لحيته فنتفوا لحيته حتي لم يبق منها شعرة واحدة ونتفوا حاجبيه وأشفار عينيه وأوثقوه بالحديد.

وأصبح الصباح فجاء طلحة والزبير إلي المسجد الأعظم لأداء صلاة الصبح جماعة فأراد طلحة أن يتقدم ويصلي بالناس فدفعه الزبير، وأراد الزبير أن يصلي فمنعه طلحة، استمر النزاع والتدافع بين الإمامين!!! حتي کادت الشمس أن تطلع فصاح الناس: الله الله يا أصحاب رسول الله! في الصلاة نخاف فوتها!! فأمرت عائشة أن يصلي مروان بالناس وأخيرا تقدم ابن الزبير وصلي بالمسلمين.

انتشر خبر قتل الحرس وإلقاء القبض علي عثمان، فأقبل حکيم بن جبلة إلي عشيرته فحثهم علي النهوض وجاء طلحة والزبير وشبت النار مرة ثانية وقتل حکيم بن جبلة وأخوه وعدد من الناس، واستولي طلحة والزبير علي بيوت الأموال ونصبا الأقفال علي أبواب بيوت الأموال، فأمرت عائشة بختم بيت المال، وختم کل من طلحة والزبير وعائشة بختم علي بيوت الأموال.

انقضت أيام وعائشة وطلحة والزبير يخطبون في الناس ويهيجونهم ويحذرونهم من علي (عليه السلام) وقد کان ينتهي کلامهم إلي ذم الإمام وسبه وأرسلت عائشة کتبا ورسائل إلي البلاد والأمصار کتبت فيها ما أرادت.

ووصل الإمام أميرالمؤمنين (عليه السلام) بجيشه الجرار إلي البصرة، ةبلغه الخبر عن المجزرة الرهيبة التي أقامها هؤلاء، فأرسل الإمام صعصعة بن صوحان للتفاهم أو لإتمام الحجة علي عائشة والرجلين والتقي بهم صعصعة فلم يسمع منهم إلا التهديد والخشونة في الکلام وأرسل الإمام (عليه السلام) عبدالله بن عباس وأمره أن يلتقي بطلحة والزبير، فلم تنجح مذکرات ابن عباس معهما.

کان وصول الجيش العلوي إلي البصرة علي أحسن هيئة وأجمل نظام وفيهم المشايخ من أهل بدر المهاجرين والأنصار، وقواد الجيش ومعهم الألوية والرايات، والمواکب يتري بعضها بعضا.

وفي الأخير: وصل موکب الإمام وهو موکب عظيم فيه خلق کثير عليهم السلاح والحديد، ومعهم الإمام وعليه الوقار والسکينة ينظر إلي الأرض أکثر من نظره إلي السماء، والجنود خلفه کأن علي رؤوسهم الطير، والإمام الحسن عن يمينه والإمام الحسين عن شماله، وابنه محمد بن الحنفية بين يديه ومعه الراية.

أمر الإمام (عليه السلام) ابن عباس أن يرجع ثانيا إلي عائشة ويذکر لها خروجها من بيت رسول الله (صلّي الله عليه وآله) ويخوفها من الخلاف علي الله، والتبرج الذي نهاها الله عنه...

الخ.

دخل ابن عباس علي عائشة وأدي رسالته وذکر فضل علي وسابقته ولکنها لم ترتدع ولم تقتنع ورجع ابن عباس إلي الزبير ووجده وحده وجعل يلين له الکلام ويخوفه من عواقب أعماله، ويلومه علي إسراعه في الخلاف فجاء عبدالله بن الزبير، وکان شابا شرسا قليل الحياء متهورا، وقابل ابن عباس بکل صلافة وکانت المباحثات بلا جدوي ولا فائدة، واستعد الفريقان للحرب.

کان کعب بن سور سيد الأزد قد امتنع عن الخوض في المعرکة فجاء طلحة والزبير إلي عائشة وطلبا منها أن تتوجه بنفسها إلي کعب وتطلب منه المؤازرة والتعاون معها، فأرسلت عائشة إليه تطلب منه الحضور فلم يجبها کعب، فرکبت بغلا وأحاط بها نفر من أهل البصرة وسارت إلي کعب وسألته عن سبب امتناعه فقال: يا أماه لا حاجة لي في خوض هذه الفتنة.

فاستعبرت عائشة باکية وطلبت منه أن ينصرها، فرق لها کعب وأجابها وعلق المصحف في عنقه وخرج معها.

اشترکت العشائر والقبائل من المدينة إلي الکوفة إلي طي إلي أهل البصرة في نصرة الإمام.

وکان خطباء الفريقين يخطبون في قومهم ويحرضونهم علي الحرب.

ساحة القتال:کانت ساحة القتال في الخريبة، وهي اليوم بين الزبير والبصرة ويقال لها: (الخر) وهناک قبر طلحة.

اصطف الفريقان للقتال، وکتب کل منهما الکتائب وخرج علي (عليه السلام) وعليه عمامة سوداء وقميص ورداء وهو راکب علي بغلة رسول الله (صلّي الله عليه وآله) الشهباء.

وجاءت عائشة وهي في هودج علي بعير وعن يمينها وشمالها طلحة والزبير وعبدالله بن الزبير وخلفها الذين رافقوها من مکة وانضموا إليها في البصرة.

کان النشاط في أصحاب علي أکثر، وکانوا يريدون الهجوم علي العدو، لکن الإمام کان يمنعهم ويقول لهم: لا تعجلوا علي القوم حتي أعذر فيما بيني وبين الله وبينهم، فقام إليهم وقال: يا أهل البصرة هل تجدون علي جورا في حکم؟ قالوا: لا.

قال: فحيفا في قسم؟ قالوا: لا.

قال فرغبة في دنيا أصبتها لي ولأهل بيتي دونکم، فنقمتم علي فنکثتم بيعتي؟ قالوا:لا.

قال: فما بال بيعتي تنکث وبيعة غيري لا تنکث؟ إني ضربت الأمر أنفه وعينه ولم أجد إلا الکفر أو السيف، ثم التفت إلي أصحابه وقال: إن الله تعالي يقول في کتابه: (وإن نکثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينکم فقاتلوا أئمة الکفر إنهم لا إيمان لهم لعلهم ينتهون).[1] .

ثم قال: والذي فلق الحبة وبرأ النسمة واصطفي محمدا بالنبوة إنهم لأصحاب هذه الآية وما قوتلوا منذ نزلت هذه الآية، تم التفت إلي ابن عباس وقال له: امض بهذا المصحف إلي طلحة والزبير وعائشة وادعهم إلي ما فيه.

جاء ابن عباس فبدأ بالزبير وقال له: إن أميرالمؤمنين يقول ألم تبايعني طائعا؟ فبم تستحل دمي؟ وهذا المصحف وما فيه بيني وبينک فإن شئت تحاکمنا إليه؟ فقال الزبير: ارجع إلي صاحبک، فإنا بايعنا کارهين وما لي حاجة في محاکمته.

انصرف ابن عباس إلي طلحة، فوجد فيه الاستعداد للشر والحرب، فقال له ابن عباس: والله ما أنصفتم رسول الله إذ حبستم نساءکم وأخرجتم حبيسة رسول الله؟! ونادي طلحة: ناجزوا القوم، فإنکم لا تقومون لحجاج ابن أبي طالب.

رجع ابن عباس وأخبره بالنتيجة السلبية وقال للإمام: ما تنتظر؟ والله لا يعطيک القوم إلا السيف، فأحمل عليهم قبل أن يحملوا عليک.

فقال أميرالمؤمنين: نستظهر بالله عليهم، وهناک خرج أميرالمؤمنين بين الصفين ونادي بأعلي صوته: أين الزبير؟ فليخرج ثم نادي ثانيا، وکان طلحة والزبير واقفين أمام صفيهما، فخرج الزبير، وخرج أميرالمؤمنين (عليه السلام) إليه، فصاح به أصحابه يا أميرالمؤمنين: أتخرج إلي الزبير الناکث بيعته وأنت حاسر؟ وهو علي فرس شاکي السلاح، مدجج في الحديد وأنت بلا سلاح؟ فقال أميرالمؤمنين: ليس علي منه بأس، إن علي منه جنة واقية، لن يستطيع أحد فرارا من أجله، وإني لا أموت، ولا أقتل إلا بيد أشقاها، کما عقر ناقة الله أشقي ثمود.

فخرج إليه الزبير فقال (عليه السلام): أين طلحة؟ ليخرج.

فخرج طلحة.

وقربا منه (عليه السلام)، حتي اختلفت أعناق دابتهما، فقال أميرالمؤمنين للزبير: ما حملک علي ما صنعت؟ فقال الزبير: الطلب بدم عثمان.

فقال أميرالمؤمنين (عليه السلام): أنت وأصحابک قتلتموه، فيجب عليک أن تقيد من نفسک.

ولکن أنشدک الله الذي لا إله إلا هو، الذي أنزل الفرقان علي نبيه محمد (صلّي الله عليه وآله): أما تذکر يوما قال لک رسول الله (صلّي الله عليه وآله) يا زبير: أتحب عليا؟ فقلت: وما يمنعني عن حبه وهو ابن خالي؟ فقال لک رسول الله: أما أنت فستخرج عليه يوما وأنت له ظالم؟ فقال له الزبير: اللهم بلي قد کان ذلک.

فقال أميرالمؤمنين: فأنشدک الله الذي أنزل الفرقان علي نبيه محمد (صلّي الله عليه وآله) أما تذکر يوما جاء رسول الله (صلّي الله عليه وآله) من عند ابن عوف، وأنت معه، وهو آخذ بيدک، فاستقبلته أنا فسلمت عليه فضحک في وجهي، فضحکت أنا إليه، فقلت أنت: لايدع ابن أبي طالب زهوه أبدا.

فقال لک النبي (صلّي الله عليه وآله): مهلا يا زبير، فليس به زهو، ولتخرجن عليه يوما وأنت ظالم له؟! فقال الزبير: الهم بلي، ولکن نسيت، فأنا إذا ذکرتني ذلک فلأنصرفن عنک ولو ذکرت هذا لما خرجت عليک.

ثم التفت إليهما معا وقال: نشدتکما الله أتعلمان وأولوا العلم من أصحاب محمد وعائشة بنت أبي بکر: أن أصحاب الجمل، وأهل النهروان ملعونون علي لسان محمد (صلّي الله عليه وآله) وقد خاب من افتري؟ فقال الزبير: کيف نکون ملعونين ونحن من أهل الجنة؟ فقال أميرالمؤمنين: لو علمت أنکم من أهل الجنة لما استحللت قتالکم.

فقال الزبير: أما سمعت رسول الله يقول يوم أحد: أوجب طلحة الجنة؟ ومن أراد أن ينظر إلي الشهيد يمشي علي الأرض حيا فلينظر إلي طلحة؟ أوما سمعت رسول الله (صلّي الله عليه وآله) يقول: عشرة من قريش في الجنة؟ فقال أميرالمؤمنين: فسمهم.

فجعل الزبير يعد تسعة منهم، وفيهم أبوعبيدة بن الجراح، وسعيد بن عمرو بن نفيل.

فقال أميرالمؤمنين: عددت تسعة منهم فمن العاشر؟ فقال الزبير: أنت.

فقال أميرالمؤمنين: أما أنت فقد أقررت أني من أهل الجنة، وأما ما ادعيت لنفسک وأصحابک فإني به لمن الجاحدين، والذي فلق الحبة وبرأ النسمة لقد عهد النبي الأمي إلي أن بعض من سميت في تابوت في جب في أسفل درک من جهنم، وفي نسخة: إن في جهنم جبا، فيه ستة من الأولين وستة من الآخرين، علي رأس ذلک الجب صخرة، إذا أراد الله تعالي أن يسعر جهنم علي أهلها أمر بتلک الصخرة فرفعت، وإن في ذلک الجب من سميت، وإلا أظفرک الله بي وسفک دمي بيدک، وإلا فأظفرني الله بک وبأصحابک.

فقال أميرالمؤمنين: دع هذا، أفلست بايعتني طائعا؟ فقال الزبير: بلي.

فقال أميرالمؤمنين: أفوجدت مني حدثا يوجب مفارقتي؟ فسکت الزبير ثم قال: لا جرم والله لأقاتلنک! ثم التفت (عليه السلام) إلي طلحة وقال:

يا طلحة: معکما نساؤکما؟ فقال طلحة: لا.

فقال أميرالمؤمنين: عمدتما إلي امرأة موضعها في کتاب الله القعود في بيتها، فأبرزتماها! وصنتما حلائلکما في الخيام والحجال؟ ما أنصفتما رسول الله (صلّي الله عليه وآله) قد أمر الله أن لا يکلمن إلا من وراء حجاب.

أخبرني عن صلاة ابن الزبير بکما، أما يرضي أحدکما بصاحبه؟ أخبرني عن دعائکما الأعراب إلي قتالي؟ ما يحملکما علي ذلک؟ فقال طلحة: يا هذا، کنا في الشوري ستة، مات منا واحد، وقتل آخر، فنحن اليوم أربعة، کلنا لک کاره.

فقال أميرالمؤمنين: ليس ذلک علي، قد کنا في الشوري والأمر في يد غيرنا، وهو اليوم في يدي أرأيت لو أردت بعد ما بايعت عثمان أن أرجُ هذا الأمر شوري أکان ذلک لي؟ فقال طلحة: لا.

فقال أميرالمؤمنين: ولم؟ فقال طلحة: لأنک بايعت عثمان طائعا.

فقال أميرالمؤمنين: وکيف ذلک؟ والأنصار معهم السيوف مخترطة، يقولون: لئن زغتم وبايعتم واحدا منکم، وإلا ضربنا أعناقکم أجمعين؟؟ فهل قال لک ولأصحابک أحد شيئا من هذا وقت ما بايعتماني؟ وحجتي في الاستکراه في البيعة أوضح من حجتک وقد بايعتني أنت وأصحابک طائعين غير مکرهين، وکنتما أول من فعل ذلک ولم يقل أحد: لتبايعان أو لنقتلکما؟ ثم انصرف الرجلان إلي صفهما، فأراد الزبير الخروج من الحرب، والانصراف إلي البصرة، فقال له طلحة: ما لک يا زبير؟ ما لک تنصرف عنا؟ سحرک ابن أبي طالب؟ فقال الزبير: لا، ولکن ذکرني ما کان أنسانيه الدهر، واحتج علي ببيعتي له.

فقال طلحة: لا، ولکن جبنت وانتفخ سحرک!! فقال الزبير: لم أجبن، ولکن أذکرت فذکرت.

فقالت عائشة: ما ورائک يا أباعبدالله؟ فقال الزبير: والله ورائي؟ إني ما وقفت موقفا في شرک ولا إسلام إلا ولي فيه بصيرة وأنا اليوم علي شک من أمري، وما أکاد أبصر موضع قدمي.

فقالت عائشة: لا والله، بل خفت سيوف ابن أبي طالب، أما إنها طوال حداد، تحملها سواعد أمجاد، ولئن خفتها فلقد خافها الرجال من قبلک.

فقال عبدالله بن الزبير: جبنا جبنا!! فقال الزبير: يا بني قد علم الناس إني لست بجبان، ولکن ذکرني علي شيئا سمعته من رسول الله، فحلفت أن لا أقاتله.

فقال عبدالله بن الزبير: يا أبة أجئت بهذين العسکرين العظيمين حتي إذا اصطفا للحرب، قلت: أترکهما وأنصرف فما تقول قريش غدا بالمدينة؟ الله الله يا أبة: لا تشمت بنا الأعداء، ولا تشن نفسک بالهزيمة قبل القتال.

فقال الزبير: ما أصنع يا بني وقد حلفت أن لا أقاتله؟ فقال عبدالله بن الزبير:

کفر عن يمينک، ولا تفسد أمرنا!! فقال الزبير: عبدي مکحول حر لوجه الله، کفارة ليميني!! ثم عاد معهم للقتال.

فعند ذلک أخذ أميرالمؤمنين (عليه السلام) المصحف بيده، وطلب من يقرأ عليهم هذه الآية: (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما، فإن بغت إحداهما علي الأخري فقاتلوا التي تبغي حتي تفي ء إلي أمر الله).[2] .

فقام غلام حدث السن وأخذ المصحف ووقف أمام الصفوف وقال هذا کتاب الله، وأميرالمؤمنين يدعوکم إلي ما فيه، فأمرت عائشة بإعدامه فقطعوا يديه ثم أحاطوا به وطعنوه بالرماح من جانب وکانت أمه واقفة تنظر فصاحت وطرحت نفسها علي ولدها.

کان الإمام ينتظر وقت الظهر لنزول الملائکة وکان يقول: لا تقاتلوا القوم حتي يبدأوکم، فإنکم بحمد الله علي حجة، وکفکم عنهم حجة أخري فإذا قاتلتموهم فلا تجهزوا علي جريح، فإذا هزمتموهم فلا تتبعوا مدبرا، ولا تکشفوا عورة، ولا تمثلوا بقتيل، وإذا وصلتم إلي رحال القوم فلا تهتکوا سترا، ولا تدخلوا دارا، ولا تأخذوا من أموالهم شيئا ولا تهيجوا امرأة بأذي، وإن شتمن أعراضکم وسببن أمراءکم وصلحاءکم فإنهن ضعفاء القوي والأنفس و العقول...

الخ.

کانت السهام تتري علي الإمام وأصحابه کالمطر!! فصاح الناس: حتي متي يا أميرالمؤمنين ندلي نحورنا للقوم يقتلون رجلا رجلا والله قد أعذرت أن کنت تريد الإعذار!!! هناک دعا الإمام ابنه محمد بن الحنفية فأعطاه الراية وهي راية سوداء کبيرة وهي راية رسول الله (صلّي الله عليه وآله) فقال (عليه السلام) له: يا بني هذه الراية ما ردت قط ولا ترد قط!! ثم لبس الإمام درع رسول الله، وحزم بطنه بعصابة أسفل من سرته، ثم قال الإمام لولده محمد بن الحنفية: يا أباالقاسم قد حملت الراية وأنا أصغر منک فما استفزني عدوي! وذلک أني لم أبارز أحدا إلا حدثتني نفسي بقتله، فحدث نفسک بعون الله تعالي بظهورک عليهم! وأعطاه تعاليم حربية.

وزحف أصحاب الجمل نحو معسکر الإمام فصاح الإمام بابنه محمد: امض، فمضي.

وتبعه أصحابه واشتعل القتال.

وأقبل الإمام يهرول وبيده السيف يصعد وينزل فتطير الرؤوس وتطيح الأيدي ولا يتلطخ السيف بالدم لسرعة اليد وسبق السيف الدم!! وزحف الجيش خلفه.

وحمل عمار بن ياسر علي الميسرة، ومالک الأشتر علي الميمنة وحملوا حملة رجل واحد، ونادي الإمام: عليکم بالسيوف.

فجعلوا يضربون بالسيوف علي الرؤوس ثم نادي المنادي: عليکم بالأقدام.

کان للفريقين أراجيز کثيرة جداً مذکورة في محلها وقد ذکرنا شيئاً منها في الجزء الأول من شرح نهج البلاغة.

وقتل طلحة في ذلک اليوم ولم يعرف قاتله، قيل: إن مروان بن الحکم رماه بسهم فقتله يطلب بذلک ثأر عثمان وکان أهل البصرة کل من أراد منهم القتال أخذ بخطام الجمل وارتجز وقاتل حتي قتل.

فخرج کعب بن سور فأخذ بخطام الجمل وهو يرتجز ويقول:


يا معشر الأزد عليکم أمکم
فإنها صلاتکم وصومکم


والنعمة العظمي التي تعمکم
فأحضروها جدکم وحزمکم


لا يغلبن سم العدو سمکم
إن العدو إن علاکم رمکم


وخصکم بجوره وعمکم
لا تفضحوا اليوم فداکم قومکم


فقاتل حتي قتل.

فخرج رجل آخر فأخذ بخطام الجمل وقال: يا أم يا أم خلا مني الوطن لا أبتغي القبر ولا أبغي الکفن من هيهنا محشر عوف بن قطن إن فاتنا اليوم علي فالغبن أو فاتنا ابناه حسين وحسن إذن أمت بطول هم وحزن.

وغير ذلک من الأراجيز المذکورة في کتب التاريخ، واشتعلت النار، واستعر القتال، فاقتتلوا قتالا شديدا فصاح علي (عليه السلام) ما أراه بقاتلکم غير هذا الهودج، إعقروا الجمل أو عرقبوه، فإنه شيطان، أو: اعقروه وإلا فنيت العرب لا يزال السيف قائما وراکعا حتي يهوي هذا البعير إلي الأرض.

فضرب عجز الجمل فوقع لجنبه، وضرب بجرانه الأرض وعج عجيجا لم يسمع بأشد منه فما هو إلا أن صرع حتي فرت الرجال کما يطير الجراد في الريح الشديدة الهبوب، وسقط الهودج، فصاح الإمام إقطعوا البطان.

فقطع محمد بن الحنفية البطان وأخرج الهودج فقالت عائشة من أنت؟ فقال محمد: أبغض أهلک إليک.

فقالت عائشة: ابن الخثعمية؟ فقال محمد: نعم، ولم تکن دون أمهاتک! فقالت عائشة: لعمري بل هي شريفة، دع عنک هذا، الحمد لله الذي سلمک.

فقال محمد: قد کان ذلک ما تکرهين.

فقالت عائشة: يا أخي لو کرهته ما قلت ما قلت فقال محمد: کنت تحبين الظفر وأني قتلت؟ فقالت عائشة: قد کنت أحب ذلک ولکنه لما صرنا إلي ما صرنا إليه أحببت سلامتک لقرابتي منک فاکفف، ولا تعقب الأمور، وخذ الظاهر ولا تکن لومة ولا عذلة، فإن أباک لم يکن لومة ولا عذلة.

وجاء علي فقرع الهودج برمحه وقال: يا شقيراء بهذا أوصاک رسول الله؟ فقلت عائشة: يا ابن أبي طالب ملکت فاصفح وظفرت فاسجح.

فقال أميرالمؤمنين والله ما أدري متي أشتفي غيظي؟ أحين أقدر علي الانتقام فيقال لي: لو عفوت أم حين أعجز من الانتقام فيقال لي: لو صبرت!! بلي أصبر فإن لکل شي ء زکاة، وزکاة القدرة والمکنة: العفو والصفح.

ثم التفت (عليه السلام) إلي محمد بن أبي بکر وقال: شأنک بأختک فلا يدنو منها أحد سواک.

فأمر (عليه السلام) فاحتملت عائشة بهودجها إلي دار عبدالله بن خلف في البصرة، وأمر بالجمل أن يحرق ثم يذري في الريح وقال (عليه السلام) إشارة إلي الجمل: لعنه الله من دابة، فما أشبهه بعجل بني إسرائيل ثم تلي: (وانظر إلي إلهک الذي ظلت عليه عاکفا لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفا).[3] .


رکبت عائشة وهي تقول: فخرتم وغلبتم، وکان أمر الله قدرا مقدورا، ونادي أميرالمؤمنين: يا محمد بن أبي بکر سلها هل وصل إليها شي ء من الرماح و السهام؟ فسألها فقالت: نعم وصل إلي سهم، خدش رأسي وسلمت من غيره، الله بيني وبينکم.

فقال محمد: والله ليحکمن عليک يوم القيامة ما کان بينک وبين أميرالمؤمنين حين تخرجين عليه؟ وتؤلبين الناس علي قتاله؟ وتنبذين کتاب الله وراء ظهرک؟ فقالت عائشة: دعنا يا محمد وقل لصاحبک يحرسني.

فأمر الإمام أن يحملها أخوها إلي دار ابن خلف في البصرة، فحملها وهي لا تفتر عن سب الإمام وسب أخيها محمد بن أبي بکر والترحم علي أصحاب الجمل.

ومر الإمام علي القتلي وجعل يخاطبهم ويعاتبهم، وخاطب کعبا وطلحة بعد قتلهما فقيل له: أتکلم هؤلاء بعد القتل؟ فقال: والله لقد سمعا کلامي کما سمع أهل القليب کلام رسول الله يوم بدر.

ثم نادي منادي الإمام: من أحب أن يواري قتيله فليواره.

وأمر أصحابه وقال لهم: قتلانا في ثيابهم التي قتلوا فيها فإنهم يحشرون علي الشهادة وإني لشاهد لهم بالوفاء.

فجاء ابن عباس يطلب الأمان لمروان بن الحکم فأمره الإمام بإحضار مروان فلما حضر قال له الإمام أتبايع؟ فقال مروان: نعم وفي النفس ما فيها!! فقال الإمام: الله أعلم بما في القلوب.

فلما بسط يده ليبايعه أخذ کفه من کف مروان وجذبها، وقال: لا حاجة لي فيها، إنها کف يهودية، لو بايعني بيده عشرين مرة لنکث بإسته، ثم قال: هيه يا بن الحکم: خفت علي رأسک أن تقع في هذه المعمعة؟ کلا والله حتي يخرج من صلبک فلان وفلان يسومون هذه الأمة خسفا ويسقونهم کأسا مصبرة.

أما الزبير فإنه خرج من المعرکة ووصل إلي منطقة في ضواحي البصرة يقال لها (وادي السباع) فقتله عمر بن جرموز وأخذ رأسه وسيفه وخاتمه وجاء بها إلي معسکر الإمام واستأذن ودخل وإذا به يري القائد الأعلي للمسلمين جالسا وبين يديه ترس عليه أقراص من الطعام الشعير، فسلم عليه، وهنأه بالفتح عن الأحنف، لأن الحرب کانت قد وضعت أوزارها حينئذ، وقال: أنا رسول الأحنف، وقد قتلت الزبير، وهذا رأسه وسيفه، فألقاهما بين يديه، فقال (عليه السلام) کيف قتلته؟ وما کان من أمره؟ فحدثنا کيف کان صنعک به؟ فقص عليه ما جري فقال: ناولني سيفه.

فناوله سيفه، فاستلّه وهزه.

وقال: سيف أعرفه، سيف طالما جلي الکرب عن وجه رسول الله (صلّي الله عليه وآله).

ثم التفت علي (عليه السلام) إلي ابن جرموز قائلاً: والله ما کان ابن صفية جبانا ولا لئيما، ولکن الحين ومصارع السوء.

ثم تفرس في وجه الزبير وقال: لقد کان لک برسول الله (صلّي الله عليه وآله) صحبة ومنه قرابة، ولکن دخل الشيطان منخرک فأوردک هذا المورد.

فقال ابن جرموز: الجائزة يا أميرالمؤمنين.

فقال (عليه السلام): أما إني سمعت رسول الله (صلّي الله عليه وآله) يقول: بشر قاتل ابن صفية بالنار.

وقبض أميرالمؤمنين (عليه السلام) ما وجد في عسکر الجمل من سلاح ودابة ومملوک ومتاع فقسمه بين أصحابه، فقال بعض أصحابه: أقسم بيننا أهل البصرة، فاجعلهم رقيقا.

فقال: لا.

فقالوا: کيف تحل لنا دماؤهم وتحرم علينا سبيهم؟ فقال: کيف يحل لکم ذرية ضعيفة في دار هجرة وإسلام؟ وأما ما جلب به القوم في معسکرهم عليکم فهو لکم مغنم، وأما ما وارت الدور وأغلقت عليه الأبواب فهو لأهله، ولا نصيب لکم في شي ء منه.

فلما أکثروا عليه قال: فأقرعوا علي عائشة لأدفعها إلي من تصيبه القرعة!! فقالوا: نستغفر الله يا أميرالمؤمنين ثم انصرفوا.

فلما دخل (عليه السلام) بيت المال في نفر من المهاجرين والأنصار، ونظر إلي کثرة ما فيه قال: غري غيري: مرارا، ثم نظر إلي المال، وصعد وصوب بصره، وقال: أقسموه بين أصحابي خمسمائة خمسمائة، فقسم بينهم، فلا والذي بعث محمدا بالحق ما نقص درهما ولا زاد درهما، کأنه کان يعرف مبلغه ومقداره، وکان مقدار المال ستة ملايين، وعدد أصحابه اثني عشر ألف رجل.

وأخذ هو خمسمائة درهم کواحد منهم، فجاءه رجل لم يحضر الواقعة فقال: يا أميرالمؤمنين: کنت شاهدا بقلبي، وإن غاب عنک جسمي فأعطني من الفي ء شيئا، فدفع إليه الذي أخذه لنفسه، ولم يصب من الفي ء شيئا.

وفي رواية أخري: جاء رجل فقال: إن اسمي سقط من کتابک فقال (عليه السلام): ردوها عليه، ثم قال: الحمد لله الذي لم يصل إلي من هذا المال شي ء.

ولما فرغ من تقسيم بيت المال قام خطيبا في أصحابه، فحمد الله وأثني عليه وقال: أيها الناس إني أحمد الله علي نعمة، قتل طلحة والزبير وأيم الله لو کانت عائشة طلبت حقا، وهانت باطلا، لکان لها في بيتها مأوي، وما فرض الله عليها الجهاد، وأن أول خطأها في نفسها، وما کانت والله علي القوم أشأم من ناقة الصخرة، وما ازداد عدوکم إلا حقدا وما زادهم الشيطان إلا طغيانا ولقد جاءوا مبطلين وأدبروا ظالمين إن إخوانکم المؤمنين جاهدوا في سبيل الله وآمنوا يرجون مغفرة الله، وإننا لعلي الحق وإنهم لعلي الباطل ويجمعنا الله وإياهم يوم الفصل واستغفر الله لي ولکم.

أرسل أميرالمؤمنين (عليه السلام) ابن عباس إلي عائشة يأمرها بتعجيل الرحيل، وقلة العرجة الإقامة فجاءها ابن عباس وهي في قصر بني خلف في جانب البصرة، فطلب الإذن عليها فلم تأذن له، فجاء ابن عباس ودخل عليها بغير إذنها فإذا بيت قفار لم يعد له فيه مجلس، فإذا هي من وراء سترين، نظر ابن عباس إلي ما في الحجرة، فوقع بصره علي طنفسة علي رحل، فمد الطنفسة وجلس عليها، فقالت عائشة من وراء الستر يا بن عباس أخطأت السنة: دخلت بيتنا بغير إذننا، وجلست علي متاعنا بغير إذننا.

فقال ابن عباس: نحن أولي بالسنة منک، ونحن علمناک السنة وإنما بيتک الذي خلفک فيه رسول الله فخرجت منه ظالمة لنفسک، غاشة لدينک، عاتية علي ربک، عاصية لرسول الله، فإذا رجعت إلي بيتک لم ندخله إلا بإذنک، ولم نجلس علي متاعک إلا بأمرک، إن أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب بعث يأمرک بالرحيل إلي المدينة وقلة العرجة.

فقالت عائشة: رحم الله أميرالمؤمنين ذاک عمر بن الخطاب.

فقال ابن عباس: هذا والله أميرالمؤمنين، وإن تربدت فيه وجوه ورغمت فيه معاطس، أما والله لهو أميرالمؤمنين، وأمس برسول الله رحما، وأقرب قرابة، وأقدم سبقا وأکثر علما، وأعلي منارا، وأکثر آثارا من أبيک ومن عمر.

فقالت عائشة: أبيت ذلک.

فقال ابن عباس: أما والله إن کان إباؤک عدم قبولک فيه لقصير المدة، عظيم التبعة، ظاهر الشؤم، بين النکر، وما کان إباؤک فيه إلا حلب شاة حتي صرت ما تأمرين ولا تنهين ولا تعرفين ولا تضعين، وما کان مثلک إلا کمثل ابن الحضرمي ابن يحمان أخي بني أسد حيث يقول:


ما ذاک إهداء القصائد بيننا
شتم الصديق وکثرة الألقاب


حتي ترکتهم کأن قلوبهم
في کل مجمعة طنين ذباب


سمعت عائشة فأراقت دمعتها، وبدا عويلها ثم قالت: أخرج والله عنکم، فما في الأرض بلد أبغض إلي من بلد تکونون فيه.

فقال ابن عباس: فلم؟ والله ماذا بلاؤنا عندک، ولا يضعنا إليک، إنا جعلناک للمؤمنين أماً، وأنت بنت أم رومان، وجعلنا أباک صديقا وهو ابن أبي قحافة: حامل قصاع الودک لابن جذعان إلي أضيافه.

فقالت عائشة: يا بن عباس تمنّون علي برسول الله؟!

فقال ابن عباس: ولم لا نمن عليک بمن لو کان منک قلامة منه مننتنا به؟

ونحن لحمه ودمه ومنه، وما أنت إلا حشية من حشايا تسع، خلفهن بعده، لست بأبيضهن لونا ولا بأحسنهن وجها ولا بأرشحهن عرقا، ولا بأنضرهن ورقاً، ولا بأضهرهن أصلا، صرت تأمرين فتطاعين وتدعين فتجابين وما مثلک إلا کما قال أخو بني فهر:


مننت علي قومي فابدوا عداوة
فقلت لهم: کفوا العداوة والشکرا


ففيه رضا من مثلکم لصديقکم
وأحجي بکم أن تجمعوا البغي والکفرا


ثم نهض ابن عباس وأتي أميرالمؤمنين فأخبره بمقالتها، وما رد عليها فقال أميرالمؤمنين (عليه السلام): أما لو کنت أعلم بک حيث بعثتک.

استمرت الحرب من الزوال إلي الغروب، وقيل استمرت ثلاثة أيام.

وعلي کل فقد بلغ عدد القتلي خمسة وعشرين ألف قتيل.

ستة آلاف من أصحاب الإمام والباقون من أصحاب الجمل، وأما الأيدي والأرجل التي قطعت فقد بلغ عددها أربعة عشر ألفا.

هکذا تروت الأرض بالدماء، وهکذا زهقت الأرواح ولا تسأل عن الجرحي ولا تسأل عن أرامل القتلي ويتاماهم.

هذا والکلام طويل وفي هذا المقدار کفاية.







  1. سورة التوبة، الآية: 12.
  2. سورة الحجرات، الآية: 9.
  3. سورة طه، الآية: 97.