علي جليس البيت











علي جليس البيت



بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله وصلي علي سيد أنبياء الله محمد وآله آل الله.

حديثنا الليلة حول الفترة التي انقضت علي أميرالمؤمنين (عليه السلام) وهو جليس البيت، مسلوب الإمکانيات، وقد ابتدأت تلک الفترة من يوم وفاة رسول الله (صلّي الله عليه وآله) واستيلاء أبي بکر علي مسند الحکم، ولما انقضت أيام أبي بکر أوصي من بعده إلي عمر بن الخطاب فکانت أيام حکمه عشر سنوات وشهوراً، ولما طعن عمر وأحس بالوفاة جعل الخلافة شوري، ورشح ستة من الصحابة وأمرهم أن ينتخبوا واحد من أنفسهم وإليکم التفصيل: لما علم عمر بن الخطاب بأنه ميت استشار الناس حول تعيين الخليفة، فأشير عليه بابنه: عبدالله بن عمر، فقال عمر: لاها الله لا يليها رجلان من ولد الخطاب! حسب عمر ما احتقب، لاها الله! لا أتحملها حياً وميتاً.

ثم قال: عن رسول الله مات وهو راض عن هؤلاء الستة من قريش: علي، عثمان، طلحة، الزبير، سعد بن أبي وقاص، عبدالرحمن بن عوف، وقد رأيت أن أجعلها شوري بينهم ليختاروا لأنفسهم إماماً.

ثم التفت عمر إلي هؤلاء الستة وقال: أکلکم يطمع في الخلافة؟ فسکتوا، فقال لهم ثانية فقالوا: وما الذي يبعدنا منها؟ وليتها أنت فقمت بها ولسنا دونک في قريش، ولا في السابقة ولا في القرابة.

فقال عمر: أفلا أخبرکم عن أنفسکم؟ قالوا: قل، فإنا لو استعفيناک لم تعفنا، فالتفت عمر إلي الزبير وذکر عيوبه ثم التفت إلي طلحة وذکر سوابقه السيئة ثم التفت إلي سعد بن أبي وقاص وذکره بنقائصه، وخاطب عبدالرحمن بن عوف قائلاً: إنک رجل عاجز تحب قومک!! ثم التفت إلي علي وقال: وأما أنت يا علي فلو وزن إيمانک بإيمان أهل الأرض لرجحهم، فقام علي وخرج فقال عمر: والله إني لأعلم مکان الرجل، لو وليتموه أمرکم لحملکم علي المحجة البيضاء.

قالوا: من هو؟ قال: هذا المولي من بينکم.

قالوا فما يمنعک من ذلک؟ قال: ليس إلي ذلک من سبيل.

وفي رواية ابن أبي الحديد: ثم أقبل علي علي (عليه السلام) فقال: لله أنت!! لولا دعابة فيک أما والله لئن وليتهم لتحملنهم علي الحق الواضح والمحجة البيضاء.

ثم أقبل عمر علي عثمان وقال: أما أنت يا عثمان فو الله لروثة خير منک!! هؤلاء الذين مات رسول الله وهو راض عنهم!! وقد ذکرنا ما يتعلق بهذا الموضوع في الجزء الأول من شرح نهج البلاغة.

التفت عمر وقال: ادعوا لي أباطلحة الأنصاري.

فدعوه فقال له: أنظر يا أباطلحة إذا عدتم من حفرتي (دفني) فکن في خمسين رجلاً من الأنصار حاملي سيوفکم، فخذ هؤلاء النفر الستة بإمضاء هذا الأمر وتعجيله، واجمعهم في بيت واحد، فإن اتفق خمسة منهم وأبي واحد فاضرب عنقه! وإن اتفق أربعة وأبي اثنان فأضرب أعناقهما! وإن اتفق ثلاثة وخالف ثلاثة فانظر الثلاثة التي فيها عبدالرحمن بن عوف فارجع إلي ما اتفقت عليه!!! فإن أصرت الثلاثة الأخري علي خلافها فاضرب أعناقها، وإن مضت ثلاثة أيام ولم يتفقوا فاضرب أعناق الستة ودع المسلمين يختاروا لأنفسهم!!! کان هذا هو القرار الصادر بحق الستة الذين مات رسول الله وهو راض عنهم!!! ومات عمر، ولما دفن، جمع أبوطلحة المرشحين للخلافة في بيت عائشة، ووقف هو علي باب البيت في خمسين رجلاً حاملي سيوفهم ولما استقر المجلس بهؤلاء الستة وقبل الشروع في الکلام نادي عمار بن ياسر من وراء الباب: إن وليتموها علياً سمعنا وأطعنا، وإن وليتموها عثمان سمعنا وعصينا، فقام الوليد بن عقبة وقال: يا معشر الناس: أهل الشوري إن وليتموها عثمان سمعنا وأطعنا، وإن وليتموها علي سمعنا وعصينا.

فانتهره عمار وقال له: متي کان مثلک يا فاسق يعترض أمور المسلمين وشتات جمعها؟؟.

وتسابا جميعاً وتناوشا حتي حيل بينهما.

فقال المقداد من وراء الباب: يا معشر المسلمين إن وليتموها أحد من القوم فلا تولوها من لم يحضر بدراً، وانهزم يوم أحد ولم يحضر بيعة الرضوان، وولي الدبر يوم التقي الجمعان فقال عثمان: أما والله لئن وليتها لأردنک إلي ربک الأول!!!! أما طلحة فإنه کان يعلم أن الخلافة لا تصل إليه مع وجود أميرالمؤمنين (عليه السلام) وعثمان، فلهذا أشهد القوم علي نفسه: أنه قد وهب حقه من الشوري لعثمان، وإنما فعل ذلک تقوية لجانب عثمان.

وأما الزبير فکان ابن عم أميرالمؤمنين ولما رأي ما صنعه طلحة لعثمان وهب هو حقه من الشوري إلي أميرالمؤمنين فقال: أنا أشهدکم أني قد وهبت حقي من الشوري لعلي.

فتساوي الجانبان ولکل منهما صوت واحد، فبقي عبدالرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص، فوهب سعد حقه لعبد الرحمن بن عوف لأن سعداً کان يعلم أن الخلافة لا تتم له.

فقال عبدالرحمن لأمير المؤمنين وعثمان: أيکما يخرج نفسه من الخلافة ويکون إليه الاختيار في الاثنين الباقيين؟؟ فلم يتکلم منهما أحد، فقال عبدالرحمن: أشهدکم أنني قد أخرجت نفسي من الخلافة علي أن أختار أحدهما.

فبدأ بعلي (عليه السلام) وقال له: (أبايعک علي کتاب الله وسنة النبي وسيرة الشيخين: أبي بکر وعمر) فقال علي بل علي کتاب الله وسنة النبي واجتهاد رأيي.

فعدل عبدالرحمن عنه، فعرض ذلک علي عثمان فقال: نعم.

فعاد عبدالرحمن إلي علي، فأعاد علي قوله، فعل ذلک عبدالرحمن ثلاث مرات فلما رأي أن علياً غير راجع عما قاله وأن عثمان ينعم له بالإجابة صفق علي يد عثمان وقال له: السلام عليک يا أميرالمؤمنين.

فقال علي (عليه السلام) لعبد الرحمن بن عوف: والله ما فعلتها إلا لأنک رجوت منه ما رجي صاحبکما من صاحبه.

ثم دعي عليه وقال: دق الله بينکما عطر منشم.

أشار (عليه السلام) إلي سبب تقديم عبدالرحمن عثمان علي علي (عليه السلام) وذکر أن السبب في بيعة عبدالرحمن لعثمان کالسبب في بيعة عمر لأبي بکر أي کما أن عمر بايع أبابکر يوم السقيفة ليرد أبوبکر الخلافة إليه عند موته فدعي عليهما أن يفسد ما بينهما، لأن منشم بکسر الميم اسم امرأة عطارة بمکة وکانت خزاعة وجرهم إذا أرادوا القتال تطيبوا من طيبها، وکانوا إذا فعلوا ذلک کثرت القتلي فيما بينهم حتي صار يضرب به المثل فيقال أشأم من عطر منشم.

واستجاب الله دعاء الإمام (عليه السلام) ففسد بعد ذلک بين عبدالرحمن وعثمان فلم يکلم أحدهما صاحبه حتي مات عبدالرحمن.

لأن عثمان بني قصره (طمار) والزوراء، وصنع طعاماً کثيراً ودعا الناس إليه فکان فيهم عبدالرحمن، فلما نظر إلي البناء والطعام قال: يا أبن عفان لقد صدقنا عليک ما کنا نکذب فيک، وإني أستعيذ بالله من بيعتک فغضب عثمان وقال: أخرجه عني يا غلام، فأخرجوه، فأمر عثمان الناس أن لا يجالسوه..

وللإمام أميرالمؤمنين (عليه السلام) احتجاج مفصل في يوم الشوري مذکور في (کتاب الاحتجاج للطبرسي) يذکر فيه فضائله وفواضله ومناقبه وخصائصه وينشد الناس ذلک فيحلف له الناس علي صدق کلامه وقد اشتهر بحديث المناشدة ورعاية للاختصار لم نذکره.

هذه خلاصة يوم الشوري وقد ذکرناها کما هي بدون أي تعليق ولما انتقلت الخلافة إلي عثمان بن عفان واشترطوا عليه العمل بکتاب الله وسنة النبي (صلّي الله عليه وآله) وسيرة الشيخين فما مضت مدة وإذا به يخالف الکتاب والسنة والشيخين فکان من أعماله أنه ضرب عمار بن ياسر ضرباً شديداً، وضربه برجليه وهما في الخف علي بطنه حتي أفتق عمار وأغمي عليه وما زال مغمي عليه حتي فاتته صلاة الظهر والعصر والمغرب، وأمر بتسيير أبي ذر إلي الشام ثم أمر بإرجاعه إلي المدينة فساروا به سيراً حثيثاً بلا نزول ولا راحة ولا نوم فلما وصل إلي المدينة، تناثر لحم فخذيه ورجليه، وبعد ذلک أمر بتسفيره إلي الربذة وهي منطقة ردية الماء والهواء لا زرع فيها ولا کلاء فمات أبوذر هناک جوعاً ولم يحضره أحد سوي ابنته الصغيرة.

ومنها إحراقه المصاحف (القرائين) ومنها ضربه عبدالله بن مسعود الصحابي الجليل وقطعه عطاءه مدة سنتين.

ومنها تسليط أقاربه وأرحامه علي رقاب المسلمين يلعبون بدمائهم وأموالهم، ويصلون بالمسلمين في حالة السکر، ويتقيئون الخمر في المحراب.

ومنها أنه بذل من بيت مال المسلمين أربع ملايين وثلاثمائة وعشرة آلاف دينار )4.310.000( ومائة وستة وعشرين مليون وسبع مائة وسبعين ألف درهم )126.770.000( کل ذلک من بيت مال المسلمين وهبها لأبن الزرقاء الزانية مروان بن الحکم ونظرائه من أقارب عثمان وبناته، إلي غير ذلک من المآسي التي يطول الکلام بذکرها.

فأحدثت أعماله في قلوب المسلمين ثورة ونقمة وفي طليعة الناقمين عليه عائشة وطلحة والزبير وغيرهم من المسلمين.

ولهذا کانت عائشة تحرض الناس علي عثمان وتخرج قميص رسول الله (صلّي الله عليه وآله) علي قصبة وتقول: أيها المسلمون إن عثمان غير سنة رسول الله وهذا ثوبه لم يبل بعد!!

واجتمع المسلمون من مصر والبصرة والکوفة وقصدوا نحو المدينة يريدون مقابلة عثمان، فجاء إليهم مروان وقابلهم بالکلام الخشن وأجابوه بالسب والشتم، واستمر الثوار يحاصرون دار عثمان، وفي تلک الأيام خرجت عائشة إلي الحج وهي تقول: اقتلوا نعثلاً قتله الله، اقتلوا نعثلاً فقد کفر.

لم يستطع الثوار أن يقابلوا عثمان إلا بعد أن تدخل علي (عليه السلام) في القضية وبذل ما في وسعه للإصلاح بين عثمان والثوار.

فذهبت المساعي أدراج الرياح وکتب عثمان إلي والي مصر يأمره بقطع الأيدي والأرجل من بعض الثائرين بعد أن وعدهم أن ينزل عند رغبتهم ويلبي طلباتهم القانونية وحقوقهم المشروعة، فرجع الثوار وتفرقوا راضين عن عثمان وفي أثناء الطريق وجدوا غلام عثمان ففتشوه فوجدوا عنده ذلک الکتاب فرجعوا وقد أخذ الغضب منهم مأخذاً عظيماً، ولما علم علي (عليه السلام) بذلک انسحب عن الفتنة، واقترب الثوار من دار عثمان ومنعوا أحداً يدخل عليه أو يخرج من بيته، فصعد عثمان علي السطح وقال: من يبلغ علياً ليرسل لنا الماء.

فوصل الخبر إلي علي فأرسل ولديه الحسن والحسين وغلامه فنبر يحمل کل واحد منهم قربة من الماء.

وأراد الثوار أن يمنعوهم من الدخول، ولکن کرامة لرسول الله أذنوا لهم بإيصال الماء إلي عثمان، وأمر علي (عليه السلام) ولديه أن يقفا علي باب عثمان يحرسانه من هجوم الثوار عليه.

وأخيراً وجد المحاصرون طريقاً إلي دار عثمان من الدار المجاورة له وهجموا عليه يقدمهم محمد بن أبي بکر وقتلوا عثمان فإنا لله وإنا إليه راجعون.

کان موقف علي (عليه السلام) مقابل أعمال عثمان موقف المصلح الناصح الشفيق، وکثيراً ما کان الإمام يحول بينه وبين تصرفاته غير المرضية، وخاصة في تلک الأيام الأخيرة استطاع الإمام بعد شق الأنفس أن يرفع سوء التفاهم بين عثمان والثوار المصريين والبصريين والکوفيين، ويلطف الجو، ووجد لهم حلاً صحيحاً يحسم نزاعهم ويعيد المياه إلي مجاريها.

ورجع الثوار إلي بلادهم راضين شاکرين لعلي (عليه السلام) موقفه الإصلاحي في قضيتهم ومشکلتهم، ولما وجدوا کتاب عثمان بيد غلامه رجعوا إلي المدينة فأرسل عثمان إلي علي يطلب منه التدخل في القضية فخرج علي والتقي بالثوار وسألهم عن سبب رجوعهم فأبروزا کتاب عثمان وفيه يأمر عثمان بقطع أيدي المصريين وأرجلهم وقتل جماعة آخرين! فجاء بهم علي وأدخلهم علي عثمان وأبرز له ذلک الکتاب، فلما نظر إليه عثمان قال: الخاتم خاتمي، والغلام غلامي، والخط خط کتابتي، ولا علم لي بالکتاب!! فقال له الإمام (عليه السلام): فمن تتهم؟ قال عثمان لعلي (عليه السلام) أتهمک وأتهم کاتبي!! فقام علي مغضباً وقال: بل هو فعلک.

واعتزل الإمام تلک الفتنة، ولما استسقاه عثمان أرسل علي (عليه السلام) سيدي شباب أهل الجنة ابني رسول الله الحسن والحسين يحملان الماء إلي دار عثمان ويحرسانه من تلک الفتنة.

وقد تقدم کل هذا، ومع هذا کله وغير هذا مما لم نذکره هنا کان أعداء علي يتهمونه بقتل عثمان ويطلبون منه الثأر، فأقاموا المجازر والمذابح التي أمطرت السماء فيها دما، وکاد العرب أن ينقرض، ولقد بلغ عدد القتلي والضحايا في هذه الحرب أکثر من مائة وستين ألف رجل ولا تسأل عن عوائل هؤلاء وأيتامهم وما هناک من ويلات ومصائب والتفصيل في الليلة القادمة إن شاء الله تعالي.