علي والهجرة











علي والهجرة



بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله وصلي الله علي سيد أنبياء الله محمد وآله سادات أولياء الله.

ومن کلام لإمامنا أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام): (أما إنه سيظهر عليکم بعدي رجل رحب البلعوم مندحق البطن يأکل ما يجد ويطلب ما لا يجد، فاقتلوه ولن تقتلوه، ألا وإنه سيأمرکم بسبي والبراءة مني.

فأما السب فسبوني فإنه لي زکاة ولکم نجاة، وأما البراءة فلا تتبرأوا مني فإني ولدت علي الفطرة وسبقت إلي الإيمان والهجرة).

هذه الجملات تجدونها في أکثر کتب الحديث وخصوصاً في کتاب نهج البلاغة في ضمن خطب الإمام أميرالمؤمنين (عليه السلام).

أخبر الإمام الناس باستيلاء معاوية علي رقاب المسلمين، وذکر صفة من رذائله وهي کثرة الأکل وعدم الشبع لأن رسول الله (صلّي الله عليه وآله) دعا عليه بقوله: (لا أشبع الله بطنه).

ولسنا الآن في مقام التحدث عن معاوية ونفسياته وإنما نقتطف من هذه الجملات جملة واحدة، ونجعلها محور حديثنا الليلة، وهي قوله (عليه السلام): (سبقت إلي الإيمان والهجرة) أما السبق إلي الإسلام والإيمان فقد مضي الکلام عنه، وأما السبق إلي الهجرة، فليس المقصود من الهجرة الانتقال من بلد إلي آخر، ولا يعد هذا فضيلة، فما أکثر المهاجرين! ولعل المقصود من الهجرة هو ترک الوطن وکل ما فيه لله وفي الله، وقد قال تعالي: (ومن يخرج من بيته مهاجراً إلي الله ورسوله ثم يدرکه الموت فقد وقع أجره علي الله)[1] وهذه الآية في شأن المجاهدين الذين يقتلون في سبيل الله والحجاج الذين يموتون في طريق الحج.

والله تعالي يفضل المهاجرين علي غيرهم لأنهم ترکوا کل ما کانوا يملکون من المال والأهل والولد لأجل المحافظة علي دينهم والتخلص من المشرکين الذين کانوا يحاربون المسلمين أشد محاربة.

وعلي (عليه السلام) سبق المسلمين إلي الهجرة، وقد اتفق المؤرخون وأجمعوا علي أن علياً هو أول من التحق بالرسول وهو في المدينة وذلک بعد أن رد الودائع والأمانات إلي أهلها وعزم علي الخروج من مکة إلي المدينة، وقد ذکر المؤرخون: أن أبابکر هاجر مع النبي من الغار إلي المدينة فيمکن لنا أن نقول: أن خطاب علي (عليه السلام) کان موجهاً إلي الناس المخاطبين في ذلک اليوم وليس فيهم أبوبکر، وعلي سبق المسلمين إلي الهجرة، ويمکن أن نناقش في خروج أبي بکر مع النبي بأنه لم يقصد الهجرة أي ترک مکة وما فيها وإنما خرج مداراة ومجاراة وصحبة مع النبي وسايره حتي وصل إلي قباء خارج المدينة.

وعلي خرج من مکة بهذا القصد، وترک وراءه کل شي ء، فيصح أن يقال عنه: إنه أول المهاجرين علي الإطلاق، ويمکن أن يکون المقصود الهجرة إلي الدين کما قال تعالي عن لسان لوط: (إني مهاجر إلي ربي)[2] وأما کيفية هجرة علي (عليه السلام) من مکة إلي المدينة فقد رواها المحدثون بهذه الکيفية: کتب رسول الله (صلّي الله عليه وآله) إلي علي بن أبي طالب (عليه السلام) کتاباً يأمره فيه بالمسير إليه، وقلة التلوم، وکان الرسول بعث إليه أباواقد الليثي، فلما أتاه کتاب رسول الله (صلّي الله عليه وآله) تهيأ للخروج والهجرة.

قال ابن شهر آشوب: واستخلفه الرسول (صلّي الله عليه وآله) لرد الودائع، لأنه کان أميناً، فلما أداها قام علي الکعبة فنادي بصوت رفيع: يا أيها الناس هل من صاحب أمانة؟ هل من صاحب وصية؟ هل من عدة له قبل رسول الله؟ فلما لم يأت أحد لحق بالنبي.

وقال ابن شهر آشوب أيضاً: أمره النبي أن يؤدي عنه کل دين وکل وديعة وأوصي إليه بقضاء ديونه، فأذن من کان معه من ضعفاء المؤمنين فأمرهم أن يتسللوا ويتخففوا إذا ملأ الليل بطن کل واد إلي ذوي طوي، وخرج علي (عليه السلام) بفاطمة (عليهاالسلام) بنت رسول الله (صلّي الله عليه وآله) وأمه فاطمة بنت أسد بن هاشم، وفاطمة بنت الزبير بن عبدالمطلب، وقد قيل: هي ضباعة، وتبعهم أيمن بن أم أيمن مولي رسول الله (صلّي الله عليه وآله)، وأبوواقد رسول رسول الله (صلّي الله عليه وآله) فجعل يسوق بالرواحل فأعنف بهم، فقال علي (عليه السلام): ارفق بالنسوة أباواقد! إنهن من الضعائف، قال: إني أخاف أن يدرکنا الطالب أو قال: الطلب فقال علي (عليه السلام): أربع عليک، فإن رسول الله (صلّي الله عليه وآله) قال لي: يا علي إنهم لن يصلوا من الآن إليک بأمر تکرهه، ثم جعل يعني علياً (عليه السلام) يسوق بهن سوقاً رفيقاً وهو يرتجز ويقول:


ليس إلي الله فارفع ظنکا
يکفيک رب الناس ما أهمکا


وسار، فلما شارف ضجنان أدرکه الطلب سبع فوارس من قريش مستلئمين وثامنهم مولي الحارث بن أمية يدعي جناحا، فأقبل علي (عليه السلام) علي أيمن وأبي واقد وقد ترأي القوم فقال لهما: أنيخا الإبل وأعقلاها.

وتقدم حتي أنزل النسوة، ودنا القوم فاستقبلهم علي (عليه السلام) منتضياً سيفه، فأقبلوا عليه فقالوا: ظننت أنک يا غدار ناج بالنسوة، ارجع لا أبالک، قال: فإن لم أفعل؟ قالوا: لترجعن راغماً، أو لنرجعن بأکثرک شعراً، وأهون بک من هالک.

ودنا الفوارس من النسوة والمطايا ليثوروها، فحال علي (عليه السلام) بينهم وبينها، فأهوي له جناح بسيفه فراغ علي (عليه السلام) عن ضربته، وتختله علي (عليه السلام) فضربه علي عاتقه، فأسرع السيف مضياً فيه حتي مس کاثبة فرسه، فکان علي (عليه السلام) يشد علي قدمه شد الفرس، أو الفارس علي فرسه، فشد عليهم بسيفه وهو يقول:


خلوا سبيل الجاهد المجاهد
آليت لا أعبد غير الواحد


فتصدع القوم عنه، فقالوا له: اغن عنا نفسک يا ابن أبي طالب، قال: فإني منطلق إلي ابن عمي رسول الله (صلّي الله عليه وآله) بيثرب، فمن سره أن أفري لحمه وأهريق دمه فليتبعني، أو فليدن مني، ثم أقبل علي صاحبيه أيمن وأبي واقد فقال لهما: أطلقا مطاياکما، ثم سار ظاهراً قاهراً حتي نزل ضجنان، فتلوم بها قدر يومه وليلته، ولحق به نفر من المستضعفين من المؤمنين، وفيهم أم أيمن مولاة رسول الله (صلّي الله عليه وآله)، فلبثوا هناک هو والفواطم: أمه فاطمة بنت أسد رضي الله عنها، وفاطمة (عليهاالسلام) بنت رسول الله (صلّي الله عليه وآله) وفاطمة بنت الزبير يصلون لله ليلتهم ويذکرونه قياماً وقعوداً وعلي جنوبهم، فلم يزالوا کذلک حتي طلع الفجر، فصلي علي (عليه السلام) بهم صلاة الفجر، ثم سار لوجهه، فجعل وهم يصنعون ذلک منزلاً بعد منزل يعبدون الله عزوجل ويرغبون إليه کذلک حتي قدموا المدينة، وقد نزل الوحي بما کان من شأنهم قبل قدومهم: (الذين يذکرون الله قياماً وقعوداً وعلي جنوبهم ويتفکرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلاً)[3] إلي قوله: (فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منکم من ذکر أو أنثي).[4] .

ولما نزل الرسول (صلّي الله عليه وآله) بقباء خارج المدينة بقي ينتظر قدوم علي (عليه السلام)، فقال له أبوبکر: انهض بنا إلي المدينة فإن القوم قد فرحوا بقدومک، وهم يستريثون إقبالک إليهم فانطلق بنا ولا تقم هاهنا تنتظر علياً، فما أظنه يقدم إليک إلي شهر، فقال له رسول الله (صلّي الله عليه وآله): کلا، ما أسرعه.

ولست أريم حتي يقدم ابن عمي وأخي في الله عزوجل وأحب أهل بيتي إلي فقد وقاني بنفسه من المشرکين فبقي النبي (صلّي الله عليه وآله) خمسة عشر يوماً فوافي علي بعياله وقد تفطرت قدماه فاعتنقه النبي وبکي رحمة لما بقدميه من الورم.

وتفل في يديه وأمرهما علي قدميه فلم يشتکهما بعد ذلک أبداً.







  1. سورة النساء، الآية: 100.
  2. سورة العنکبوت، الآية: 26.
  3. سورة آل عمران، الآية: 191.
  4. سورة آل عمران، الآية: 195.