علي ليلة المبيت











علي ليلة المبيت



بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين وسلام علي سيد المرسلين محمد وآله الطاهرين.

قال الله تعالي: (ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله والله رؤوف بالعباد).[1] .

حديثنا الليلة حول ما قام به علي (عليه لسلام) من التضحية والتفادي في سبيل رسول الله والدفاع عنه، ولقد ذکرنا في الليلة الماضية شيئاً يسيراً مما قام به أبوه سيدنا أبوطالب (عليه السلام) في الدفاع عن النبي (صلّي الله عليه وآله) والحماية له.

ومن هذه الليلة نبدأ بشرح ما قام به علي (عليه السلام) من توطين النفس لکل بلاء ومکروه في سبيل الإسلام، ولقد صدق من قال:


ولولا أبوطالب وابنه
لما مثل الدين شخصاً وقاما


فذاک بمکة آوي وحامي
وهذا بيثرب جس الحماما


فلله ذا فاتحاً للهدي
ولله ذا للمعالي ختاما


فقد خلق الله تعالي علياً (عليه السلام) ليکون أحسن وزير وأشرف نصير للرسول وأوفي مدافع وأقوي مجاهد في سبيل الإسلام، ولقد تحقق الهدف الذي خلق علي (عليه السلام) من أجله، وقد ذکرنا نهضته المبارکة يوم الإنذار وإجابته طلب الرسول وتلبيته لندائه، وکانت تلک النهضة فاتحة قيامه وجهاده، إذ تجلت فيها شخصية علي (عليه السلام) وعبقريته، وظهر مدي اعتماده علي الله تعالي وعلي نفسه المتشبعة بالإيمان وقلبه المطمئن بذکر الله.

واستمر الأمر من ذلک اليوم فکأنه فترة التدريب أو الامتحان التمهيدي الذي لا بد منه لکل مصلح منقذ أن يجس نبض المجتمع ليکون علي بصيرة أکثر فينضج فکره بالتجارب لاتخاذ التدابير اللازمة لمشروعه الذي ينوي القيام به والسير علي المخطط الذي جعله برنامجاً لحياته.

ولولا خشية الافتراء علي علي (عليه السلام) لقلت: إن قلب علي (عليه السلام) هو أقوي قلب خلقه الله في صدور البشر، وإن أعصاب علي کانت تستمد القوي من طاقة غير متناهية.

وإلا فکيف يمکن للبشر أن لا يدخل الخوف قلبه، ولا تتوتر من الأهوال أعصابه، ولا يخشي من المستقبل المبهم الغامض ولا تستولي عليه الغرائز: غريزة حب الذات، حب الحياة، الأنانية وغيرها من الطبائع التي کثيراً ما تحول بين الإنسان وبين ما يريد؟

ومن هذا الحديث ندرک الشجاعة التي خامرت نفس علي (عليه السلام) من صباه: عن أبي عبدالله (الصادق) (عليه السلام) أنه سئل عن معني قول طلحة بن أبي طلحة لما بارزه علي (عليه السلام): يا قضم؟

قال: إن رسول الله (صلّي الله عليه وآله) کان بمکة لم يجسر عليه أحد لموضع أبي طالب، وأغروا به الصبيان وکانوا إذا خرج رسول الله يرمونه بالحجارة والتراب، وشکي ذلک إلي علي (عليه السلام)، فقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله إذا خرجت فأخرجني معک.

فخرج رسول الله (صلّي الله عليه وآله) ومعه أميرالمؤمنين (عليه السلام) فتعرض الصبيان لرسول الله (صلّي الله عليه وآله) کعادتهم، فحمل عليهم أميرالمؤمنين (عليه السلام)، وکان يقضمهم في وجوههم وآنافهم وآذانهم، الصبيان يرجعون باکين إلي آبائهم ويقولون: قضمنا علي (عليه السلام) قضمنا علي.

فسمي لذلک: القضم.

ولقد حاول المشرکون وکفار مکة خنق الإسلام والقضاء علي حياة الرسول (صلّي الله عليه وآله) بشتي الطرق والأساليب، فکانت حرکاتهم فاشلة، وجاءوا إلي أبي طالب وسألوه أن يمنع الرسول عن سب الآلهة!! وإفساد الشبان!! وتسفيه الأحلام! فلم يجدوا التجاوب من أبي طالب (عليه السلام).

فجعلوا يحاربون النبي حرب الأعصاب، وجاءوا عن طريق التهديد والوعيد وإسناد السحر والجنون إليه، وقذفه بالحجارة وتلويث ثيابه بالدم والأقذار.

وکتبوا الصحيفة القاطعة وقاطعوا بني هاشم أقسي مقاطعة، کل ذلک لا يزيد النبي إلا ثباتاً واستقامة، وخاصة لما نزلت عليه الآية: (فاستقم کما أُمرت)[2] واستمر الحال علي هذا المنوال حتي توفيت السيدة خديجة الکبري وبعد مدة يسيرة توفي سيدنا أبوطالب، وکانا بمنزلة جناحين لرسول الله، وخيمت الأحزان علي قلب الرسول حتي سمي تلک السنة (عام الحزن).

وعند ذلک خلا الجو للمشرکين، واستضعفوا النبي لفقدان الناصر، وعزموا علي اغتيال النبي وقتله، وإليکم التفصيل:اجتمع المشرکون في دار الندوة وتذاکروا حول قتل النبي (صلّي الله عليه وآله) وتقرر أخيراً أن يجتمع من کل قبيلة رجل واحد ويهجموا علي النبي (صلّي الله عليه وآله)، ويقتلوه في بيته، واجتمع أربعون رجلاً من أربعين قبيلة واجتمعوا علي باب دار النبي (صلّي الله عليه وآله) ونزل جبرائيل علي النبي وأخبره بمکيدة القوم وأمره بالهجرة من مکة إلي المدينة، فأرسل النبي إلي علي وقال له: يا علي إن الروح هبط علي يخبرني أن قريشاً اجتمعت علي المکر بي وقتلي وأنه أوحي إلي عن ربي أن أهجر دار قومي وأن أنطلق إلي غار ثور، تحت ليلتي، وأنه أمرني أن آمرک بالمبيت علي مضجعي لتخفي بمبيتک عليه أثري فما أنت قائل وصانع؟

فقال علي (عليه السلام): أوَ تسلمنّ بمبيتي هناک يا نبي الله؟ قال: نعم، فتبسم علي (عليه السلام) ضاحکاً، وأهوي إلي الأرض ساجداً، شکراً لما أنبأه به رسول الله (صلّي الله عليه وآله) من سلامته، فکان علي (عليه السلام) أول من سجد لله شکراً، وأول من وضع وجهه علي الأرض بعد سجدته من هذه الأمة بعد رسول الله (صلّي الله عليه وآله) فلما رفع رأسه قال له: امضي لما أمرت، فداک سمعي وبصري وسويداء قلبي، ومرني بما شئت أکون فيه کمسرتک وأقع منه بحيث مرادک، وإن توفيقي إلا بالله، وقال النبي (صلّي الله عليه وآله): أو أن ألقي عليک شبهة مني، أو قال: شبهي، قال: أن يمنعوني نعم، قال: فارقد علي فراشي واشتمل ببردي الحضرمي، ثم إني أخبرک يا علي أن الله تعالي يمتحن أولياءه علي قدر إيمانهم ومنازلهم من دينه، فأشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، وقد امتحنک يا ابن أم وامتحنني فيک بمثل ما امتحن به خليله إبراهيم (عليه السلام) والذبيح إسماعيل (عليه السلام)، فصبراً صبراً، فإن رحمة الله قريب من المحسنين، ثم ضمه النبي (صلّي الله عليه وآله) إلي صدره وبکي إليه وجداً به، وبکي علي (عليه السلام) جزعاً علي فراق رسول الله (صلّي الله عليه وآله).

وفي رواية: قال رسول الله (صلّي الله عليه وآله) لعلي (عليه السلام): أرضيت أن أُطلب فلا أُوجد وتوجد؟ فلعله أن يبادر إليک الجهال فيقتلوک؟ قال: بلي يا رسول الله رضيت أن يکون روحي لروحک وقاءً ونفسي لنفسک فداء، بل رضيت أن يکون روحي ونفسي فداء أخ لک أو قريب...

وهل أحب الحياة إلا لخدمتک، والتصرف بين أمرک ونهيک، ولمحبة أوليائک ونصرة أصفيائک ومجاهدة أعدائک.

لولا ذلک لما أحببت أن أعيش في هذه الدنيا ساعة واحدة.

وقال رسول الله (صلّي الله عليه وآله): لعلي (عليه السلام) فإذا قضيت ما أمرتک من أمر فکن علي أهبة الهجرة إلي الله ورسوله، وسر إلي لقدوم کتابي عليک، ولا تلبث بعده.

فانطلق النبي إلي الغار، ونام علي في مکانه ولبس برده، فجاء قريش يريدون أن يقتلوا النبي (صلّي الله عليه وآله)، فجعلوا يرمون علياً وهم يرون أنه النبي وکان علي (عليه السلام) يتضور (يتلوي) من الألم ولا يتکلم لئلا يعرفوه، وکان القوم يريدون الهجوم علي البيت ليلاً، فيمنعهم أبولهب ويقول لهم: يا قوم إن في هذه الدار نساء بني هاشم وبناتهم، ولا نأمن أن تقع يد خاطئة إذا وقعت الصيحة عليهن، فيبقي ذلک علينا مسبة وعاراً إلي آخر الدهر في العرب.

فجلسوا علي الباب حتي طلع الفجر، فتواثبوا إلي الدار شاهرين سيوفهم، وقصدوا نحو مضجع النبي ومعهم خالد بن الوليد، فقال لهم أبوجهل: لا تقعوا به وهو نائم لا يشعر، ولکن ارموه بالأحجار لينتبه بها ثم اقتلوه، أيقظوه ليجد ألم القتل، ويري السيوف تأخذه!! فرموه بأحجار ثقال صائبة، فکشف عن رأسه، وقال: ما شأنکم؟ فعرفوه، فإذا هو علي (عليه السلام) فقال أبوجهل: أما ترون محمداً کيف أبات هذا ونجا بنفسه لتشتغلوا به؟ وينجو محمد، لا تشتغلوا بعلي المخدوع لينجو بهلاکه محمد، وإلا فما منعه أن يبيت في موضعه إن کان ربه يمنع عنه کما يزعم.

ثم قالوا: أين محمد؟ قال: أجعلتموني عليه رقيباً؟ ألستم قلتم: نخرجه من بلادنا؟ فقد خرج عنکم.

فأرادوا أن يضربوه فمنعهم أبولهب، وقالوا لعلي: أنت کنت تخدعنا منذ الليلة (أي بنومک علي فراش النبي خدعتنا وظننا أنک محمد) وبقي النبي (صلّي الله عليه وآله) في الغار ثلاثة أيام وکان علي يأتيه بالطعام والشراب وفي رواية: استأجر ثلاث رواحل للنبي ولأبي بکر ولدليلهم.

وخرج النبي بعد ذلک من الغار وتوجه نحو المدينة.

روي الثعلبي في تفسيره قال: لما أراد النبي (صلّي الله عليه وآله) الهجرة خلف علياً (عليه السلام) لقضاء ديونه، ورد الودائع التي کانت عنده وأمر ليلة خرج إلي الغار، وقد أحاط المشرکون بالدار، وقال له يا علي: اتشح ببردي الحضرمي، ثم نم علي فراشي فإنه لا يخلص إليک منهم مکروه إن شاء الله، ففعل ما أمره، فأوحي الله عزوجل إلي جبرائيل وميکائيل: إني قد آخيت بينکما وجعلت عمر أحدکما أطول من الآخر، فأيکما يؤثر صاحبه بالحياة؟ فاختار کل منهما الحياة، فأوحي الله عزوجل إليهما: ألا کنتما مثل علي بن أبي طالب؟ آخيت بينه وبين محمد (صلّي الله عليه وآله) فبات علي فراشه يفديه بنفسه، ويؤثره بالحياة، اهبطا إلي الأرض فاحفظاه من عدوه، فنزلا، فکان جبرائيل عند رأسه، وميکائيل عند رجليه، وجبرائيل يقول: بخ بخ! من مثلک يا بن أبي طالب، يباهي الله بک ملائکته؟؟ فأنزل الله عزوجل علي رسوله (صلّي الله عليه وآله) وهو متوجه إلي المدينة في شأن علي بن أبي طالب (عليه السلام) (ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله والله رؤوف بالعباد).[3] .

قال رسول الله (صلّي الله عليه وآله): نزل علي جبرائيل صبيحة يوم الغار، فقلت: حبيبي جبرائيل أراک فرحاً، فقال: يا محمد وکيف لا أکون کذلک وقد قرت عيني بما أکرم الله به أخاک ووصيک وإمام أمتک علي بن أبي طالب (عليه السلام)، فقلت: بماذا أکرمه الله؟ قال: باهي بعبادته البارحة ملائکته، وقال: ملائکتي! انظروا إلي حجتي في أرضي بعد نبيي وقد بذل نفسه، وعفر خده في التراب تواضعاً لعظمتي، أشهدکم أنه إمام خلقي ومولي بريتي.

وکان علي (عليه السلام) يعتز ويفتخر بهذه الموفقية التي نالها من عند الله تعالي فقال شعراً:


وقيت بنفسي خير من وطأ الحصي
ومن طاف بالبيت العتيق وبالحجر


محمد لما خاف أن يمکروا به
فوقاه ربي ذو الجلال من المکرو


بتُّ أراعيهم متي ينشرونني
وقد وطنت نفسي علي القتل والأسر


وبات رسول الله في الغار آمناً
هناک وفي حفظ الإله وفي ستر


أقام ثلاثاً ثم زمت قلائص
قلائص يفرين الحصي أينما تفري


إن هذا العمل العظيم الذي قام به الإمام العظيم علي (عليه السلام) وقع من أهل السماوات موقع الإعجاب والإکبار والتقدير، وهذه المواساة هي الفريدة من نوعها في تاريخ الإسلام بل وفي تاريخ الأنبياء، فلا غرو ولا عجب إذا طأطأ العظماء رؤوسهم إجلالاً لعلي (عليه السلام) ونثروا الثناء الجميل نظماً ونثراً، ولم ينحصر التنويه والإشادة بهذه المکرمة بالمسلمين، بل شارکهم من غير المسلمين کل من تطبع بروح الفضيلة وحمل بين جوانح صدره قلباً وعي جزءً من الفتوة والشهامة والنجدة وکل يعمل علي شاکلته، وکل إناء بالذي فيه ينضح.

أما من المسلمين فالسيد ابن طاووس له کلام لطيف وتحقيق ظريف سنذکره.

وأما من غير المسلمين فأحدهم جورج جرداق الکاتب المعاصر وبولس سلامة في ملحمة الغدير، ونکتفي هنا بکلام ابن طاووس وجورج جرداق وبولس سلامة.

قال السيد ابن طاووس في کتاب الإقبال...

ومن أسرار هذه المهاجرة: أن مولانا علياً (عليه السلام) بات علي فراش المخاطرة وجاد بمهجته لمالک الدنيا والآخرة ولرسوله (صلّي الله عليه وآله) فاتح أبواب النعم الباطنة والظاهرة، ولولا ذلک المبيت واعتقاد الأعداء أن النائم علي الفراش هو سيد الأنبياء (صلّي الله عليه وآله) لما کانوا صبروا عن طلبه إلي النهار حتي وصل إلي الغار، فکانت سلامة صاحب الرسالة من قبل أهل الضلالة صادرة عن تدبير الله جل جلاله بمبيت مولانا علي (عليه السلام) في مکانه وآية باهرة لمولانا علي (عليه السلام) شاهدة بتعظيم شأنه، وأنزل الله جل جلاله في مقدس قرآنه: (ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله والله رؤوف بالعباد)[4] فأخبر أن لمولانا علي (عليه السلام) کانت بيعاً لنفسه الشريفة، وطلباً لرضاء الله جل جلاله دون کل مراد، وقد ذکرنا في الطرائف من روي هذا الحديث من المخالف، ومباهاة الله جل جلاله تلک الليلة بجبرائيل وميکائيل في بيع مولانا علي (عليه السلام) بمهجته، وأنه سمح بما لم يسمح به خواص ملائکته.

ومنها: أن الله جل جلاله زاد مولانا علياً (عليه السلام) من القوة الإلهية والقدرة الربانية إلي أنه ما قنع له أن يفدي النبي (صلّي الله عليه وآله) بنفسه الشريفة، حتي أمره أن يکون مقيماً بعده في مکة مهاجراً للأعداء قد هربه منهم وستره بالمبيت علي الفراش وغطاه عنهم، وهذا ما لا يحتمله قوة البشر إلا بآيات باهرة من واهب النفع ودافع الضرر.

ومنها: أن الله عزوجل لم يقنع لمولانا علي (عليه السلام) بهذه الغاية الجليلة حتي زاده من المناقب الجميلة، وجعله أهلاً أن يقيم ثلاثة أيام بمکة لحفظ عيال سيدنا رسول الله (صلّي الله عليه وآله)، وأن يسير بهم ظاهراً علي رغم الأعداء وهو وحيد من رجاله، ومن يساعده علي ما بلغ من المخاطرة إليه.

ومنها: أن فدية مولانا علي (عليه السلام) لسيدنا رسول الله (صلّي الله عليه وآله) کانت من أسباب التمکين من مهاجرته ومن کل ما جري من السعادات والعنايات بنبوته، فيکون مولانا علي (عليه السلام) قد صار من أسباب التمکين من ما جرت حال الرسالة عليه ومشارکاً في کل خير فعله النبي (صلوات الله عليه)، وبلغ حاله إليه، وقد اقتصرت في ذکر أسرار المهاجرة الشريفة النبوية علي هذه المقامات الدينية، ولو أردت بالله جل جلاله أوردت مجلداً منفرداً في هذه الحال، ولکن هذا کاف شاف للمنصفين وأهل الإقبال.

وقال الکاتب المسيحي جورج جرداق في کتابه: (صوت العدالة الإنسانية): أما علي بن أبي طالب، فما کان أعجب أمره يوم غامر في سبيل عقيدته التي هي عقيدة محمد بن عبدالله، وفي سبيل الحق ورعاية الشرف والإخاء هذه المغامرة التي لم يعرف التاريخ أجل منها، وأقوي وأدل علي وحدة الذات بين عظيم وعظيم.

وإنها لإرادة علي التضحية قل أن تجد لها مثيلاً إلا في الظروف النادرة التي تقف بها النفس الإنسانية الواعية بين حالين من وجود وفناء في حيز من إدراک معني الوجود علي مثال خاص.

فإما أن تؤثر لهذا الجسد عيشاً يقربه دون ما يحييه من قيم الحياة الصاعدة، فتنکر هذه القيم وتفضل عليها وجوداً هو أشبه بالفناء من حيث أن الوجود حياة تحيا! وإما أن تؤثر لهذا الکيان الإنساني انصهاراً بکليات القيم دونما نظر إلي وجود عضوي لا يتصل بروح الوجود الفذ، فتأتي هذه القيم سالکاً إليها طريق التهلکة.

وما فناؤک آنذاک إلا دليل علي أن الوجود إنما هو لديک حياة تحيا لا عيش يعاش!

أجل، إنها لتضحية قل أن تجد لها مثيلاً إلا في اختيار سقراط للموت وفي مسلک غيره من السقارطة، تضحية علي بن أبي طالب يفدي النبي بنفسه راضياً مختاراً علي صورة أهون منها علي لقاء الموت في ساحة القتال، أو علي شفاه قمقم السم! فما أصعب علي المرء أن يأخذ مکان رجل حکم عليه المجرمون بالقتل.

وأن يرقد في فراشه فلا يخطئه هؤلاء إذا دخلت إرادتهم طور التنفيذ وهم منه علي خطوات ينظرون إليه ويسمع إليهم.

ثم إنه يترقب بين حين وحين رؤية أنظارهم تتوامض بالغدر تحت عينيه، وسيوفهم تتلامع بالموت فوق رأسه، طوال ليلة کاملة!

لقد کان علي بمغامرته هذه استمراراً لمحمد.

وکانت تضحيته من روح المقاومة التي عرف بها ابن عمه العظيم، وکان مبيته في فراش النبي تزکية للدعوة وحافزاً علي الجهاد الطويل! ثم إن في هذه المغامرة ما يوجز الحقيقة عن الإمام وطباعه ومزاجه، فإذا هي صادرة عنه کما تصدر الأشياء عن معادنها دون تکلف ودون إجهاد.

ففيها نموه الذهني المبکر الذي جعله يدرک من الدعوة التي يدق فهمها فهماً صحيحاً علي من کان في مثل سنه.

وفيها زهده بالحياة إذا لم تکن عمراً لمکارم الأخلاق.

وفيها صدقه المر وإخلاصه العجيب.

وفيها عدله بين نفسه وبين سواه من أهل الجهاد وما يتوخاه بذلک من نصرة للمظلومين والمستضعفين إذا قتل هو ونجحت الرسالة علي يدي صاحب الهجرة.

وفيها مواجهته للأمور بسماحة وبساطة لا يعرف معهما إلي الکلفة سبيلاً.

وفيها المروءة والوفاء والطيبة والشجاعة وسائر صفات الفروسية التي يمثلها علي بن أبي طالب.

بل قل هي شي ء من استشهاده المقبل وقال الأستاذ بولس سلامة في ملحمة الغدير:


هزه الشوق للنبي فشد
العزم يهفو إلي جماع المآثر


في رمال الصحراء يسري وحيداً
مقفر الکف أعوزته الأباعر


صابر في العذاب والجوع حتي
عجب القفر من تقشف صابر


إلي أن يقول:


لا فراش سوي الثري، لا غطاء
لا ضياء سوي النجوم الزواهر


فيناجي السهي يصعد في الأج
واء طرفاً يشق ستر الدياجر


إن هذا الصمت الرهيب لقدس
يغسل المرء بالعذاب الصاهرفا


لخطوب الجسام والألم المم
دود وحي مطهر للضمائر


فإذا کان طاهراً کعلي
شد لله قلبه بأواصر


يذکر الله بکرة وعشيا
ويصلي في کل ومضة خاطر


فالمناجاة والصلاة عطور
تتعالي إلي السماء مباخر


يا رمال الصحراء هذا علي
فاملئي الدرب والضفاف أزاهر


هو بعد النبي أشرف ظل
لاح في السبسب الخلي مهاجر


حملي أجنح الأثير نسيماً
من جفون الأسحار ريان عاطروا


بسطي حوله الزنابق فرشاً

وانشري فوقه الغمام مقاصر







  1. سورة البقرة، الآية: 207.
  2. سورة هود، الآية: 112.
  3. سورة البقرة، الآية: 207.
  4. سورة البقرة، الآية: 27.