حديث المنزلة











حديث المنزلة



کانت غزوة تبوک آخر غزوة غزاها رسول الله (صلّي الله عليه وآله) وخرج معه المسلمون الوضيع منهم والشريف، ولم يبق في المدينة إلا النساء والصبيان وعدد من المتخلفين، فأمر النبي (صلّي الله عليه وآله) أن يبقي علي في المدينة يحرس المدينة ومن فيها من عوائل المسلمين، وإليکم التفصيل کما رواه المفيد في الإرشاد قال: لما أراد رسول الله (صلّي الله عليه وآله) الخروج استخلف أميرالمؤمنين (عليه السلام) في أهله وولده وأزواجه ومهاجره، وقال له: يا علي إن المدينة لا تصلح إلا بي أو بک، وذلک أنه (صلّي الله عليه وآله) علم من خبث نيات الأعراب وکثير من أهل مکة ومن حولها ممن غزاهم وسفک دماءهم، وأشفق أن يطلبوا المدينة عند نأيه (ابتعاده) عنها، وحصوله ببلاد الروم أو نحوها فمتي لم يکن في المدينة من يقوم مقامه لم يؤمن معرتهم، وإيقاع الفساد في دار هجرته والتخطي إلي ما يشين أهله ومخلفيه، وعلم (صلّي الله عليه وآله) أنه لا يقوم مقامه في إرهاب العدو وحراسة دار الهجرة وحياطة من فيها إلا أميرالمؤمنين (عليه السلام) فاستخلفه استخلافاً ظاهراً، ونص عليه بالإمامة من بعده نصاً جلياً وذلک فيما تظاهرت به الرواة: أن أهل النفاق لما علموا باستخلاف رسول الله (صلّي الله عليه وآله) علياً علي المدينة لذلک، وعظم عليهم مقامه فيها بعد خروجه، وعلموا أنها تتحرس به وتتحصن، ولا يکون فيها للعدو مطمع، فساءهم ذلک وکانوا يؤثرون خروجه معه لما يرجونه من وقوع الفساد والاختلاط عند نأي رسول الله عن المدينة وخلوها من مرهوب مخوف يحرسها وغبطوه علي الرفاهية والدعة بمقامه في أهله، وتکلف من خرج منهم المشاق بالسفر والخطر، فأرجفوا (خاضوا في الأخبار السيئة قصد أن يهيج الناس) به، وقالوا: لم يستخلفه رسول الله (صلّي الله عليه وآله) إکراماً له وإجلالاً ومودة، وإنما خلفه استثقالاً له، فبهتوا بهذا الإرجاف، کبهت قريش للنبي (صلّي الله عليه وآله) بالجنة (الجنون) تارة وبالشعر أخري وبالسحر مرة وبالکهانة أخري، وهم يعلمون ضد ذلک ونقيضه، کما علم المنافقون ضد ما أرجفوا به علي أميرالمؤمنين (عليه السلام) وخلافه، وأن النبي کان أخص الناس بأميرالمؤمنين (عليه السلام) وکان هو أحب الناس إليه وأسعدهم عنده وأفضلهم لديه، فلما بلغ أميرالمؤمنين (عليه السلام) إرجاف المنافقين به أراد تکذيبهم وإظهار فضيحتهم، فلحق بالنبي (صلّي الله عليه وآله) فقال: يا رسول الله إن المنافقين يزعمون أنک إنما خلفتني استثقالاً ومقتاً.

فقال له النبي (صلّي الله عليه وآله): ارجع يا أخي إلي مکانک، فإن المدينة لا تصلح إلا بي أو بک، فأنت خليفتي في أهل بيتي ودار هجرتي وقومي، أما ترضي أن تکون مني بمنزلة هارون من موسي إلا أنه لا نبي بعدي.

فتضمن هذا القول من رسول الله (صلّي الله عليه وآله) نصه عليه بالإمامة وإبانته من الکافة بالخلافة، ودل به علي فضل لم يشرکه فيه أحد سواه، وأوجب له به جميع منازل هارون من موسي إلا ما خصه العرف من الأخوة (في النسب) واستثناه هو من النبوة.

ألا تري أنه (صلّي الله عليه وآله) جعل له کافة منازل هارون من موسي إلا المستثني منه لفظاً وعقلاً.

وقد علم کل من تأمل معاني القرآن وتصفح الروايات والأخبار: أن هارون کان أخا موسي (عليه السلام) لأبيه وأمه، وشريکه في أمره، ووزيره علي نبوته وتبليغه رسالات ربه، وأن الله شد به أزره، وأنه کان خليفته علي قومه، وکان له من الإمامة عليهم وفرض الطاعة کإمامته وفرض طاعته.

وأنه کان أحب قومه إليه، وأفضلهم لديه، قال الله عزوجل حاکياً عن موسي (عليه السلام): (رب اشرح لي صدري، ويسر لي أمري، واحلل عقدة من لساني، يفقهوا قولي، واجعل لي وزيراً من أهلي، هارون أخي، أشدد به أزري، وأشرکه في أمري)[1] فأجاب الله تعالي مسألته، وأعطاه أمنيته، حيث يقول: (قد أوتيت سؤلک يا موسي).[2] .

وقال تعالي حاکياً عن موسي: (وقال موسي لأخيه هارون اخلفني في قومي واصلح ولا تتبع سبيل المفسدين).[3] .

فلما جعل رسول الله (صلّي الله عليه وآله) علياً (عليه السلام) منه بمنزلة هارون من موسي أوجب له بذلک جميع ما عددناه إلا ما خصه العرف من الأخوة في النسب واستثناه من النبوة لفظاً، وهذه فضيلة لم يشرکه فيها أحد من الخلق أميرالمؤمنين ولا ساواه في معناها، ولا قاربه فيها علي حال...

الخ.

لا زال ولا يزال بعض المتجاهلين من المسلمين يزعمون أن هذا الحديث غير ثابت في الصحاح ولا معترف به عند الحفاظ وأئمة الحديث.

أو يدعون اختصاص الحديث بيوم تبوک، فيسلبون منه الدلالة علي الخلافة والإمامة العامة المطلقة، ونحن نجيب عن الموضوع الأول: بأن هذا الحديث من الأحاديث الصحيحة المتواترة عند المسلمين لا يشک فيه ذو دراية بالأحاديث، وإلمام بالروايات، ومعرفة وبصيرة بالأخبار، ولا مجال للمناقشة عند ذي الألباب حول صحة هذا الحديث.

وأما الرواة لهذا الحديث فکثيرون جداً يصعب استيعاب أسمائهم، ونذکر جملة من مشاهير علماء السنة وحفاظهم ورواتهم:

1 الذهبي في تلخيص المستدرک.

2 ابن حجر الهيثمي في الصواعق.

3 صاحب الجمع بين الصحاح الستة.

4 صاحب الجمع بين الصحيحين.

5 البخاري في صحيحه.

6 مسلم في صحيحه.

7 ابن ماجه في سننه.

8 أحمد بن حنبل في مسنده.

9 البزاز في مسنده.

10 الترمذي في صحيحه.

11 ابن عبدالبر في الاستيعاب.

وغيرهم ممن کتب أو ألف کتاباً في فضائل علي (عليه السلام).

وأما محدثو الشيعة وحفاظهم فلا يشکون في صحة هذا الحديث وشهرته، وهذه کتبهم مشحونة بذکر هذا الحديث بجميع الطرق والأسانيد والمصادر والمدارک.

أما الجواب عن الموضوع الثاني فنقول: إن الرسول الأعظم (صلّي الله عليه وآله) قد کرر کلمته الذهبية (حديث المنزلة) في مواقف عديدة ومواطن کثيرة، ذکرها أعلام المسلمين متفقين علي صحتها، وثبوتها واستقامة دلالتها تلک الموارد کما في بشارة المصطفي عن ابن عباس، قال: رأيت حسان بن ثابت واقفاً بمني، والنبي (صلّي الله عليه وآله) وأصحابه مجتمعين، فقال النبي (صلّي الله عليه وآله): هذا علي بن أبي طالب سيد العرب والوصي الأکبر، منزلته مني منزلة هارون من موسي إلا أنه لا نبي بعدي لا تقبل التوبة من تائب إلا بحبه.

يا حسان قل فيه شيئاً، فأنشأ حسان بن ثابت يقول:


لا تقبل التوبة من تائب
إلا بحب ابن أبي طالب


أخي رسول الله بل صهره
والصهر لا يعدل بالصاحب


ومن يکن مثل علي وقد
ردت له الشمس من المغرب


رُدت عليه الشمس في ضوئها
بيضاً کأن الشمس لم تغرب


ومن تلک الموارد: حديث رسول الله (صلّي الله عليه وآله) مع أم سليم (أم أنس بن مالک) وکان النبي يزورها ويحدثها في بيتها: يا أم سليم إن علياً لحمه من لحمي ودمه من دمي، وهو مني بمنزلة هارون من موسي...

الخ.

روي ذلک في کنز العمال ومسند أحمد.

ومنها: يوم کان أبوبکر وعمر وأبوعبيدة بن الجراح عند النبي (صلّي الله عليه وآله) وهو متکئ علي علي (عليه السلام) فضرب بيده علي منکبيه ثم قال: يا علي أنت أول المؤمنين إيماناً، وأولهم إسلاماً، وأنت مني بمنزلة هارون من موسي...

الخ.

ومنها: يوم الدار وقد سبق في أول ترجمة حياة أميرالمؤمنين (عليه السلام) ومنها: يوم المؤاخاة الثانية وقد مضي ذکره، وکذلک يوم سد الأبواب وقد مر کل ذلک فيما سبق.

ولولا خوف الملل لذکرنا المصادر لهذه الأحاديث ويمکن لکم مراجعة کتاب (المراجعات) و(الغدير) وغيرهما من الکتب التي کتبت حول هذا الموضوع.







  1. سورة طه، الآيات: 32-25.
  2. سورة طه، الآية: 36.
  3. سورة الأعراف، الآية: 142.