علي والعدل











علي والعدل



العدل: ما أحلي هذا الاسم عند النفوس المظلومة، وما أحبه إلي المضطهدين وما أبغضه عند الظالمين الذين يزاحم العدل منافعهم، وأرباحهم.

هذه الکلمة التي تتلهف إليها النفوس وعليها أساس الملک وبها نظام الاجتماع واعتداله، وإنني أعتقد أن أصعب قانون يمکن تطبيقه وتنفيذه في المجتمع هو قانون العدالة!! لاصطدام هذا القانون بنزعات الأقوياء الذين لو کانت العدالة موجودة لما کانوا أقوياء، وهؤلاء في طليعة المکافحين لهذه الفضيلة، والتاريخ والحس والوجدان شواهد علي هذا، ولا أراني بحاجة إلي دليل.

ومن لوازم تطبيق العدالة وتنفيذها قوة الإيمان بالله تعالي والتقوي أولاً، وحزم وعزم فوق کل عاطفة واتجاه ومصانعة ثانياً وعدم الخوف من المشاکل المتوقعة، المحتمل وقوعها ثالثاً.

وقد توفرت هذه المؤهلات کلها في نفسية علي (عليه السلام) فهو الإيمان کله والتقوي المتجسدة، وهو أقوي رجل يستطيع السيطرة علي أعصابه وعواطفه وهو الذي لا تأخذه في الله لومة لائم، وهو الحق المحض الذي لا يشوبه شي ء، ونستطيع أن نقول: إن تطبع نفسية الإمام (عليه السلام) علي العدالة والتزامه بها بالغاً ما بلغ هو السبب الوحيد الذي فرق عنه ذوي الأطماع والأغراض، وأخاف ذوي المناصب والکنوز التي کانت عصارة دماء المسلمين، وهدد الفسقة الفجرة الذين استوجبوا إقامة الحدود الإلهية وقطع آمال المستغلين وآماني حواشي السلاطين، وغير ذلک من الأمور التي تدرک ولا توصف، فاجتمعت هذه العوامل، وأججت نيران الحروب الداخلية ضد الإمام (عليه السلام).

إذ لولا عدالة علي (عليه السلام) لما ذهب أخوه عقيل إلي معاوية ولولا عدل أبي الحسن (عليه السلام) لما انضم طلحة والزبير إلي عائشة للمساهمة في تکوين حرب الجمل.

لو کان علي (عليه السلام) ظالماً لأمهل معاوية يتصرف في مقدرات المسلمين وما کانت حرب صفين.

وهکذا وهلم جراً، فإن کانت العدالة نغصت علي علي (عليه السلام) عيشته وسلبته الراحة والاطمئنان، وجرت عليه النوائب فإن التاريخ الصحيح عرف لعلي (عليه السلام) هذه الفضيلة وشکره عليها، وإن کان بعض الشواذ يعتبرون العدالة منافية للسياسة، ويرون الأرجح تقديم السياسة علي الدين عند التعارض، فإن علياً (عليه السلام) يضرب بالسياسة التي تزاحم دين علي (عليه السلام) عرض الجدار ويتبرأ منها.

وهو التلميذ الأول للرسول (صلّي الله عليه وآله) والمعلم الثاني للأمم عبر التاريخ، ولو کان علي (عليه السلام) يمشي وراء السياسة لعرفه التاريخ رجلاً سياسياً فحسب، وما کانت الملوک والعظماء يطأطئون هاماتهم أمام عظمته وينظرون إليه بکل تقدير وتقديس.

نذکر نماذج من تلک العدالة، ولا يسعنا الإسهاب في الکلام لضيق المجال، ولعلنا نستطيع التحدث عن هذه الفضيلة بصورة أوسع في مناسبة أخري إن شاء الله.

دخل عمرو بن العاص علي أميرالمؤمنين (عليه السلام) ليلة وهو في بيت المال وکان الإمام ينظر في أموال المسلمين وحسابهم ودواوين العطاء وعنده سراج يضي ء بنوره الضئيل، وقد اشتري زيت السراج من بيت المال، لأن السراج عائد لمصالح بيت مال المسلمين.

فلما دخل ابن العاص وأراد أن يتحدث مع الإمام في بعض الشؤون أطفأ الإمام السراج وجلس في ضوء القمر ولم يستحل أن يجلس في الضوء بغير استحقاق!! وبني (عليه السلام) موضعاً تحبس فيه الإبل والغنم الضالة يقال له: (المربد) فکان يعلفها علفاً لا يسمنها ولا يهزلها من بيت المال.

فلمن أقام عليها بينة أخذها، وإلا أقرها علي حالها.

وتظهر الحکمة في تحديد کمية علف الحيوانات، وهي رعاية الحيوان والمحافظة عليه ورعاية بيت المال والاهتمام به.

في الکافي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: بعث أميرالمؤمنين (عليه السلام) مصدقاً من الکوفة (المصدق: عامل الزکاة التي يستوفيها) إلي باديتها وقال: يا عبدالله: انطلق، وعليک بتقوي الله وحده لا شريک له ولا تؤثرن دنياک علي آخرتک، وکن حافظاً لما ائتمنک عليه، مراعياً لحق الله فيه حتي تأتي نادي بني فلان، فإذا قدمت فانزل بمائهم من غير أن تخالط أبياتهم ثم امض إليهم بسکينة ووقار حتي تقدم بينهم وتسلم عليهم ثم قل لهم: يا عباد الله أرسلني إليکم ولي الله لآخذ منکم حق الله في أموالکم فهل لله في أموالکم من حق فتؤدوه إلي وليه؟ فإن قال قائل لک: لا.

فلا تراجعه، وإن أنعم لک منهم منعم فانطلق معه من غير أن تخيفه أو تعده إلا خيراً، فإذا أتيت ماله فلا تدخله إلا بإذنه، فإن أکثره له، فقل: يا عبدالله أتأذن لي في دخول مالک؟ فإن أذن لک فلا تدخله دخول متسلط عليه فيه، ولا عنف به، فاصدع المال صدعين ثم خيّره أي الصدعين شاء، فأيهما اختار فلا تعرض له، ثم اصدع الباقي صدعين ثم خيره فأيهما اختار فلا تعرض له، ولا تزال کذلک حتي يبقي ما فيه وفاء لحق الله تبارک وتعالي في ماله، فإذا قبض يقرأ ذلک فاقبض حق الله منه وإن استقالک فأقله، ثم اخلطهما واصنع مثل الذي صنعت أولاً، حتي تأخذ حق الله في ماله، فإذا قبضته فلا توکل به إلا ناصحاً أميناً حفيظاً غير معنف بشي ء منها، ثم احدر کلما اجتمع عندک من کل ناد إلينا فصيره حيث أمر الله عزوجل، فإذا انحدر فيها رسولک فأوعز إليه أن لا يحول بين ناقة وفصيلها ولا يفرق بينهما، ولا يمصرن لبنها فيضر ذلک بفصيلها ولا يجهد بها رکوباً، وليعدل بينهن في ذلک وليوردهن کل ماء يمر به، ولا يعدل بهن عن ليت الأرض إلي جواد الطريق في الساعة التي فيها تريح وتغبق، وليرفق بهن جهده حتي يأتينا بإذن الله سحاحاً سماناً غير متعبات ولا مجهدات، فنقسمهن بإذن الله علي کتاب الله وسنة نبيه (صلّي الله عليه وآله) علي أولياء الله فإن ذلک أعظم لأجرک وأقرب لرشدک، ينظر الله إليها وإليک وإلي جهدک ونصيحتک لمن بعثک وبعثت في حاجته، فإن رسول الله (صلّي الله عليه وآله) قال: ما ينظر الله إلي ولي له يجهد نفسه بالطاعة والنصيحة له ولإمامه إلا کان معنا في الرفيق الأعلي.

قال: ثن بکي أبوعبدالله (عليه السلام) ثم قال: لا والله ما بقيت لله حرمة إلا انتهکت، ولا عمل بکتاب الله وسنة نبيه في هذا العالم، ولا أقيم في هذا الخلق حد منذ قبض الله أميرالمؤمنين (عليه السلام) ولا عمل بشي ء من الحق إلي يوم الناس هذا، ثم قال: أما والله لا تذهب الأيام والليالي حتي يحيي الله الموتي ويميت الأحياء ويرد الله الحق إلي أهله ويقيم دينه الذي ارتضاه لنفسه ونبيه (صلّي الله عليه وآله)، فابشروا ثم ابشروا ثم ابشروا فوالله ما الحق إلا في أيديکم.

في البحار: روي أن سودة بنت عمارة الهمدانية دخلت علي معاوية بعد موت علي (عليه السلام)، فجعل يؤنبها علي تحريضها عليه أيام صفين، وآل أمره إلي أن قال: ما حاجتک؟ قالت: إن الله مسائلک عن أمرنا وما افترض عليک من حقنا، ولا يزال يتقدم علينا من قبلک من يسمو بمکانک، ويبطش بقوة سلطاتک فيحصدنا حصد السنبل ويدوسنا دوس الحرمل، يسومنا الخسف ويذيقنا الحتف، هذا بسر بن أرطأة قدم علينا فقتل رجالنا، وأخذ أموالنا، ولولا الطاعة لکان فينا عزة ومنعة، فإن عزلته عنا شکرناک وإلا کفرناک، فقال معاوية: إياي تهددين بقومک يا سودة؟ لقد هممت أن أحملک علي قتب أشوس فأردک إليه فينفذ فيک حکمه، فأطرقت سودة ساعة ثم قالت:


صلي الإله علي روح تضمنها
قبر فأصبح فيه العدل مدفونا


قد حالف الحق لا يبغي به بدلا
فصار بالحق والإيمان مقرونا


فقال معاوية: من هذا يا سودة؟ قالت: هو والله أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) والله لقد جئته في رجل کان قد ولاه صدقاتنا، فجار علينا، فصادفته قائماً يصلي، فلما رآني انفتل من صلاته ثم أقبل علي برحمة ورفق ورأفة وتعطف، وقال: ألک حاجة؟ قلت: نعم فأخبرته الخبر، فبکي ثم قال: اللهم أنت الشاهد علي وعليهم، وأني لم آمرهم بظلم خلقک، ثم أخرج قطعة جلد فکتب فيها: (بسم الله الرحمن الرحيم.

قد جاءتکم بينة من ربکم فأوفوا الکيل والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ذلک خير لکم إن کنتم مؤمنين، فإذا قرأت کتابي هذا فاحتفظ بما في يدک من عملنا حتي يقدم عليک من يقبضه منک، والسلام).

ثم دفع الرقعة إلي، فو الله ما ختمها بطين ولا خزنها، فجئت بالرقعة إلي صاحبه فانصرف عنا معزولاً، فقال معاوية: اکتبوا لها کما تريد، واصرفوها إلي بلدها غير شاکية.