علي والحلم











علي والحلم



(في البحار) مرت امرأة جميلة فرمقها القوم بأبصارهم فقال أميرالمؤمنين (عليه السلام): إن أبصار هذه الفحول طوامح، وإن ذلک سبب هناتها، فإذا نظر أحدکم إلي امرأة تعجبه فليلمس أو فليمس أهله، فإنما هي امرأة کامرأة، فقال رجل من الخوارج: قاتله الله کافراً ما أفقهه!! فوثب القوم ليقتلوه فقال (عليه السلام): رويداً إنما هو سبٌّ بسبٍّ أو عفو عن ذنب.

قال قنبر: دخلت مع أميرالمؤمنين علي عثمان فأحب الخلوة فأومي إليه (إلي) بالتنحي، فتنحيت غير بعيد، فجعل عثمان يعاتبه وهو مطرق برأسه، وأقبل إليه وقال عثمان: ما لک لا تقول؟ فقال: ليس جوابک إلا ما تکره، وليس لک عندي إلا ما تحب ثم خرج قائلاً:


ولو أنني جاوبته لأمضه
نوافذ قولي واحتضار جوابي


ولکنني أغضي علي مضض الحشا
ولو شئت إقداماً لأنشب نابي


في البحار إن أميرالمؤمنين (عليه السلام) مر بأصحاب التمر فإذا هو بجارية تبکي فقال: يا جارية ما يبکيک؟ فقالت: بعثني مولاي بدرهم فابتعت من هذا تمراً فأتيتهم به فلم يرضوه، فلما أتيته به أبي أن يقبله.

قال (عليه السلام): يا عبدالله: إنها خادم وليس لها أمر، فاردد إليها درهمها وخذ التمر.

فقام إليه الرجل فلکزه فقال الناس: هذا أميرالمؤمنين.

فربا الرجل واصفر وأخذ التمر ورد إليها درهمها ثم قال: يا أميرالمؤمنين ارض عني.

فقال: ما أرضاني عنک إن أصلحت أمرک، وفي رواية: (إذا وفيت الناس حقوقهم).

ودعي (عليه السلام) غلاماً له مراراً فلم يجبه، فخرج فوجده علي باب البيت فقال: ما حملک علي ترک إجابتي؟ قال: کسلت عن إجابتک وأمنت عقوبتک، فقال: الحمد لله الذي جعلني ممن يأمنه خلقه، امض، فأنت حر لوجه الله.

وکان (عليه السلام) في صلاة الصبح فقرأ ابن الکواء: (ولقد أوحي إليک وإلي الذين من قبلک لئن أشرکت ليحبطن عملک ولتکونن من الخاسرين)[1] فأنصت علي (عليه السلام) تعظيماً للقرآن حتي فرغ من الآية ثم عاد في قراءته ثم أعاد ابن الکواء الآية فأنصت أيضاً.

ثم قرأ فأعاد ابن الکواء فأنصت علي، ثم قرأ: (فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنک الذين لا يوقنون)[2] ثم أتم السورة ورکع.

(في البحار) عن الأصبغ بن نباتة قال: أمرنا أميرالمؤمنين (عليه السلام) بالمسير إلي المدائن من الکوفة فسرنا يوم الأحد وتخلف عمرو بن حريث في سبعة نفر فخرجوا إلي مکان بالحيرة يسمي (الخورنق) فقالوا: نتنزه فإذا کان يوم الأربعاء خرجنا فلحقنا علياً قبل أن يجتمع (أن يصلي الجمعة) فبينما هم يتغدون إذ خرج عليهم ضب، فصادوه، فأخذه عمرو بن حريث فنصب کفه وقال: بايعوا، هذا أميرالمؤمنين!! فبايعه السبعة وعمرو ثامنهم، فارتحلوا ليلة الأربعاء فقدموا المدائن يوم الجمعة وأميرالمؤمنين يخطب، ولم يفارق بعضهم بعضاً، فکانوا جميعاً حتي نزلوا علي باب المسجد فلما دخلوا نظر إليهم أميرالمؤمنين (عليه السلام) فقال: أيها الناس إن رسول الله (صلّي الله عليه وآله) أسر إلي ألف حديث لکل حديث ألف باب لکل باب ألف مفتاح، وإني سمعت الله جل جلاله يقول: (يوم ندعو کل أناس بإمامهم)[3] وإني أقسم لکم بالله ليبعثن يوم القيامة ثمانية نفر يدعون بإمامهم وهو ضب، ولو شئت أن أسميهم لفعلت! قال: فلقد رأيت عمرو بن حريث قد سقط کما سقط السعف حياء ولوماً وجبناً.

قال ابن أبي الحديد في شرحه: (وأما الحلم والصفح: فکان أحلم الناس عن مذنب، وأصفحهم عن مسي ء وقد ظهرت صحة ما قلنا يوم الجمل حيث ظفر بمروان بن الحکم، وکان أعدي الناس له وأشدهم بغضاً، فصفح عنه.

وکان عبدالله بن الزبير يشتمه علي رؤوس الأشهاد...

وکان علي يقول: ما زال الزبير رجلاً منا أهل البيت حتي شب عبدالله.

فظفر به يوم الجمل فأخذه أسيراً فصفح عنه، وقال: اذهب فلا أرينک.

لم يزده علي ذلک.

وظفر بسعيد بن العاصي بعد وقعة الجمل بمکة، وکان عدواً فأعرض عنه ولم يقل له شيئاً.

وقد علمتم ما کان من عائشة في أمره، فلما ظفر بها أکرمها وبعث معها إلي المدينة عشرين امرأة من نساء عبدالقيس، عممهن بالعمائم، وقلدهن بالسيوف، فلما کانت ببعض الطريق ذکرته بما لا يجوز أن يذکر به، وتأففت، وقالت: هتک ستري ورجاله الذين وکلهم بي!! فلما وصلت إلي المدينة ألقت النساء عمائمهن وقلن لها: إنما نحن نسوة.

وحاربه أهل البصرة، وضربوا وجهه، ووجوه أولاده بالسيوف وسبوه ولعنوه، فلما ظفر بهم رفع السيف عنهم، ونادي مناديه في أقطار العسکر: ألا: لا يتبع مول، ولا يجهز علي جريح، ولا يقتل مستأسر ومن ألقي سلاحه فهو آمن ومن تحيز إلي عسکر الإمام فهو آمن، ولم يأخذ أثقالهم، ولا سبي ذراريهم ولا غنم شيئاً من أموالهم، ولو شاء أن يفعل کل ذلک لفعل، ولکنه أبي إلا الصفح والعفو.







  1. سورة الزمر، الآية: 65.
  2. سورة الروم، الآية: 60.
  3. سورة الإسراء، الآية: 71.