علي والزهد











علي والزهد



قال عمر بن عبدالعزيز: ما علمنا أحداً کان في هذه الأمة أزهد من علي بن أبي طالب بعد النبي (صلّي الله عليه وآله).

قال (عليه السلام): لقد رقعت مدرعتي هذه حتي استحييت من راقعها.

وفي البحار عن السيد ابن طاووس عن أميرالمؤمنين (عليه السلام) قال: تزوجت فاطمة (عليهاالسلام) وما کان لي فراش، وصدقتي اليوم لو قسمت علي بني هاشم لوسعتهم.

وقال فيه أنه (عليه السلام): وقف أمواله وکانت غلتها أربعين ألف دينار وباع سيفه وقال: من يشتري سيفي؟ ولو کان عندي عشاء ما بعته! وقال مرة: من يشتري سيفي الفلاني، ولو کان عندي ثمن إزار ما بعته! قال: قال: وکان يفعل هذا وغلته أربعون ألف دينار من صدقته.

وقال الإمام الباقر (عليه السلام) في زهد علي (عليه السلام) أنه ولي (أيام خلافته) خمس سنين، وما وضع آجرة ولا لبنة علي لبنة ولا أقطع قطيعاً ولا أورث بيضاء ولا حمراء.

عن الزمخشري: إن علياً (عليه السلام) اشتري قميصاً، فقطع ما فضل عن أصابعه ثم قال للرجل: حصه (أي خط کفافه).

عن الأصبغ بن نباته قال علي (عليه السلام) لأهل البصرة: دخلت بلادکم بأشمالي هذه ورحلتي وراحلتي ها هي، فإن أنا خرجت من بلادکم بغير ما دخلت فإنني من الخائنين.

وفي رواية: يا أهل البصرة ما تنقمون مني إن هذا لمن غزل أهلي؟ وأشار إلي قميصه.

وترصد غداءه عمرو بن حريث، فأتت فضة بجراب مختوم، فأخرج منه خبزاً متغيراً خشناً، فقال عمرو: يا فضة لو نخلت هذا الدقيق وطيّبْتيه قالت: کنت أفعل فنهاني، وکنت أضع في جرابه طعاماً طيباً فختم جرابه، ثم إن أميرالمؤمنين (عليه السلام) فته في قصعة وصب عليه الماء ثم ذر عليه الملح وحسر عن ذراعه، فلما فرغ قال (عليه السلام): يا عمرو لقد حانت هذه ومد يده إلي محاسنه وخسرت هذه أن أدخلها النار من أجل الطعام، وهذا يجزيني.

ورآه عدي بن حاتم وبين يديه شنة فيها قراح ماء وکسرات من خبز شعير وملح، فقال: إني لا أري لک يا أميرالمؤمنين لتظل نهارک طاوياً مجاهداً وبالليل ساهراً مکابداً، ثم يکون هذا فطورک، فقال (عليه السلام):


علل النفس بالقنوع وإلا
طلبت منک فوق ما يکفيها


ونظر علي (عليه السلام) إلي فقير انخرق کُمّ ثوبه فخرق علي (عليه السلام) کُمّ قميصه وألقاه إليه.

وقال الإمام الباقر (عليه السلام): إن علياً أتي البزازين فقال لرجل: بعني ثوبين.

فقال الرجل: يا أميرالمؤمنين عندي حاجتک فلما عرفه مضي عنه، فوقف علي غلام، فأخذ ثوبين أحدهما بثلاثة دراهم والآخر بدرهمين فقال: يا قنبر خذ الذي بثلاثة فقال: أنت أولي به، تصعد المنبر، وتخطب الناس فقال: وأنت شاب ولک شره الشباب، وأنا أستحي من ربي أن أتفضل عليک! سمعت رسول الله (صلّي الله عليه وآله) يقول: ألبسوهم مما تلبسون وأطعموهم مما تأکلون.

فلما لبس علي القميص مدّ کُمّ القميص فأمر بقطعه واتخاذه قلانس للفقراء، فقال الغلام: هلم أکفه (أي أخيطه)، قال: دعه کما هو فإن الأمر أسرع من ذلک، فجاء (أبوالغلام) أي (بائع الثوب) وقال: إن ابني لم يعرفک وهذان درهمان ربحهما، فقال: ما کنت لأفعل، قد ماکست وماکسني، واتفقنا علي رضي.

روي ابن عبدالبر المالکي في الاستيعاب بسنده وغيره أن معاوية قال لضرار بن ضمرة: صف لي علياً، قال: اعفني.

قال: لتصفنه.

قال: أما: إذا کان لا بد من وصفه، فإنه: کان بعيد المدي شديد القوي، يقول فصلاً، ويحکم عدلاً، يتفجر العلم من جوانبه، وتنطق الحکمة من نواحيه يستوحش من الدنيا وزهرتها ويأنس (ويستأنس) بالليل ووحشته وکان غزير الدمعة (العبرة) طويل الفکرة، يعجبه من اللباس ما خشن ومن الطعام ما جشب، (من اللباس ما قصر ومن الطعام ما خشن) وکان فينا کأحدنا يجيبنا إذا سألناه، ويأتينا إذا دعوناه، (وينبئنا إذا استنبأناه) ونحن والله مع تقريبه إيانا وقربه منا لا نکاد نکلمه هيبة له، يعظم أهل الدين ويقرب المساکين، لا يطمع القوي في باطله ولا ييأس الضعيف من عدله، وأشهد لقد رأيته في بعض مواقفه وقد أرخي الليل سدوله وغارت نجومه، قابضاً علي لحيته، يتململ تململ السليم، ويبکي بکاء الحزين، وهو يقول: يا دنيا غُري غيري، أبي نعرضت؟ أم إلي تشوقت؟ هيهات! قد بنتک (باينتک) ثلاثة، لا رجعة فيها، فعمرک قصير وخطرک کبير (حقير) وعيشک حقير، آه! من قلة الزاد وبعد السفر ووحشة الطريق.

فبکي معاوية وقال: رحم الله أباالحسن کان والله کذلک، فکيف حزنک عليه يا ضرار؟ قال: حزن من ذبح ولدها بحجرها فهي لا ترقأ عبرتها ولا يسکن حزنها.

وفي المناقب: ثم قام وخرج باکياً فقال معاوية: أما إنکم لو فقدتموني لما کان فيکم من يثني علي هذا الثناء.

فقال بعض من حضر: الصاحب علي قدر صاحبه.

قال ابن أبي الحديد: (وأما الزاهد في الدنيا: فهو سيد الزهاد وبدل الأبدال، وإليه تشد الرحال، وعنده تنفض الأحلاس، ما شبع من طعام قط، وکان أخشن الناس مأکلاً وملبساً).

قال عبدالله بن أبي رافع: دخلت إليه يوم عيد، فقدم جراباً مختوماً، فوجدنا فيه خبز شعير يابساً مرضوضاً، فقدم فأکل فقلت: يا أميرالمؤمنين فکيف تختمه؟ قال: خفت هذين الولدين (الحسنين) أن يلتاه بسمن أو زيت!! وکان ثوبه مرقوعاً بجلد تارة وليف أخري، ونعلاه من ليف، وکان يلبس الکرباس الغليظ، فإذا وجد کمه طويلاً قطعه بشفرة ولم يخطه، فکان لا يزال متساقطاً علي ذراعيه حتي يبقي سدي لا لحمة له!! وکان يأتدم إذا ائتدم (أي يجعل إداماً) بخل أو بملح، فإن ترقي عن ذلک فببعض نبات الأرض فإن ارتفع عن ذلک فبقليل من ألبان الإبل، ولا يأکل اللحم إلا قليلاً ويقول: لا تجعلوا بطونکم مقابر الحيوانات.