علي والفضائل النفسية











علي والفضائل النفسية



بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله علي نعمائه وصلي الله علي سيدنا محمد سيد أنبيائه وآله سادات أوليائه.

قال الله تعالي في القرآن العظيم: (قل کلٌّ يعمل علي شاکلته).[1] .

قال علماء النفس والفلاسفة: إن أعمال الإنسان وأفعاله التي تظهر إلي الوجود إنما هي آثار نفسيته التي تطبع عليها، وانطباعاته التي خامرت روحه عن الوراثة والتربية، فالفضائل بکافة أنواعها وأقسامها، والرذائل بجميع أشکالها وأجناسها ما هي إلا ولائد التربية أو رواسب الوراثة.

وقد ذکرنا في بعض الليالي الماضية بعض جوانب التربية ونتائجها، ولو أردنا الخوض في هذا البحث فاتنا الکلام الأصلي المقصود بيانه في هذه الليلة.

حديثنا الليلة حول الفضائل النفسية التي امتاز بها الإمام (عليه السلام) وإنما وصفنا الفضائل بالنفسية لأن هناک فضائل لا ترتبط بالنفس کالنسب الشريف والجمال والقوة فإنها أمور لا اختيارية، والفضائل النفسية تظهر إلي الوجود بالطوع والاختيار کالجود والعفو والزهد والعبادة وما شاکل ذلک فإنها منبعثة من نفس طاهرة شريفة فاضلة وإلي هذا أشار القرآن الکريم بقوله تعالي: (قل کلٌّ يعمل علي شاکلته)[2] أي قل يا محمد کل واحد من المؤمن والکافر يعمل علي طبيعته وخليقته التي تخلق بها أو علي طريقته وسنته التي اعتادها، وقال الشاعر:


ملکنا فکان العفو منا سجية
فلما ملکتم سال بالدم أبطح


فحسبکم هذا التفاوت بيننا
فکل إناء بالذي فيه ينضح


وقد مر عليکم الشي ء الکثير القليل مما يتعلق بهذا الإمام العظيم من عوامل التشريف والتأثير في نفسيته الطاهرة (عليه السلام) من حيث الميلاد والمواهب والمزايا والخصائص والتربية، فأنتجت تلک العوامل الإلهية والنبوية أحسن إنتاج، وجعلت نفس علي مرکزاً لانطلاق کل فضيلة وخير فلا عجب إذا کان الإمام (عليه السلام) صوتاً للعدالة الإسلامية ورمزاً للفتوة والمروة ومثالاً للعطف والحنان الأبوي.

وأصحاب النفوس الشريفة تختلف هواياتهم عن غيرهم، فهم دائماً وأبداً يلبون نداء ضميرهم الإنساني، ويستلذون بإسعاف الفقير والمسکين.

ويبتهجون بإشباع البطون الجائعة وإکساء الأجساد العارية وإنقاذ البؤساء من براثن الفاقة، وحيث أنهم أشربوا معرفة الله تعالي وخالط حب الله لحومهم ودماءهم فإن أسعد أوقاتهم وألذها عندهم هي الساعات التي يشتغلون فيها بمناجاة ربهم والخضوع والخشوع أمام عظمة الله تعالي، فلا يملون من العبادة کما لا يمل الحبيب من مکالمة حبيبه.

وجملة أخري لا بأس بالإشارة إليها وهي: أن الإنسان حينما يحس بالنقص في نفسه من حيث العلم أو الفن أو الفضيلة أو القوة أو الجمال أو ما شابه ذلک فإنه يحاول إخفاء ذلک النقص وجبران ذلک العيب عن طريق التزيين والتجميل في الملبس والمسکن وسائر لوازم الحياة ومظاهر الترف، کل ذلک إرضاء لوجدانه وضميره الذي يؤنبه بالنقص، أما أولياء الله فإنهم يحسون بالکمال في أنفسهم، فهم في غني عن ستر النقص عن طريق التجميل والتفنن في الملبس والمأکل والمسکن وما جري مجري ذلک لأنه لا نقص فيهم.

وعلي هذا الأساس کانوا يختارون لأنفسهم البساطة في المعيشة، ويتجلي الزهد في جميع مظاهر حياتهم بدون أي تکلف وتعسف، فلا يشتاقون إلي اختلاف الأطعمة ولا تميل نفوسهم إلي زخارف الحياة وزبرجدها، فإن الإحساس بالکمال يحول بينهم وبين الشعور بالحاجة إلي ما تتهافت عليه نفوس الآخرين من حطام الدنيا.

فإذا قرأنا أو سمعنا عن نبي أو إمام شيئاً من الزهد وعدم الإقبال علي مباهج الحياة فلعله معلول هذه العلة التي تقدمت.

وسنذکر ما تيسر من الأخبار والأحاديث التي اشتهرت بين أعلام الحديث وحفاظه حول الفضائل النفسية التي أنعم الله بها علي أميرالمؤمنين عليه الصلاة والسلام.

قال ابن أبي الحديد في مقدمته علي شرح نهج البلاغة:

وما أقول في رجل أقر له أعداؤه وخصومه بالفضل؟ ولم يمکنهم جحد مناقبه ولا کتمان فضائله؟ فقد علمت أنه استولي بني أمية علي سلطان الإسلام في شرق الأرض وغربها، واجتهدوا بکل حيلة في إطفاء نوره، والتحريف عليه، ووضع المعايب والمثالب له، ولعنوه علي جميع المنابر وتوعدوا مادحيه، بل حبسوهم وقتلوهم ومنعوا من راوية حديث يتضمن له فضيلة أو يرفع له ذکراً، حتي حضروا (منعوا) أن يسمي أحد باسمه، فما زاده ذلک إلا رفعة وسمواً، وکان کالمسک کلما ستر انتشر عرفه وکلما کتم تضوع نشره، وکالشمس لا تستر بالراح، وکضوء النهار إن حجبت عنه عين واحدة أدرکته عيون کثيرة.

وما أقول في رجل تعزي (تنسب) إليه کل فضيلة؟ وتنتمي إليه کل فرقة، وتتجاذبه کل طائفة، فهو رئيس الفضائل وينبوعها وأبوعذرها وسابق مضمارها، ومجلي حلبتها.

وکل من بزغ فيها بعده فمنه أخذ، وله اقتفي، وعلي مثاله احتذي...

وإن رجعت إلي الخصائص الخلقية والفضائل النفسية والدينية وجدته ابن جلاها، وطلاع ثناياها.







  1. سورة الإسراء، الآية: 84.
  2. سورة الإسراء، الآية: 84.