من خطبة له يذكر فيها عجيب خلقة الطاووس











من خطبة له يذکر فيها عجيب خلقة الطاووس



ابتدعهم خلقاً من حيوان وموات، وساکن وذي حرکات.

فأقام من شواهد البينات علي لطيف صنعته وعظيم قدرته ما انقادت له العقول معترفة به..

ومسلمة له.

ونعقت في أسماعنا دلائله علي وحدانيته وما ذرأ من مختلف طيور الأطيار التي أسکنها أخاديد الأرض وخروق فجاجها، ورواسي أعلامها.

من ذات أجنحة مختلفة، وهيئات متباينة، مصرفة في زمام التسخير ومرفرفة بأجنحتها في مخارق الجو المنفسح، والفضاء المنفرج.

کونها بعد أن لم تکن في عجائب صور ظاهرة، ورکّبها في حقاق مفاصل محتجبة.

ومنع بعضها بعبالة خلقه أن يسمو في السماء خفوفاً، وجعله يدف دفيفاً.

ونسقها علي اختلافها في الأصابيغ بلطيف قدرته ودقيق صنعته.

فمنها مغموس في قالب لون لا يشوبه غير لون ما غمس فيه.

ومنها مغموس في لون صبغ قد طوق بخلاف ما صبغ به ومن أعجبها خلقاً: الطاووس الذي أقامه في أحکم تعديل، ونضد ألوانه في أحسن تنضيد، بجناح أشرج قصبه، وذنب أطال مسحبه، إذا درج إلي الأنثي نشره من طيه، وسما به مطلاً علي رأسه کأنه قلع داري عنجه نوتيه.

يختال بألوانه، ويميس بزيفانه، يفضي کأفضاء الديکة، ويؤر بملاحقةِ أرّ الفحول المغتلمة في الضراب.

أحيلک من ذلک علي معاينة، لا کمن يحيل علي ضعيف إسناده.

ولو کان کزعم من يزعم أنه يلقح بدمعة تسفحها مدامعه فتقف في ضفتي جفونه وأن أنثاه تطعم ذلک، ثم تبيض لا من لقاح فحل سوي الدمع المنبجس لما کان ذلک بأعجب من مطاعمة الغراب، تخال قصبه مداري من فضة وما أنبت عليها من عجيب داراته وشموسه خالص العقبان وفلذ الزبرجد فإن شبهته بما أنبتت الأرض قلت جني جني من زهرة کل ربيع.

وإن ضاهيته بالملابس فهو کموشي الحلل أو کمونق عصب اليمن.

وإن شاکلته بالحلي فهو کفصوص ذات ألوان قد نطقت باللجين المکلل، يمشي مشي المرح المختال، ويتصفح ذنبه وجناحيه فيقهقه ضاحکاً لجمال سرباله وأصابيغ وشاحه، فإذا رمي ببصره إلي قوائمه زقا معولاً بصوت يکاد يبين عن استغاثته، ويشهد بصادق توجعه، لأن قوائمه حمش کقوائم الديکة الخلاسية وقد نجمت من ظنبوب ساقه صيصية خفية وله في موضع العرف قنزعة خضراء موشاة، ومخرج عنقه کالإبريق ومغرزها إلي حيث بطنه کصبغ الوسمة اليمانية، أو کحريرة ملبسة مرآة ذات صقال وکأنه متلفع بمعجر أسحم، إلا أنه يخيل لکثرة مائه وشدة بريقه أن الخضرة الناضرة ممتزجة به.

ومع فتق سمعه خط کمستدق القلم في لون الأقحوان أبيض يقق.

فهو ببياضه في سواد ما هنالک يأتلق.

وقل صبغ إلا وقد أخذ منه بقسط، وعلاه بکثرة صقاله وبريقه وبصيص ديباجه ورونقه، فهو کالأزاهير المبثوثة لم تربها أمطار ربيع ولا شموس قيظ.

وقد يتحسر من ريشه، ويعري من لباسه، فبسقط تتري، وينبت تباعاً...

فينحت من قصبه انحتات أوراق الأغصان، ثم يتلاحق نامياً حتي يعود کهيئته قبل سقوطه.

لا يخالف سالف ألوانه، ولا يقع لون في غير مکانه.

وإذا تصفحت شعرة من شعرات قصبه أرتک حمرة وردية، وتارة خضرة زبرجدية، وأحياناً صفرة عسجدية فکيف تصل إلي صفة هذا عمائق الفطن، أو تبلغه قرائح العقول، أو تستنظم وصفه أقوال الواصفين وأقل أجزائه قد أعجز الأوهام أن تدرکه، والألسنة أن تصفه.

فسبحان الذي بهر العقول عن وصف خلق جلاه للعيون فأدرکته محدوداً مکوناً، ومؤلفاً ملوناً.

وأعجز الألسن عن تلخيص صفته، وقعد بها عن تأدية نعته.

وسبحان من أدمج قوائم الذرة والهمجة إلي ما فوقهما من خلق الحيتان والأفيلة.

ووأي علي نفسه أن لا يضطرب شبح مما أولج فيه الروح إلا وجعل الحمام موعده والفناء غايته.