علي والعلم











علي والعلم



بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله فوق حمد الحامدين وصلي الله علي سيد الأنبياء والمرسلين محمد وآله الطيبين الطاهرين.

قال الله تعالي في کتابه العزيز: (قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون)[1] لا شک أن العلم فضيلة وکمال، ويعترف البشر بشرفه، ويفضل العالم علي الجاهل بالفطرة لا بالتقليد، وعلي هذا الأساس لم يسکت الإسلام عن فضيلة العلم والعالم فقد قال الرسول الأعظم (صلّي الله عليه وآله): طلب العلم فريضة علي کل مسلم.

والقرآن الکريم يشير إلي مزية العلم وقيمته وکرامته في کثير من الآيات، ويثني علي کل من أوتي العلم نصيباً.

ومن أهم الأسس للوظائف الراقية والمناصب السامية (کالحکم والقضاء) هو العلم بالأحکام الشرعية وتعاليم آداب القضاء والفتوي، ودرجات الإيمان بالله ومعرفته تابعة لمراتب العلم.

ونحن لا نستطيع أن نعرف علم الإمام أميرالمؤمنين (عليه السلام) ومدي إيمانه بالله تعالي، لأن الرسول (صلّي الله عليه وآله) قال في حديث صحيح: يا علي لا يعرف الله إلا أنا وأنت، ولا يعرفني إلا الله وأنت، ولا يعرفک إلا الله وأنا.

ولا نستطيع أن نحدد علم الإمام ونحيط به، لأنه من علم رسول الله (صلّي الله عليه وآله) وعلم رسول الله من الله تعالي، وليس عن طريق الاکتساب والتحصيل بل بالإفاضة من عند الله تعالي، ونجد في القرآن الکريم طائفة کبيرة من الآيات البينات التي تصرح بأن علوم الأنبياء من عند الله تعالي عن طريق الإفاضة والإلقاء في القلب، ومعلوم: أن هذا النوع من العلم لا يشوبه شي ء، ولا مجال للباطل إليه، بل هو الحق الصحيح الصدق المطابق للواقع، وإليکم بعض تلک الآيات: (وقل: رب زدني علماً).[2] .

(فوجدا عبداً من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علماً).[3] .

(وزاده بسطة في العلم والجسم).[4] .

(وکلاً آتيناه حکماً وعلماً).[5] .

(ولوطاً آتيناه حکماً وعلماً).[6] .

(ولقد آتينا داود وسليمان علماً).[7] .

(فلما بلغ أشده واستوي آتيناه حکماً وعلماً).[8] .

(إني اصطفيتک علي الناس برسالاتي وبکلامي).[9] .

(إذ قال الله يا عيسي بن مريم أذکر نعمتي عليک وعلي والدتک إذ أيدتک بروح القدس تکلم الناس في المهد وکهلاً، وإذ علمتک الکتاب والحکمة).[10] .

(وعلم آدم الأسماء کلها).[11] .

(يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتک).[12] .

(ففهمناه سليمان).[13] .

(ذلکما مما علمني ربي).[14] .

(وأنزل عليک الکتاب والحکمة وعلمک ما لم تکن تعلم).[15] .

(وقتل داود جالوت وآتاه الله الملک والحکمة وعلمه مما يشاء).[16] .

(وإنه لذو علم لما علمناه).[17] .

(إنا أنزلنا إليک الکتاب بالحق لتحکم بين الناس بما أراک الله).[18] .

إذا عرفتم ذلک فکيف نستطيع أن نعرف مقياس علوم الإمام ومستوي معارفه وثقافته الإلهية؟ وکيف نتمکن من الإحاطة بعلم باب مدينة علم الرسول (صلّي الله عليه وآله) والتلميذ الأول للرسول الأعظم الذي فرغ رسول الله علومه في صدر الإمام، وعلمه في وجبة واحدة ألف باب من العلم يفتح له من کل باب ألف باب؟.

وما يدري هل آسف علي الإمام الذي ضاع قدره في ذلک العهد فلم يفسح له المجال ليبث للمسلمين شيئاً من علومه الإلهية ومعارفه الربانية؟ أم آسف علي المسلمين الذين حرموا من ذلک المنهل العذب وهم بأمس الحاجة إلي العلم؟ فقد مضي خمس وعشرون سنة وعلي (عليه السلام) جليس بيته مسلوب الإمکانيات مکبوتاً عليه لا يستطيع تنوير العقول بعلومه وتزويد النفوس بمواهبه؟ قد نسمع أن بعض الغربيين يبدي أسفه علي مکتبة الإسکندرية التي حکم عليها بالإحراق، وما ضاعت هناک من علوم وکنوز وأسرار وفنون وصارت طعمة للحريق، فلو کانت تلک العلوم في متناول البشر اليوم وقبل اليوم لکانوا في أرقي درجات الحضارة وأوج العظمة يتصرفون في تلک الکنوز ويعيشون في أوسع فضاء يستنشقون شتي العلوم ويتنعمون بتلک الثروة الفکرية التي کانت تساعدهم في التقدم بصورة مدهشة.

وسبب تأخر المسلمين خاصة والبشر عامة في خلال هذه القرون إنما هو من برکات ذلک العمل اللالإنساني!.

إن کان احتراق مکتبة تضم الکتب المتنوعة يوجب التأثر والتألم في نفوس هواة العلم ورواد الفضيلة مع العلم أن الکتب کانت صامتة لا ينتفع بها الأميون والذين لا يحسنون لغة تلک الکتب، فإن تجميد شخصية قد تمثلت وتجمعت فيها دوائر المعارف بکافة أنواعها وجميع أقسامها يؤسف له أکثر وأکثر، أليس من المؤسف أن تعيش أمة من الناس في الظلمات، وعندهم الضياء اللامع والسراج المنير الذي يضي ء لهم الدروب والطرق وهم بأمس الحاجة إليه؟؟ وإذا بجماعة يحاولون إخفاء ذلک الضياء والحيلولة بينه وبين الإضاءة والإشراق، ويعجبهم أن يشاهدوا الناس محرومين عن الاستضاءة بأنوار ذلک القمر، وفعلاً وصلوا إلي ما أرادوا، وحکموا علي المجتمع الإسلامي بالخيبة والحرمان من العلوم الإلهية وکنوز المعارف الربانية، وذلک حينما حکموا علي علي (عليه السلام) بالاعتزال وسلبوه کل نشاط علمي، وضيقوا عليه المجال غاية التضييق خلال خمس وعشرين سنة کما تقدم الکلام.

وبعد أن وجد المجال وعادت إليه الإمکانيات واسترد ما سلب منه، وإذا بالحروب الداخلية والاضطرابات تحط من نشاطه العلمي وتبلبل فکره وتشغل قلبه، وتسلب القرار والاطمئنان من ذلک المجتمع، فينقلب النشاط العلمي إلي طاقة حربية، وتنقلب المعاهد الثقافية إلي معارک دامية ومجازر مشجية وما هنالک من نتائج وخيمة.

بالرغم من هذا کله فقد استطاع الإمام أميرالمؤمنين (عليه السلام) أن يرفع أضوأ مشعل للعلم في سماء الثقافة والمعرفة، فهذا کتاب نهج البلاغة وهو جزء من أربعة وعشرين جزءاً من خطب الإمام وکلماته الحکمية ورسائله القيمة، وهذه الکمية هي التي حفظها التاريخ ولا تسأل عن الخطب والعلوم التي ضاعت ولم تلتقطها الأدمغة ولم تسجلها مسجلات التاريخ، فقد روي أن علياً (عليه السلام) خطب في الناس يوماً من بعد صلاة الصبح إلي قبيل الظهر، فکان الإمام يفيض علي الخلائق العلوم بشتي أنواعها طيلة ست ساعات تقريباً.

والآن نذکر لکم ما تيسر من الأحاديث الواردة حول علوم الإمام ومدي سعة معلوماته الجمة: (في البحار) قال أميرالمؤمنين (عليه السلام): لو ثنيت لي الوسادة لحکمت بين أهل القرآن حتي يزهر إلي الله ولحکمت بين أهل التوراة بالتوراة حتي يزهر إلي الله، ولحکمت بين أهل الإنجيل بالإنجيل حتي يزهر إلي الله، ولحکمت بين أهل الزبور بالزبور حتي يزهر إلي الله، ولولا آية في کتاب الله لأنبأتکم بما يکون حتي تقوم الساعة.

وقال علي (عليه السلام): لأنا أعلم بالتوراة من أهل التوراة وأعلم بالإنجيل من أهل الإنجيل.

عن الأصبغ بن نباتة قال: لما قدم علي (عليه السلام) الکوفة صلي بهم أربعين صباحاً فقرأ بهم: (سبح اسم ربک الأعلي)[19] فقال المنافقون: والله ما يحسن أن يقرأ ابن أبي طالب القرآن، ولو أحسن أن يقرأ لقرأ بنا غير هذه السورة، قال: فبلغه ذلک، فقال ويلهم! إني لأعرف ناسخه ومنسوخه ومحکمه ومتشابهه، وفصاله من وصاله، وحروفه من معانيه، والله ما حرف نزل علي محمد (صلّي الله عليه وآله) إلا وأنا أعرف فيمن أنزل وفي أي يوم نزل وفي أي موضع نزل، ويلهم أما يقرءون (إن هذا لفي الصحف الأولي صحف إبراهيم وموسي)[20] والله عندي، ورثتها من رسول الله (صلّي الله عليه وآله) وورثها رسول الله (صلّي الله عليه وآله) من إبراهيم وموسي، ويلهم! والله إني أنا الذي أنزل الله في: (وتعيها أذن واعية)[21] فإنا کنا عند رسول الله (صلّي الله عليه وآله) فيخبرنا بالوحي، فأعيه ويفوتهم، فإذا خرجنا قالوا: ماذا قال آنفاً؟.

عن عبابة بن ربعي قال: سمعت علياً (عليه السلام) يقول: سلوني قبل أن تفقدوني، ألا تسألون من عنده علم المنايا والبلايا والأنساب؟

عن الأصبغ بن نباته، قال: لما بويع أميرالمؤمنين (عليه السلام) بالخلافة خرج إلي المسجد معتماً بعمامة رسول الله (صلّي الله عليه وآله) لابساً برديه، فصعد المنبر فحمد الله وأثني عليه ووعظ وأنذر، ثم جلس متمکناً وشبک بين أصابعه ووضعها أسفل سرته، ثم قال: يا معشر الناس سلوني قبل أن تفقدوني، سلوني فإن عندي علم الأولين والآخرين، أما والله لو ثني لي الوسادة لحکمت بين أهل التوراة بتوراتهم، وبين أهل الإنجيل بإنجيلهم وبين أهل الزبور بزبورهم، وبين أهل الفرقان بفرقانهم، حتي ينهي کل کتاب من هذه الکتب ويقول: يا رب إن علياً قضي بقضائک.

والله إني لأعلم بالقرآن وتأوليه من کل مدّعِ علمه، ولولا آية في کتاب الله تعالي لأخبرتکم بما يکون إلي يوم القيامة.

ثم قال: سلوني قبل أن تفقدوني، فوالذي فلق الحبة وبرأ النسمة لو سألتموني عن آية لأخبرنکم بوقت نزولها وفيم نزلت، وأنبأتکم بناسخها من منسوخها وخاصها من عامها، ومحکمها من متشابهها، ومکييها من مدنيها والله ما من فئة تضل أو تهدي إلا وأنا أعرف قائدها وسائقها وناعقها إلي يوم القيامة.

قال ابن عباس: علي علم علماً علمه رسول الله (صلّي الله عليه وآله) ورسول الله (صلّي الله عليه وآله) علمه الله، فعلم النبي صلوات الله عليه وآله من علم الله، وعلم علي من علم النبي (صلّي الله عليه وآله) وعلمي من علم علي (عليه السلام)، وما علمي وعلم أصحاب محمد (صلّي الله عليه وآله) في علم علي إلا کقطرة في سبعة أبحر.

عن ابن عباس أن عمر بن الخطاب قال له: يا أباالحسن إنک لتعجل في الحکم والفصل للشي ء إذا سئلت عنه! قال: فأبرز علي کفه وقال له: کم هذا؟ فقال عمر: خمسة، فقال عجلت: أباحفص؟ قال: لم يخف علي، فقال علي (عليه السلام): وأنا أسرع فيما لا يخفي علي.

قال الصادق (عليه السلام) لابن أبي ليلي: أتقضي بين الناس يا عبد الرحمن؟ قال: نعم يا ابن رسول الله، قال: بأي شي ء تقضي؟ قال: بکتاب الله.

قال: فما لم تجد، في کتاب الله؟ قال من سنة رسول الله (صلّي الله عليه وآله) وما لم أجده فيهما أخذته عن الصحابة بما اجتمعوا عليه، قال: فإذا اختلفوا فبقول من تأخذ منهم؟ قال: بقول من أردت وأخالف الباقين، قال أبوعبدالله (عليه السلام): ما تقول يوم القيامة إذا رسول الله (صلّي الله عليه وآله) قال: أي رب إن هذا بلغه عني قول فخالفه؟ قال: وأين خالفت قوله يا ابن رسول الله؟ قال: فبلغک أن رسول الله قال: أقضاکم علي (عليه السلام)؟ قال: نعم، قال: فإذا خالفت قوله ألم تخالف قول رسول الله (صلّي الله عليه وآله)؟ فاصفر وجه ابن أبي ليلي وسکت.

عن الأصبغ بن نباتة وجماعة أن أميرالمؤمنين (عليه السلام) قال بحضرة المهاجرين والأنصار وأشار إلي صدره کيف ملئ علماً لو وجدت له طالباً؟ سلوني قبل أن تفقدوني، هذا سفط العلم هذا لعاب رسول الله (صلّي الله عليه وآله) هذا ما زقني رسول الله (صلّي الله عليه وآله) زقاً، فاسألوني فإن عندي علم الأولين والآخرين أما والله لو ثنيت لي الوسادة..

الخ.

وفي نهج البلاغة: (فوالذي نفسي بيده لا تسألوني عن شي ء فيما بينکم وبين الساعة ولا عن فئة تهدي مائة وتضل مائة إلا نبأتکم بناعقها وقائدها وسائقها ومناخ رکابها ومحط رحالها، ومن يقتل من أهلها قتلاً ويموت موتاً).

وعن سلمان أنه قال (عليه السلام): عندي علم المنايا والبلايا والوصايا والأنساب وفصل الخطاب، ومولد الإسلام ومولد الکفر، وأنا صاحب الميسم، وأنا الفاروق الأکبر، ودولة الدول فسلوني عما يکون إلي يوم القيامة، وعما کان قبلي وعلي عهدي وإلي أن يعبد الله.







  1. سورة الزمر، الآية: 9.
  2. سورة طه، الآية: 114.
  3. سورة الکهف، الآية: 65.
  4. سورة البقرة، الآية: 247.
  5. سورة الأنبياء، الآية: 79.
  6. سورة الأنبياء، الآية: 74.
  7. سورة النمل، الآية: 15.
  8. سورة القصص، الآية: 14.
  9. سورة الأعراف، الآية: 144.
  10. سورة المائدة، الآية: 110.
  11. سورة البقرة، الآية: 31.
  12. سورة مريم، الآية: 43.
  13. سورة الأنبياء، الآية:79.
  14. سورة يوسف، الآية: 37.
  15. سورة النساء، الآية: 113.
  16. سورة البقرة، الآية: 251.
  17. سورة يوسف، الآية: 68.
  18. سورة النساء، الآية: 105.
  19. سورة الأعلي، الآية: 1.
  20. سورة الأعلي، الآيتان: 18 و 19.
  21. سورة الحاقة، الآية: 12.