صورة أخري للمباهلة











صورة أخري للمباهلة



عن علي (عليه السلام) قال: لما قدم وفد نجران علي النبي (صلّي الله عليه وآله) قدم فيهم ثلاثة من النصاري من کبارهم: العاقب ومحسن والأسقف فجاءوا إلي اليهود وهم في البيت، فصاحوا بهم يا إخوة القردة والخنازير هذا الرجل بين ظهرانيکم قد غلبکم، انزلوا إلينا، فنزل إليهم منصور اليهودي وکعب بن الأشرف اليهودي، فقالوا لهم: احضروا غداً نمتحنه، فقال: وکان النبي (صلّي الله عليه وآله) إذا صلي الصبح سأل: هيهنا من الممتحنة أحد؟ فإن وجد أحداً أجابه وإن لم يجد أحداً قرأ علي أصحابه ما أنزل عليه في تلک الليلة، فلما صلي الصبح جلسوا بين يديه فقال له الأسقف: يا أباالقاسم فذاک موسي من أبوه؟ النبي (صلّي الله عليه وآله): عمران.

الأسقف: فيوسف من أبوه؟ النبي (صلّي الله عليه وآله): يعقوب.

الأسقف: فداک أبي وأمي فأنت من أبوک؟ النبي (صلّي الله عليه وآله): عبدالله بن عبدالمطلب.

الأسقف: فعيسي من أبوه؟ فسکت النبي (صلّي الله عليه وآله) فنزل جبرائيل، فقال هو روح الله وکلمته.

الأسقف: يکون روح بلا جسد؟ فسکت النبي (صلّي الله عليه وآله)، فأوحي إليه (إن مثل عيسي عند الله کمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له: کن فيکون)[1] فوثب الأسقف وثبة إعظام لعيسي أن يقال له من تراب.

ثم قال: ما نجد هذا يا محمد في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا نجد هذا إلا عندک.

فأوحي الله إليه (قل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءکم ونساءنا ونساءکم وأنفسنا وأنفسکم)....[2] .

فقالوا: أنصفتنا يا أباالقاسم، فمتي موعدک؟ قال: بالغداة إن شاء الله، ثم قال علي بن أبي طالب (عليه السلام): فلما صلي النبي (صلّي الله عليه وآله) الصبح أخذ بيدي وجعلني بين يديه، وأخذ فاطمة (عليهاالسلام) فجعلها خلف ظهره، وأخذ الحسن والحسين عن يمينه وعن شماله ثم برک لهما بارکاً، فلما رأوه قد فعل ذلک ندموا وتآمروا فيما بينهم وقالوا: والله إنه لنبي، ولئن باهلنا ليستجيب الله له علينا فيهلکنا ولا ينجينا شي ء منه إلا أن نستقيله، قال: فأقبلوا حتي جلسوا بين يديه، ثم قالوا: يا أباالقاسم أقلنا، قال: نعم، قد أقلتکم، أما والذي بعثني بالحق لو باهلتکم ما ترک الله علي ظهر الأرض نصرانياً إلا أهلکه.

قال الشيخ المفيد رحمه الله في کتاب الفصول: قال المأمون يوماً للرضا (عليه السلام): أخبرني بأکبر فضيلة لأميرالمؤمنين (عليه السلام) يدل عليها القرآن؟ قال: فقال الرضا (عليه السلام) فضيلة في المباهلة، قال جل جلاله: (فمن حاجّک فيه من بعد ما جاءک من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءکم ونساءنا ونساءکم وأنفسنا وأنفسکم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله علي الکاذبين)[3] فدعا رسول الله (صلّي الله عليه وآله) الحسن والحسين (عليهماالسلام) فکانا ابنيه، ودعا فاطمة (عليهاالسلام) فکانت في هذا الموضع نساءه ودعا أميرالمؤمنين (عليه السلام) فکان نفسه بحکم الله عزوجل، وقد أثبت أنه ليس أحد من خلق الله تعالي أجل من رسول الله (صلّي الله عليه وآله) وأفضل، فواجب أن لا يکون أحد أفضل من نفس رسول الله بحکم الله عزوجل، قال: فقال المأمون: أليس قد ذکر الله الأبناء بلفظ الجمع وإنما دعا رسول الله (صلّي الله عليه وآله) ابنيه خاصة؟ وذکر النساء بلفظ الجمع وإنما دعا رسول الله (صلّي الله عليه وآله) ابنته وحدها؟ فألا جاز أن يذکر الدعاء لمن هو نفسه ويکون المراد نفسه في الحقيقة دون غيره؟ فلا يکون لأميرالمؤمنين (عليه السلام) ما ذکرت من الفضل، قال: فقال له الرضا (عليه السلام): ليس يصح ما ذکرت يا أميرالمؤمنين وذلک أن الداعي إنما يکون داعياً لغيره کما أن الآمر آمر لغيره ولا يصح أن يکون داعياً لنفسه في الحقيقة کما لا يکون آمراً لها في الحقيقة، وإذ لم يدع رسول الله (صلّي الله عليه وآله) في المباهلة رجلاً إلا أميرالمؤمنين (عليه السلام) فقد ثبت أنه نفسه التي عناها الله سبحانه في کتابه وجعل حکمة ذلک في تنزيله.

قال: فقال المأمون: إذا ورد الجواب سقط السؤال.

قال الطبرسي (رحمه الله): أجمع المفسرون علي أن المراد بأبنائنا الحسن والحسين (عليهماالسلام)، قال أبوبکر الرازي: هذا يدل علي أن الحسن والحسين ابنا رسول الله، وأن ولد الابنة ابن في الحقيقة.

وقال ابن أبي علان وهو أحد أئمة المعتزلة: هذا يدل علي أن الحسن والحسين (عليهماالسلام) کانا مکلفين في تلک الحال، لأن المباهلة لا تجوز إلا مع البالغين.

وقال أصحابنا: إن صغر السن ونقصانها عن حد بلوغ الحلم لا ينافي کمال العقل، وإنما جعل بلوغ الحلم حداً لتعلق الأحکام الشرعية، وکان سنهما في تلک الحال سناً لا يمتنع معها أن يکونا کاملي العقل، علي أن عندنا يجوز أن يخرق العادات للأئمة ويخصهم بما لا يشرکهم فيه غيرهم فلو صح أن کمال العقل غير معتاد في تلک السن لجاز ذلک فيهم إبانة لهم عمن سواهم، ودلالة علي مکانهم من الله تعالي واختصاصهم به، ومما يؤيده من الأخبار قول النبي (صلّي الله عليه وآله): ابناي هذان إمامان قاما أو قعدا.

(ونساءنا) اتفقوا علي أن المراد به فاطمة (عليهاالسلام) لأنه لم يحضر المباهلة غيرها من النساء، وهذا يدل علي تفضيل الزهراء علي جميع النساء، (وأنفسنا) يعني علياً خاصة، ولا يجوز أن يکون المعني به النبي (صلّي الله عليه وآله) لأنه هو الداعي، ولا يجوز أن يدعي الإنسان نفسه، وإنما يصح أن يدعو غيره.

وإذا کان قوله: (وأنفسنا) لا بد أن يکون إشارة إلي غير الرسول وجب أن يکون إشارة إلي علي (عليه السلام) لأنه لا أحد يدعي دخول غير أميرالمؤمنين (عليه السلام) وزوجته وولديه (عليهم السلام) في المباهلة، وهذا يدل علي غاية الفضل وعلو الدرجة والبلوغ منه إلي حيث لا يبلغه أحد، إذ جعله الله سبحانه نفس الرسول، وهذا ما لا يدانيه أحد ولا يقاربه انتهي.

قال شيخنا المجلسي (رحمه الله): ويدل علي کون المراد بأنفسنا أميرالمؤمنين (عليه السلام) ما رواه ابن حجر في صواعقه رواية عن الدار قطني: أن علياً (عليه السلام) يوم الشوري احتج علي أهلها فقال لهم: أنشدکم الله هل فيکم أحد أقرب إلي رسول الله (صلّي الله عليه وآله) في الرحم مني؟ ومن جعله نفسه، وأبناءه أبناءه ونساءه نساءه غيري؟ قالوا: اللهم لا.

ولا يخفي أن تخصيص هؤلاء من بين جميع أقاربه (صلّي الله عليه وآله) للمباهلة دون عباس وعقيل وجعفر وغيرهم لا يکون إلا لأحد شيئين:

إما لکونهم أقرب الخلق إلي الله بعده، حيث استعان بهم في الدعاء علي العدو دون غيرهم، وإما لکونهم أعز الخلق عليه حيث عرضهم للمباهلة إظهاراً لوثوقه علي حقيته، حيث لم يبال بأن يدعو الخصم عليهم مع شدة حبه لهم، وظاهر: أن حبه (صلّي الله عليه وآله) لم يکن من جهة البشرية والأمور الدنيوية، بل لم يکن يحب إلا من يحبه الله، ولم يکن حبه إلا خالصاً لله... الخ.

قال بعض الأعلام: وخلاصة الکلام: أن مدار الحب في رسول الله (صلّي الله عليه وآله) التقوي والورع وسائر الفضائل والملکات الحسنة لا الأغراض الدنيوية الفاسدة، فتخصيصه (صلّي الله عليه وآله) هؤلاء من بين جميع أقاربه دليل علي محبته إياهم، ومحبته دليل علي کونهم أتقي وأورع وأفضل من غيرهم.

قال المجلسي (رحمه الله): فإذا ثبت ذلک فيرجع هذا أيضاً إلي کونهم أقرب الخلق وأحبهم إلي الله، فيکونون أفضل من غيرهم، فيقبح عقلاً تقديم غيرهم عليهم.

وأيضاً لما ثبت أن المقصود بنفس الرسول (صلّي الله عليه وآله) في هذه الآية، ليس المراد النفسية الحقيقية، لامتناع اتحاد الاثنين، وأقرب المجازات إلي الحقيقة اشتراکهما في الصفات والکمالات وخرجت النبوة بالدليل، فبقي غيرها، ومن جملتها وجوب الطاعة والرئاسة العامة والفضل علي من سواه وسائر الفضائل.

قال الإمام الرازي في کتابه الأربعين: وأما الشيعة فقد احتجوا علي أن علياً أفضل الصحابة بوجوه: الحجة الأولي التمسک بقوله تعالي (فقل تعالوا)[4] وثبت بالأخبار الصحيحة أن المراد من قوله: (وأنفسنا) هو علي، ومن المعلوم أنه يمتنع أن تکون نفس علي هي نفس محمد بعينه فلا بد أن يکون المراد هو المساواة بين النفسين وهذا يقتضي أن کل ما حصل لمحمد من الفضائل والمناقب فقد حصل مثله لعلي، ترک العمل بهذا في فضيلة النبوة فوجب أن تحصل المساواة بينهما وراء هذه الصفة، ثم لا شک أن محمداً (صلّي الله عليه وآله) کان أفضل الخلق في سائر الفضائل، فلما کان علي مساوياً له في تلک الفضائل وجب أن يکون أفضل الخلق، لأن المساوي للأفضل يجب أن يکون أفضل.

ولنعم ما قال الشيخ کاظم الأزري في هذه المناسبة:


يا بن عم النبي أنت يد
الله التي عم کل شي ء نداها


أنت قرآنه القديم وأوصا
فک آياته التي أوحاها


خصک الله في مآثر شتي
هي مثل الأعداد لا تتناهي


ليت عيناً بغير روضک ترعي
قذيت واستمر فيها قذاها


أنت بعد النبي خير البرايا
والسما خير ما بها قمراها


لک ذات کذاته حيث لولا
أنها مثلها لما آخاها







  1. سورة آل عمران، الآية: 59.
  2. سورة آل عمران، الآية: 61.
  3. سورة آل عمران، الآية: 61.
  4. سورة آل عمران، الآية: 61.