علي يوم خيبر











علي يوم خيبر



قال الطبرسي (رحمه الله): لما قدم رسول الله (صلّي الله عليه وآله) المدينة من الحديبية مکث بها عشرين ليلة، ثم خرج منها غازياً إلي خيبر.

خيبر اسم منطقة تبعد عن المدينة المنورة ساعات، وهي عبارة عن حصون وقلاع محصنة، کانت اليهود تسکنها يومذاک، فلما وصل النبي (صلّي الله عليه وآله) إلي خيبر، واستعد للقتال واصطف العسکران، خرج رجل من المسلمين اسمه: عامر بن الأکوع يبارز رجلاً من اليهود اسمه مرحب، وکان مرحب يرتجز ويقول:


قد علمت خيبر أني مرحب
شاکي السلاح بطل مجرب


فأجابه عامر:


قد علمت خيبر أني عامر
شاکي السلاح بطل مغامر


فتضاربا بالسيف، فوقع سيف عامر علي رکبته فمات منه.

وحاصر النبي تلک الحصون خمساً وعشرين يوماً، ثم أعطي رايته أبابکر وقيل: أعطي الراية إلي عمر بن الخطاب أولاً فنهض ونهض معه المسلمون فلقوا أهل خيبر فرجعوا.

وأعطي الراية أبابکر في اليوم الثاني فذهب مع المسلمين فرجع يجبِّن أصحابه ويجبنونه، فلما علم النبي ذلک قال: لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله کرار غير فرار، لا يرجع حتي يفتح الله علي يديه.

فبات الناس يتفکرون حول الرجل الموصوف بهذا الصفات، المقصود بکلام رسول الله (صلّي الله عليه وآله) وکان علي غائباً في تلک الغزوة، وما کان الناس يحسبونه المقصود بکلام النبي، حتي قال بعضهم: أما علي فقد کُفيتموه فإنه أرمد لا يبصر موضع قدمه.

بل کان کل منهم يرجو أن يعطي الراية، وأصبح الصباح وخرج رسول الله (صلّي الله عليه وآله) بالراية، وأقبل الناس إلي النبي ليعرفوا الرجل الذي يستحق أن يکون حاملاً لراية الإسلام وفاتحاً لحصون اليهود؟ فقال النبي (صلّي الله عليه وآله): أين علي بن أبي طالب؟ فقيل: هو يشتکي عينيه، فقال: أرسلوا إليه.

فجاءوا به علي بغلة وعينه معصوبة بخرقة، فأخذ سلمة بن الأکوع بيده وأتي به إلي النبي (صلّي الله عليه وآله) فقال النبي: ما تشتکي يا علي؟ قال: رمد ما أبصر معه، وصداع برأسي.

فقال النبي: اجلس وضع رأسک علي فخذي.

ففعل علي ذلک، فدعا له النبي (صلّي الله عليه وآله) وتفل في يده فمسح بها علي عينيه ورأسه فانفتحت عيناه وسکن ما کان يجده من الصداع وقال النبي: اللهم قِهِ الحر والبرد.

وأعطاه الراية وکانت بيضاء فقال له: خذ الراية وامض بها، فجبرائيل معک، والنصر أمامک والرعب مبثوث في صدور القوم، واعلم يا علي أنهم يجدون في کتابهم: أن الذي يدمر عليهم اسمه: (إيليا) فإذا لقيتهم فقل: أنا علي، فإنهم يخذلون إن شاء الله.

فأقبل علي (عليه السلام) بالراية يهرول بها ولحقه الناس فرکز رمحه قريباً من الحصن، وأشرف عليه حبر من الأحبار فقال: من أنت؟ فقال: أنا علي بن أبي طالب.

فقال اليهودي: غُلبتم وما أُنزل علي موسي أي غلبتم قسماً بالتوراة التي نزلت علي موسي (عليه السلام).

فخرج إليه مرحب في عامة اليهود، وعليه مغفرة وحجر قد ثقبه مثل البيضة علي أُم رأسه وهو يرتجز ويقول:


قد علمت خيبر أني مرحب
شاکي السلاح بطل مجرب


أطعن أحياناً وحيناً أضرب

فقال علي (عليه السلام):


أنا الذي سمتني أمي حيدرة
ضرغام آجام وليث قسورة


علي الأعادي مثل ريح صرصرة
أکيلکم بالسيف کيل السندرة


أضرب بالسيف رقاب الکفرة

فلما سمع مرحب منه ذلک هرب ولم يقف، خوفاً مما حذرته منه ظئره، فتمثل له إبليس في صورة حبر من أحبار اليهود فقال له: إلي أين يا مرحب؟ فقال: قد تسمي علي هذا القرن بحيدرة فقال له إبليس: فما حيدرة؟ قال مرحب: إن فلانة ظئري (مرضعتي) کانت تحذرني من مبارزة رجل اسمه: حيدرة.

وتقول: إنه قاتلک.

فقال إبليس: شوهاً لک! لو لم يکن حيدرة إلا هذا وحده لما کان مثلک يرجع عن مثله، تأخذ بقول النساء وهن يخطئن أکثر مما يصبن، وحيدرة في الدنيا کثير، فارجع فلعلک تقتله، فإن قتلته سدت قومک، وأنا في ظهرک أستصرخ اليهود لک.

فرجع مرحب إلي قتال علي (عليه السلام) فدعاهم علي (عليه السلام) إلي الإسلام أو الجزية أو الحرب فاختاروا الحرب، فضربه الإمام بالسيف علي رأسه ضربة قطعت الحجر والمغفر رأسه حتي وقع السيف في أضراسه، فخر صريعاً، وحمل علي (عليه السلام) علي الجيش اليهودي فانهزموا ودخلوا الحصن، وسدوا بابه، وکان الباب حجراً منقوراً في صخر، والباب من الحجر في ذلک الصخر المنقور، کأنه حجر رحي، وفي وسطه ثقب لطيف، وقد ذکرنا في الجزء الثاني من شرح نهج البلاغة بياناً حول الباب المزبور.

رمي علي (عليه السلام) القوس من يده اليسري وجعل يده اليسري في ذلک الثقب الذي في وسط الحجر وکان السيف بيده اليمني ثم جذبه إليه فانهار الصخر المنقور، وصار الباب في يده اليسري، فحملت عليه اليهود، فجعل علي (عليه السلام) الباب ترساً له، وحمل عليهم فانهزموا، فرمي الحجر بيده اليسري إلي خلفه فمر الحجر علي رؤوس الناس من المسلمين إلي أن وقع في آخر العسکر، وإلي هذا أشار ابن أبي الحديد في قصيدته مخاطباً الإمام (عليه السلام):


يا قالع الباب الذي عن هزه
عجزت أکف أربعون وأربع


واجتمع المسلمون ليرفعوا ذلک الحجر فلم يستطيعوا وهم أربعون رجلاً، وفتح علي تلک الحصون.

وتقدم حسان بن ثابت واستأذن رسول الله (صلّي الله عليه وآله) أن يقول شعراً فقال له: قل.

فأنشأ يقول:


وکان علي أرمد العين يبتغي
دواء فلما لم يحس مدا


وياشفاه رسول الله منه بتفلة
فبورک مرقياً وبورک راقيا


وقال: سأعطي الراية اليوم صارماً
کمياً محباً للرسول مواليا


يحب إلهي والإله يحبه
به يفتح الله الحصون الأوابيا


فأصفي بها دون البرية کلها
علياً وسماه الوزير المواخيا


فعند ذلک قال رسول الله (صلّي الله عليه وآله) لعلي (عليه السلام): لولا أن تقول فيک طوائف من أمتي ما قالت النصاري في عيسي بن مريم لقلت فيک قولاً لا تمر بملأ إلا أخذوا من تراب رجليک، ومن فضل طهورک يستشفون به، ولکن حسبک: أن تکون أنت مني وأنا منک، ترثني وأرثک، وأنک مني بمنزلة هارون من موسي، إلا أنه لا نبي بعدي، وأنک تبرئ ذمتي وتقاتل علي سنتي، وأنک في الآخرة أقرب الناس مني، وأنک غداً علي الحوض خليفتي، وأنک أول من يرد علي الحوض غداً، وأنک أول من يکسي معي، وأنک أول من يدخل الجنة من أمتي، وأن شيعتک علي منابر من نور مبيضة وجوههم حولي أشفع لهم، ويکونون في الجنة جيراني، وأن حربک حربي، وأن سلمک سلمي، وأن سرک سري وأن علانيتک علانيتي، وأن سريرة صدرک کسريرة صدري وأن ولدک ولدي وأنک تنجز عدتي، وأن الحق علي لسانک وفي قلبک، وبين عينيک، وأن الإيمان مخالط لحمک ودمک کما خالط لحمي ودمي، وأنه لا يرد علي الحوض مبغض لک، ولن يغيب عنه محب لک غداً حتي يردوا الحوض معک.

فخر علي ساجداً شکراً لله.

وقال المرحوم الشيخ الأزري في قصيدته الفريدة:


وله يوم خيبر فتکات
کبرت منظراً علي من رآها


يوم قال النبي: إني لأعطي
رايتي ليثها وحامي حماها


فاستطالت أعناق کل فريق
ليروا أي ماجد يعطاها


فدعي: أين وارث العلم والحل
م مجير الأيام من باساها


أين ذو النجدة الذي لو دعته
في الثريا مروعة لباها


فأتاه الوصي أرمد عين
فسقاها من ريقه فشفاها


ومضي يطلب الصفوف فولّت
عنه علماً بأنه أمضاها


وبري مرحباً بکف اقتدار
أقوياء الأقدار من ضعفاها


ودحي بابها بقوة بأس
لو حمتها الأفلاک منه دحاها


عائد للمؤملين مجيب
سامع ما تسر من نجواها


إنما المصطفي مدينة علم
وهو الباب من أتاه أتاها


وهما مقلتا العوالم: يسرا
ها علي وأحمد يمناها