علي يوم الخندق











علي يوم الخندق



تحزبت الأحزاب ضد رسول الله (صلّي الله عليه وآله) في مکة وضواحيها وقصدت المدينة لمحاربة رسول الله، ونزل جبرائيل علي النبي وأخبره فاستشار النبي أصحابه، فأشار عليه سلمان بحفر الخندق حول المدينة، فأقبل رسول الله ومعه المهاجرون والأنصار، وحفروا الخندق، في جانب من المدينة يشبه نصف الدائرة، فلما فرغوا من حفر الخندق، وصل المشرکون، ونزلوا بالقرب من الخندق.

وخرج فوارس من قريش منهم: عمرو بن عبدود أخو بني عامر بن لؤي، وعکرمة بن أبي جهل، وضرار بن الخطاب وهبيرة بن أبي وهب ونوفل بن عبدالله قد تلبسوا للقتال، وخرجوا علي خيولهم حتي مروا بمنازل بني کنانة فقالوا: تهيئوا للحرب يا بني کنانة، فستعلمون اليوم من الفرسان؟ ثم أقبلوا تعنق بهم خيولهم حتي وقفوا علي الخندق فقالوا: والله إن هذه لمکيدة ما کانت العرب تکيدها، وتعرفها قبل ذلک فقيل لهم: هذا من تدبير الفارسي الذي معه (سلمان) ثم تيمموا مکاناً ضيقاً من الخندق فضربوا خيولهم، فاقتحموا فجالت بهم في السبخة بين الخندق وسلع، وخرج علي بن أبي طالب في نفر من المسلمين حتي أخذ منهم الثغرة التي منها اقتحموا، وأقبلت الفرسان نحوهم، وکان بينهم عمرو بن عبدود فارس قريش وکان قد قاتل يوم بدر حتي ارتث (حمل من المعرکة) وأثقلته الجراح فلم يشهد أحداً، فلما کان يوم الخندق خرج معلماً ليري مشهده، وکان يعد بألف فارس وکان يسمي: فارس يليل لأنه: أقبل في رکب من قريش حتي إذا هو بيليل وهو واد قريب من بدر عرضت لهم بنو بکر في عدد فقال لأصحابه: امضوا، فمضوا، فقام في وجوه بني بکر حتي منعهم من أن يصلوا إليه، فعرف بذلک، وکان اسم الموضع الذي حفر فيه الخندق: المداد، وکان أول من طفره عمرو وأصابه، فقيل في ذلک:


عمرو بن ود کان أول فارس
جزع المداد وکان فارس يليل


ورکز عمرو بن عبدود رمحه في الأرض وأقبل يجول حوله، ويرتجز.

وذکر ابن إسحاق أن عمرو بن عبدود کان ينادي من يبارز؟ فقال رسول الله (صلّي الله عليه وآله): من لهذا الکلب؟ فلم يجبه أحد فقام علي (عليه السلام) وهو مقنع في الحديد، فقال: أنا له يا نبي الله، فقال إنه عمرو، اجلس، ونادي عمرو: ألا رجل؟ وجعل يؤنبهم ويسبهم، ويقول أين جنتکم التي تزعمون أن من قتل منکم دخلها؟ فقام علي (عليه السلام) فقال: أنا له يا رسول الله، فأمره النبي بالجلوس رعاية لابنته فاطمة التي کانت تبکي علي جراحات علي (عليه السلام) يوم أحد، ثم نادي الثالثة فقال:


ولقد بححت من النداء
بجمعکم هل من مبارز؟


ووقفت إذ جبن المشجع
موقف البطل المناجز


إني کذلک لم أزل
متسرعاً نحو الهزائز


إن السماحة والشجا
عة في الفتي خير الغرائز


فقام علي (عليه السلام) فقال: يا رسول الله أنا.

فقال: إنه عمرو، فقال: وإن کان عمراً وأنا علي بن أبي طالب!! فاستأذن رسول الله (صلّي الله عليه وآله) فأذن له، وألبسه درعه ذات الفضول، وأعطاه سيفه ذا الفقار، وعممه عمامة السحاب علي رأسه تسعة أکوار (أدوار) ثم قال له: تقدم.

فقال لما ولي: (اللهم احفظه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ومن فوق رأسه ومن تحت قدميه).

ثم قال: برز الإيمان کله إلي الشرک کله.

فمشي إليه وهو يقول:


لا تعجلن فقد أتا
ک مجيب صوتک غير عاجز


ذو نية وبصيرة
والصدق منجي کل فائز


إني لأرجو أن أقيم
عليک نائحة الجنائز


من ضربة نجلاء يبقي
ذکرها عند الهزاهز


وما زال رسول الله (صلّي الله عليه وآله) آنذاک رافعاً يديه مقحماً رأسه إلي السماء داعياً به قائلاً: اللهم إنک أخذت مني عبيدة يوم بدر وحمزة يوم أحد، فاحفظ علي اليوم علياً، رب لا تذرني فرداً وأنت خير الوارثين.

فقال عمرو: من أنت؟ وکان عمرو شيخاً کبيراً قد جاوز الثمانين، وکان نديم أبي طالب بن عبدالمطلب في الجاهلية، فانتسب علي له.

فقال عمرو: أجل، لقد کان أبوک نديماً لي وصديقاً، فارجع فإني لا أحب قتلک! فقال علي (عليه السلام): لکني أحب أن أقتلک! فقال عمرو: يا ابن أخي إني لأکره أن أقتل الرجل الکريم مثلک، فارجع وراءک خير لک، ما آمن ابن عمک حين بعثک إلي أن أختطفک برمحي هذا فأترکک شايلاً بين السماء والأرض لا حي ولا ميت!! فقال له علي (عليه السلام): قد علم ابن عمي أنک إن قتلتني دخلت الجنة وأنت في النار، وإن قتلتک فأنت في النار وأنا في الجنة.

فقال عمرو: کلتاهما لک يا علي؟ تلک إذاً قسمة ضيزي!! فقال علي (عليه السلام): إن قريشاً تتحدث عنک أنک قلت: لا يدعوني أحد إلي ثلاث إلا أجيب، ولو إلي واحدة منها؟ قال: أجل.

قال: فإني أدعوک إلي الإسلام، وفي رواية: أدعوک إلي شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.

قال: دع هذه!! أو نح هذا.

قال: فإني أدعوک إلي أن ترجع بمن يتبعک من قريش إلي مکة، فإن يک محمد صادقاً فأنتم أعلي به عيناً، وإن يک کاذباً کفتکم ذؤبان العرب أمره.

قال: إذن تتحدث نساء قريش عني: أن غلاماً خدعني وينشد الشعراء في أشعارها أني جبنت، ورجعت علي عقبي من الحرب، وخذلت قوماً رأسوني عليهم.

قال: فإني أدعوک إلي البراز راجلاً، فجمي عمرو وقال: ما کنت أظن أحداً من العرب يرومها مني.

ثم نزل فعقر فرسه وقيل ضرب وجه فرسه ففر ثم قصد نحو علي (عليه السلام) وضربه بالسيف علي رأسه، فأصاب السيف الدرقة فقطعها، ووصل السيف إلي رأس علي (عليه السلام).

فضربه علي (عليه السلام) علي عاتقه فسقط، وفي رواية: فضربه علي رجليه بالسيف فوقع علي قفاه، وثار العجاج والغبار، وأقبل علي ليقطع رأسه فجلس علي صدره، فتفل اللعين في وجه الإمام (عليه السلام) فغضب (عليه السلام)، وقام عن صدره يتمشي حتي سکن غضبه، ثم عاد إليه فقتله.

وقال ربيعة بن مالک السعدي: أتيت حذيفة بن اليمان، فقلت: يا أباعبدالله: إن الناس يتحدثون عن علي بن أبي طالب ومناقبه، فيقول لهم أهل البصيرة: إنکم لتفرطون في تفريط (تقريظ) هذا الرجل.

فهل أنت محدثي بحديث عنه أذکره للناس؟ فقال: يا ربيعة وما الذي تسألني عن علي؟ وما الذي أحدثک به عنه؟ والذي نفس حذيفة بيده: لو وضع جميع أعمال أمة محمد في کفة الميزان منذ بعث الله تعالي محمداً إلي يوم الناس هذا، ووضع عمل واحد من أعمال علي في کفة أخري لرجح علي أعمالهم کلها، فقال ربيعة: هذا المدح الذي لا يقام له ولا يقعد ولا يحمل، إني لأظنه إسرافاً يا أباعبدالله!!! فقال حذيفة: يا لکع! وکيف لا يحمل؟ وأين کان المسلمون يوم الخندق وقد عبر إليهم عمرو وأصحابه؟ فملکهم الهلع والجزع، ودعا إلي المبارزة فأحجموا عنه حتي برز إليه علي فقتله؟

والذي نفس حذيفة بيده: لعمله ذلک اليوم أعظم أجراً من أعمال أمة محمد إلي هذا اليوم وإلي أن تقوم القيامة.

وجاء علي برأس عمرو إلي رسول الله (صلّي الله عليه وآله) فتهلل وجه رسول الله (صلّي الله عليه وآله) فقام أبوبکر وعمر بن الخطاب وقبلا رأسه، وکان علي (عليه السلام) يقول:


أنا علي وابن عبدالمطلب
الموت خير للفتي من الهرب


فقال عمر: هلا سلبته درعه، فإنه ليس في العرب درع مثلها؟ فقال علي (عليه السلام): إني استحييت أن أکشف سوأة ابن عمي.

وفي رواية: لما جلس علي (عليه السلام) علي صدر عمرو ليذبحه قال له عمرو: يا علي قد جلست مني مجلساً عظيماً، فإذا قتلتني فلا تسلبني حلتي، فقال (عليه السلام): هي أهون علي من ذلک.

ولما قتل علي (عليه السلام) عمراً انهزم المشرکون وانکسرت شوکتهم، وکفي الله المؤمنين القتال بعلي (عليه السلام).

قال حسان بن ثابت في قتل عمرو بن عبدود:


أمسي الفتي عمرو بن عبدود يبتغي
بجنوب يثرب غارة لم تنظر


فلقد وجدت سيوفنا مشهورة
ولقد وجدت جيادنا لم تقصر


ولقد رأيت غداة بدر عصبة
ضربوک ضرباً غير ضرب المحضر


أصبحت لا تدعي ليوم کريهة
يا عمرو أو لجسيم أمر منکر


فأجابه بعض بني عامر:


کذبتم وبيت الله لم تقتلوننا
ولکن بسيف الهاشميين فافخروا


بسيف ابن عبدالله أحمد في الوغا
بکف علي نلتم ذاک فاقصروا


ولم تقتلوا عمرو بن عبدود ولا ابنه
ولکنه الکفو الهزبر الغضنفر


علي الذي في الفخر طال ثناؤه
فلا تکثروا الدعوي عليه فتفجروا


ببدر خرجتم للبراز فردکم
شيوخ قريش جهرة وتأخروا


فلما أتاهم حمزة وعبيدة
وجاء علي بالمهند يخطر


فقالوا: نعم أکفاء صدق فاقبلوا
إليهم سراعاً إذ بغوا وتجبروا


فجال علي جولة هاشمية
فدمرهم لما عتوا وتکبروا


فليس لکم فخر علينا بغيرنا
وليس لکم فخر يعد ويذکر


وکان (عليه السلام) يقول مشيراً إلي هذه الفضيلة:


أعليّ تفتخر الفوارس هکذا؟
عني وعنهم خبروا أصحابي


اليوم يمنعني الفرارَ حفيظتي
ومصمم بالرأس ليس بنابي


أرديت عمراً إذ طغي بمهند
صافي الحديد مجرب قضاب


نصر الحجارة عن سفاهة رأيه
ونصرت رب محمد بصواب


فصدرت حين ترکته متجدلاً
کالجذع بين دکادک وروابي


وعففت عن أثوابه ولو أنني
کنت المقطّر بزّني أثوابي


لا تحسبن الله خاذل دينه
ونبيه يا معشر الأحزاب


وقال رسول الله (صلّي الله عليه وآله): ضربة علي يوم الخندق أفضل من عبادة الثقلين.

وفي رواية الحاکم في المستدرک: لمبارزة علي بن أبي طالب لعمرو بن عبدود يوم الخندق أفضل من أعمال أمتي إلي يوم القيامة.

وسبب ذلک أنه لم يبق بيت من بيوت المشرکين إلا وقد دخله وهنٌ بقتل عمرو، ولم يبق في المسلمين بيت من بيوت المسلمين إلا ودخله عزٌّ بقتل عمرو.

ولما وصل الخبر إلي أخت عمرو قالت: من ذا الذي اجترأ عليه؟ فقالوا: علي بن أبي طالب.

فقالت: لم يعد موته إلا علي يد کفو کريم لا رقأت دمعتي إن هرقتها عليه، قاتل الأبطال وبارز الأقران، وکانت منيته علي يد کفو کريم من قومه، ما سمعت بأفخر من هذا يا بني عامر، ثم أنشأت تقول:


لو کان قاتل عمرو غير قاتله
لکنت أبکي عليه آخر الأبد


لکن قاتله من لا يعاب به
وکان يدعي قديماً بيضة البلد


وفي نسخة: وکان يدعي أبوه بيضة البلد.

ولقد أجاد المرحوم الشيخ کاظم الأزري (عليه الرحمة) في قصيدته الألفية التي يقول فيها:


ظهرت منه في الوغي سطوات
ما أتي القوم کلهم ما أتاها


يوم غصت بجيش عمرو بن عبدود
لهوات الفلا وضاق فضاها


وتخطي إلي المدينة فرداً
بسرايا عزائم ساراها


فدعاهم وهم ألوف ولکن
ينظرون الذي يشب لظاها


أين أنت عن قسور عامري
تتقي الأسد بأسه في شراها


فابتدي المصطفي يحدث عما
يؤجر الصابرون في أخراها


قائلاً: إن للجليل جناناً
ليس غير المجاهدين يراها


أين من نفسه تتوق إلي
الجنات أو يورد الجحيم عداها


من لعمرو؟ وقد ضمنت علي
الله له من جناته أعلاها


فالتووا عن جوابه کسوام
لا تراها مجيبة من دعاها


وإذا هم بفارس قرشي
ترجف الأرض خيفة إذ يطاها


قائلاً: ما لها سواي کفيل
هذه ذمة علي وفاها


ومشي يطلب الصفوف کما
تمشي خماص الحشا إلي مرعاها


فانتضي مشرفية فتلقي
ساق عمرو بضربة فبراها


وإلي الحشر رنة السيف منه
يملأ الخافقين رجع صداها


يا لها ضربة حوت مکرمات
لم يزن ثقل أجرها ثقلاها


هذه من علاه إحدي المعالي
وعلي هذه فقس ما سواها