المقدمة











المقدمة



بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله کما يرضي، وصلي الله علي سيدنا محمد المصطفي وآله سادات الوري.

وبعد: کم أنا معجب بحياة أولياء الله الذين کانوا المظهر الصحيح الکامل للانقياد والخضوع لأوامر الله تعالي وإرادته وإني لا أعرف في قاموس اللغة العربي ألفاظاً کافية في التعريف والتعبير عن شخصية الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، لا أکتب هذا بقلم العاطفة والغلو ولا طمعاً في ربح مادي للجائزة الدنيوية بل بقلم الواقع والحقيقة، أنظر إلي الحقائق وأذکر انطباعاتي عنها وسيظهر صدق هذا الکلام من خلال سطور الکتاب، ويتجلي الحق الواضح لکل من يقرأ هذا الکتاب مجرداً عن الاتجاهات.

کلمة العظيم لا تکفي لبيان عظمة الرجل، وخاصة بعد أن استعملت هذه الکلمة في الکثير ممن يستحق ذلک أو لا يستحق، مع العلم أن العظمة تتفاوت من حيث القلة والکثرة والضعف والشدة وکذلک سائر الصفات الحميدة التي يُعبّر عنها بالفضائل ويُنعت بها الرجال.

فکيف أستطيع أن أصف الإمام حق الوصف، وأؤدي واجب المقام حق الأداء، وکلما حاولت أن أطير بقلمي إلي أرفع مستوي في البيان وأعلي درجة في الأداء مع ذلک کله فالعجز عن التعبير لا يفارقني، والأفضل أن نذکر حياة الإمام بکل بساطة، ونحيل إدراک الموقف وأهمية الحال إلي فکرة القارئ وذهنه وفهمه الفطري، وهذا أولي من تنميق الألفاظ وتنضيدها وتکوين کتلة من الألغاز أو الکنايات التي تشبه کتب اللغة ولکن من غير تبويب وتنظيم!! هناک صفات تميل إليها النفوس وتحبها وتحب من يتصف بها ويقال لها: الفضائل کالعلم والشجاعة والکرم وغيرها.

وهناک أيضاً صفات تنفر منها الطباع وتکره من يتصف بها ويقال لها: الرذائل کالجهل والجبن والبخل وغيرها، وهي أضداد الفضائل والصفات الحمية، کلتا الطائفتين من الصفات تقل في النفوس وتکثر، وتضعف وتشتد، فقد يبلغ الکرم القمة، وقد ينتهي البخل إلي الحضيض وهکذا الکلام في باقي الفضائل والرذائل، ونحن حين نراجع ترجمة حياة الإمام أميرالمؤمنين (عليه السلام) نجدها حافلة بالفضائل بأقصي درجة ممکنة وأرفع مستوي يُتصور، منزهة عن کل ما يمس ويحط ويشوه (بجميع معني الکلمة) بقدسية الإمام وجلالته، وليس هذا ادعاء أجوف، بل محتويات الکتاب کلها شواهد وبراهين علي ما نقول، بل التاريخ الصحيح أقوي دليل وکتاب الله أقوي حجة ومن أصدق من الله قيلاً وأختم مقدمتي هذه بکلمتي الوجيزة:

أقول: إن الله تعالي الذي هو علي کل شي ء قدير ولا يعجزه شي ء شاء أن يظهر لعباده الفرد الکامل من خلقه ليريهم قدرته علي الإبداع في الصنع ويبرهن لهم علي أن من الممکن أن يقرب الله البشر إلي أعلي درجة من الشرف يمکن للموجود أن يبلغها، فخلق الله محمداً (صلّي الله عليه وآله) وعلي بن أبي طالب (عليه السلام) ليکون کل واحد مثالاً کاملاً للقدرة الإلهية، وشاهداً حياً لأرقي موجود في مراتب الصعود.

وکثيراً ما کنت أحدث نفسي بتأليف کتاب يتضمن الإشارات إلي بعض مواهب هذا الإمام، المقتدي لقوافل الإنسانية عبر القرون والأجيال والدهور، ولکن التفکير حول أهمية هذا العب ء الثقيل وخطورة الموقف وضآلة وضعف البيان وسعة البحث کلها کانت موانع تحول دون الخوض في هذه المعرکة العلمية الفکرية!

حتي إذا اقترب شهر رمضان المبارک من سنة 1386 ه وثارت في النفوس ثورة العبادة ونهضة الدين وانتبهت غرائز الإقبال علي فعل الخير واستعد إخواننا الشباب لإعادة مجلسهم السنوي في ليالي شهر رمضان وکان لي شرف الخدمة والتکلم في ذلک المجلس الذي کانت الحياة تنفجر من نواحيه، وينبعث النشاط من جوانبه، ففکرت حول اختيار حديث إسلامي متسلسل، لله فيه رضي وللمستمعين فيه أجر وثواب.

وأخيراً: تقرر أن نتحدث حول شخصية الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب، ونجعلها محور کلامنا، وندور في فلکها لما في ذلک من فوائد دينية، علمية، روحية، تربوية، تنفع العباد والبلاد.

فالتحدث عن أميرالمؤمنين يشمل التکلم عن الإسلام الصحيح في جميع مجالاته وخاصة في دور التکوين والتأسيس وعن مدي تأثير التربية الإسلامية في النفوس وتبلورها ببرکة تلک التعاليم وتکهرب النفوس بنفسية النبي (صلّي الله عليه وآله) تلک النفسية القوية بالمبدأ الأعلي.

نذکر في هذه الصحائف شيئاً عن حياة الإمام أميرالمؤمنين (عليه السلام) في ظل الإسلام وبعض مواقفه في المواطن الخطرة التي قل أن يثبت لها أحد، باستقبال الأخطار التي ارتعدت منها الفرائض وخفقت عندها القلوب خفقان الطير.

تبدأ تلک الحوادث المتسلسلة من أيام بعثة النبي (صلّي الله عليه وآله) والشروع بالدعوة الصامتة، والناطقة والسرية والعلنية وأدوار تلک الدعوة وتطورها في مکة، وتنتهي بهجرة النبي (صلّي الله عليه وآله) إلي المدينة.

وهنا يتطور الموقف إلي العمل بصورة أوسع وأصعب، ويبدأ دور الحروب والغزوات والمجازر التي أجج الکفار نارها، فارتوت الأرض من الدماء وانقلبت البوادي إلي مقابر.

نذکر مواقف الإمام (عليه السلام) في تلک المراحل المذهلة، واستعداده للتضحية في سبيل المبدأ بحيث ما کان يقف في طريقه شي ء يغير اتجاهه وانطباعه عن الدين.

وتنتهي فترة الجهاد بوفاة الرسول الأعظم، فيتطور الجهاد بنوع من السکوت والصبر أو الکلام بما يقتضيه الحال وما تفرضه المصلحة العامة للإسلام والمسلمين.

ينقضي ربع قرن والإمام جليس بيته، مسلوب الإمکانيات فاقداً قدرة النهوض بأعباء الخلافة وما هناک من لوازم ومتطلبات ومسؤولية أمام الله والتاريخ لأن المسؤولية تابعة للقدرة والقوة ونفوذ الکلمة وجوداً وعدماً.

وتنتهي تلک الفترة المؤلمة بمقتل عثمان وانتقال الخلافة إلي الإمام مرة ثانية بعد انتزاعها منه إثر واقعة الغدير.

فيبدأ دور المسؤولية وبيان مسؤوليات الحکم في القانون الإسلامي، وتطبيق أحکام الله في جميع المجالات، والاصطدام بالنزعات والاتجاهات المخالفة وما هناک من مشاکل وعراقيل ومواقف حرجة.

نسير مع التاريخ حيث سار الإمام حتي ينتهي البحث بشهادة الإمام (عليه السلام)، وما هناک من نماذج من العدالة الإلهية ونفسيات طيبة تتجلي في وصايا الإمام عندما أحس بخطر الوفاة.

نتمم هذا البحث بما تيسر من کلمات الإمام وتعاليمه القيمة وفضائله ومکارم أخلاقه.

وبذلک ينتهي الکتاب إن شاء الله.

ونضطر أن نقتطف من کل حادثة جملة ترتبط بالإمام، ومن کل غزوة جانباً يتعلق بالذات بموقف الإمام فيها، رعاية لأسلوب الکتاب.

وأنا علي يقين أن الإحاطة بجميع مزايا هذا الإمام خارج عن نطاق البشر وقدرة البيان، لأنه (عليه السلام) کالبحر لا يدرک طرفاه ولا يبلغ جانباه ولا يمکن الغوص إلي عمقه.

فالمتحدث عن شخصية الإمام يجد أمامه عوالم غير متناهية، يطير في فضائها وأرجائها، ومهما أوتي من حول وقوة فإن التعب يدرکه قبل أن يدرک مداها.

ولکن ما لا يدرک کله لا يترک کله، فلنذهب إلي المجلس المنعقد في الجامع المعروف بجامع الصافي مقابل صحن سيدنا أبي عبدالله الحسين (عليه السلام) لنستمع إلي ما يلي: