المقدمة











المقدمة



بسم اللَّه الرحمن الرحيم

الأوراق الذهبيّة الّتي بين يديک - عزيزي القارئ - غيض من فيض، وقطرة من المحيط اللّامتناهي لفضائل مولي المتّقين أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام.

إنّ الکلام حول شخصيّة کعليّ بن أبي طالب عليه السلام أمر سهلٌ وممتنع، فهو سهل لأنّنا حيثما نظرنا وجدنا الآفاق قد غصّت بفضائله، ورأينا آثار العدوّ والصديق قد ملئت بفضائله السامية ومناقبه العالية، وهو ممتنع لأنّ الشمس تخطف الأبصار، ولا يمکن النظر إلي ضوئها، ممتنع لأنّ القلم يتکسّر عندما يريد أن يخطّ حدود مقامه، ويرسم شموخه وتعاليه، واللسان يخرس، فيغدو المصقع ألکن إذا أراد تبيان فضائله ومناقبه..

کيف ومتي يمکن الحديث عن شخص کان أعظم أعاظم العالم، ووحيد الزمان الّذي عقم أن يلد مثله، ولم يرَ نظيره شرق العالم وغربه في غابر الزمان وحاضره إلاّ رسول اللَّه صلي الله عليه و آله.

وأيّ قلم يقوي علي أن يسطّر ما يتعلّق بشجاعة ورجولة ذلک الإمام الهمام الّذي ينبع الخير والعطاء من معين وجوده، وتضي ء في يده مشاعل البطولة والملاحم، کانت شجاعته تفوق شجاعة البشر، غير أنّها کانت مشوبة باللطف والرحمة والعاطفة والرأفة.

ماذا يمکن أن يقال في حقّ شجاع لا يُجاري، ومقدام کان يقاتل جنباً إلي جنب مع رسول اللَّه صلي الله عليه و آله، وقام بأعمال إعجازيّة.. ففي معرکة بدر کان عمره عشرين عاماً، ومع ذلک فقد قطع يد أحد فرسان قريش نصفين.. وفي اُحد أخذ سيف رسول اللَّه صلي الله عليه و آله ذا الفقار، فکان يفلق الهام مع وجود ما يحميها، وکان فتح خيبر علي يديه يوم خيبر، فقد قلع باب الحصن الحديد، وجعله جسراً يمرّ عليه جيش المسلمين.

ولم تکن قوّته وعظمته في ميدان الحرب وحسب، بل کانت عظمته في صفاءِ البصيرة، ونقاء السريرة، وطهارة الوجدان، وحرارة الإيمان، وعلوّ الهمّة، وعون المحروم، وتحرير المظلوم من قبضة الظالم الغاصب، فکان بطل الأبطال، والمدافع عن الحقّ والداعي إليه.

کان الإنسان الوحيد الّذي قال في قاتله: «انظروا اذا أنا مِتُّ مِن ضربته هذه فاضربوه ضربة بضربة، و لا تُمَثِّلوا بِالرَّجل، فإنّي سمعت رسول اللَّه صلي الله عليه و آله يقول: «إيّاکم و المثلة وَلو بالکلب العَقور».[1] .

وهو الإنسان الوحيد الّذي يهدي طعامه إلي قاتله!!

لقد رحل عليّ عليه السلام عن الدنيا شهيد عظمته وعدالته، وأغمض عينيه وشفتاه ترتّلان الصلاة، وقلبه قد اشتعل بحبّ اللَّه والشوق إلي لقائه.

لقد غادر الدنيا قبل أن يکمل إبلاغ رسالته للعالم.. لقد عاش وقضي کما يعيش الأنبياء في بلدان ليست ببلادهم، ويأتون اُناساً ليسوا لهم بأنصار، وغير مؤهّلين لمجي ء اُولئک الأنبياء، ويحيون في زمان غير زمانهم، لکنّ للَّه حکمته، فهو الأعلم بمصالح البشر، وهو العليم الحکيم.

قال رسول اللَّه صلي الله عليه و آله في شأنه: «اُعطيت في عليّ تسعاً؛ ثلاثاً في الدنيا، وثلاثاً في الآخرة، واثنتين أرجوهما له، وواحدة أخافها عليه.

فأمّا الثلاثة الّتي في الدنيا: فساتر عورتي، والقائم بأمر أهلي، ووصيّي فيهم.

وأمّا الثلاثة الّتي في الآخرة: فإنّي اُعطي لواء الحمد يوم القيامة فأدفعه إليه، فيحمله عنّي، وأعتمد عليه في مقام الشفاعة، ويعينني علي حمل مفاتيح الجنّة.

وأمّا اللتان أرجوهما له: فإنّه لا يرجع من بعدي ضالّاً ولا کافراً.

وأمّا الّتي أخافها عليه فغدر قريش به من بعدي».[2] .

وقال رسول اللَّه صلي الله عليه و آله في حقّه: «لو أنّ الرياض أقلام، والبحر مداد، والجنّ حسّاب، والإنس کُتّاب، ما أحصوا فضائل عليّ بن أبي طالب».[3] .

فيا أيّتها الدنيا، ويا أيّها النّاس، ويا أيّها التاريخ، عليّ هو عليّ، سواء عرفتموه أم جهلتموه، فهو شهيد المحراب، وهو أبو الشهداء وعظيمهم، وعلي حدّ تعبير جورج جرداق المسيحي فإنّه صوت العدالة الإنسانيّة، وهو الشخصيّة الإنسانيّة الخالدة.

ليس بيسير الکلام في عليّ کهذا، والغوص في أعماق بحر فضائله ومناقبه، ولکن ما لا يدرک کلّه لا يترک کلّه، فإنّي أرجو أن أکون قد اقتطفت باقات من زهور هذه الجنائن، وذکرت غيضاً من فيض حينما جمعت هذه المجموعة من کتب الفريقين (سنّة وشيعة) لاُهديها إلي القرّاء الأعزّاء، ولتکون ذخراً يوم الجزاء، واللَّه من وراء القصد.

يشتمل هذا الکتاب علي مائة فصل، ويحتوي کلّ فصل علي مفردات وفروع عديدة، وهو يبحث في مائة بُعد من أبعاد حياة مولي الموحّدين أمير المؤمنين عليّ عليه السلام، وکما يشتمل علي تکملة في أولاده وأصحابه الکرام، وخاتمة تتضمّن کلمات لأمير المؤمنين عليه السلام في مائة باب مختلف.

وممّا لا ريب فيه أنّ ليس بمقدوري ولا مقدور أي کاتب أن يبحث بعمق، ويستنتج ويفصّل مکارم ذلک الإمام الهمام ومناقبه، ولکنّي اُشير إلي زاوية من مناقبه عليه السلام من منظار الآخرين، وکما يرونها:

قال ابن حجر: روي عن أحمد بن حنبل أنّه قال: «لم يُروَ لأحدٍ من الصحابة من الفضائل ما روي لعليّ عليه السلام»، وکذا قال النسائي وغير واحد.[4] .

وبلفظ آخر عن إسماعيل بن إسحاق القاضي وأبي عليّ النيشابوري: لم يُرو في فضائل أحدٍ من الصحابة بالأسانيد الحسان ما روي في فضائل عليّ بن أبي طالب عليه السلام».[5] .

وعن ابن عبّاس قال: قال رسول اللَّه صلي الله عليه و آله: «لو أنّ الغياض أقلام، والبحار مداد، والجنّ حُسّاب، والإنسُ کُتّاب، ما قدروا علي إحصاء فضائل عليّ بن أبي طالب».[6] .

وبلفظ آخر عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عبّاس رضي الله عنه: أسألک عن اختلاف النّاس في عليّ عليه السلام؟ قال: «يابن جبير، تسألني عن رجل کانت له ثلاثة آلاف منقبة في ليلة واحدة، وهي ليلة القربة في قليب بدر، سلّم عليه ثلاثة آلاف من الملائکة من عند ربّهم، وتسألني عن وصيّ رسول اللَّه صلي الله عليه و آله وصاحب حوضه وصاحب لوائه في المحشر؟!

والّذي نفس عبداللَّه بن عبّاس بيده، لو کانت البحار مداداً، وأشجارها أقلاماً، وأهلها کُتّاباً فکتبوا مناقب عليّ بن أبي طالب وفضائله ما أحصوها».[7] .

وقال أخطب خوارزم: ذکر فضائل أمير المؤمنين أبي الحسن عليّ بن أبي طالب عليه السلام، بل ذکر شي ء منها، أو ذکر جميعها يقصر عنه باع الإحصاء، بل ذکر أکثرها يضيق عنه نطاق الاستقصاء.[8] .

وقال ابن أبي الحديد في (مقدّمة شرحه لنهج البلاغة): «فأما فضائله عليه السلام فإنّها قد بلغت من العِظم والجلالة والانتشار والاشتهار مبلغاً يسمج معه التعرّض لذکرها، والتصدّي لتفصيلها،... وما أقول في رجل أقَرّ له أعداؤه وخصومه بالفضل، ولم يمکنهم جَحد مناقبه، ولا کتمان فضائله، فقد علمتَ أنّه استولي بنو اُميّة علي سلطان الإسلام في شرق الأرض وغربها، واجتهدوا بکلّ حيلة في إطفاء نوره والتحريض عليه، ووضع المعايب والمثالب له، ولعنوه علي جميع المنابر، وتوعّدوا مادحيه، بل حبسوهم وقتلوهم، ومنعوا من رواية حديث يتضمّن له فضيلة، أو يرفع له ذکراً، حتّي حظروا أن يسمّي أحدٌ باسمه، فما زاده ذلک إلّا رفعةً وسُمُوّاً، وکان کالمسک کلّما سُتِر انتشر عَرْفُه، وکلّما کُتِم تضوَّع نشره، وکالشمس لا تُستَر بالراح، وکضوء النهار إن حُجبت عنه عين واحدة أدرکته عيون کثيرة. وما أقول في رجل تُعزي إليه کلُّ فضيلة، وتنتهي إليه کلُّ فرقة، وتتجاذبه کلُّ طائفة، فهو رئيس الفضائل وينبوعها وأبو عُذرها، وسابق مضمارها، ومجلِّي حلبتها، کلُّ من بزغ فيها بعده فمنه أخذ، وله اقتفي، وعلي مثاله احتذي، وساق الکلام إلي أن قال:

وما أقول في رجل تحبّه أهلُ الذمّة علي تکذيبهم بالنبوّة، وتعظّمه الفلاسفة علي معاندتهم لأهل الملّة، وتصوّر ملوک الفرنج والروم صورته في بِيعها وبيوت عباداتها حاملاً سيفَه، مشمّراً لحربه، وتصوّر ملوک الترک والديلم صورته علي أسيافها! کان علي سيف عضد الدولة بن بُويه، وسيف أبيه رکن الدولة صورتُه، وکان علي سيف إلب أرسلان وابنه ملکشاه صورته، کأنّهم يتفاءلون به النصر والظفر.

وما أقول في رجل أحبّ کلُّ واحدٍ أن يتکثّر به، وودّ کلّ أحدٍ أن يتجمّل ويتحسّن بالانتساب إليه حتّي الفتوّة الّتي أحسن ما قيل في حدّها: ألّا تستحسن من نفسک ما تستقبحه من غيرک، فإنّ أربابها نسبوا أنفسهم إليه، وصنّفوا في ذلک کتباً، وجعلوا لذلک إسناداً أنهوه إليه، وقصروه عليه، وسمَّوه سيّد الفتيان، وعضّدوا مذهبهم إليه بالبيت المشهور المرويّ، أنّه سُمع من السماء يوم اُحد:


لا سيفَ إلّا ذو الفقار
ولا فتيً إلّا عليّ


وما أقول في رجل أبوه أبو طالب سيّد البطحاء، وشيخ قريش، ورئيس مکّة، قالوا: قلّ أن يسود فقير، وساد أبو طالب وهو فقير لا مال له، وکانت قريش تسمّيه الشيخ».[9] .

وقال الحسن البصري: «کان عليّ عليه السلام سهماً صائباً من مرامي اللَّه علي عدوّه، وربّانيّ هذه الاُمّة، وذا فضلها وسابقتها، وذا قرابتها من رسول اللَّه صلي الله عليه و آله، لم يکن بالنئومة عن أمر اللَّه، ولا بالملومة في دين اللَّه، ولا بالسروقة لمال اللَّه، أعطي القرآن عزائمه، ففاز منه برياض مونقة، وأعلام مشرقة، وذاک عليّ بن أبي طالب».[10] .

وفيه أيضاً عن ابن قتيبة في (المعارف): «ما صارع أحداً قطّ إلّا صرعه، وهو الّذي قلع باب خيبر، واجتمع عليه عصبة من النّاس ليقلبوه فلم يقلبوه، وهو الّذي اقتلع هُبَلَ من أعلي الکعبة، وکان عظيماً جدّاً وألقاه إلي الأرض، وهو الّذي اقتلع الصخرة العظيمة في أيّام خلافته بيده بعد عجز الجيش کلّه عنها، وانبطّ الماء من تحتها».[11] .

وقال الدکتور صبحي الصالح في مقدّمة نهج البلاغة: «ما من مسلم يجهل موضع عليّ عليه السلام من ابن عمّه الرسول الکريم بالقرابة القريبة، والمنزلة الخصيصة؛ وضعه في حجره وهو ولد، يضمّه إلي صدره، ويکنفه في فراشه، ويمسّه جسده، ويشمّه عرفه، ولقد کان رسول اللَّه صلي الله عليه و آله يجاور في کلّ سنة بحراء، فيراه عليّ عليه السلام ولا يراه سواه، ولم يجمع بيت واحد في الإسلام غير الرسول وخديجة اُمّ المؤمنين، وکان عليّ ثالثهما، يري نور الوحي والرسالة، ويشمّ ريح النبوّة».[12] .

هذا نموذج من کلمات محقّقي أهل السنّة وعلمائهم الذين اعترفوا بحقيقة الأمر من دون تعصّب أو انحياز، وأظهروا ما تيقّنوا منه، وأفصحوا عمّا أکنّوه في قلوبهم من احترام لمولي الموحّدين أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام، وسوف نتطرّق في هذا الکتاب عبر فصوله المختلفة إلي نماذج أکثر في هذا الصدد، وسنبحث جوانب حياة هذا الإمام العظيم والإنسان الکامل مع اعترافنا بعجزنا وقصور باعنا عن الإحاطة بمثل ذلک.

نسأل اللَّه تعالي أن يوفّقنا للسير في هذا السبيل، ونحمده أن منّ علينا باتّباع أمير المؤمنين عليه السلام، وجعلنا من المفتخرين بذلک.







  1. نهج البلاغه من الکتاب 47.
  2. کشف الغمّة - باب المناقب 526:1.
  3. ينابيع المودّة للقندوزي الحنفي: 241.
  4. تهذيب التهذيب 298:7، ح 566.
  5. مستدرک الحاکم 107:3، تاريخ دمشق 63:3.
  6. مناقب للخوارزمي: 2، کفاية الطالب: 251، فرائد السمطين 16:1، لسان الميزان 62:5، ينابيع المودّة: 121 و122 و241.
  7. ينابيع المودّة: 122، إحقاق الحقّ 101:4.
  8. المناقب للخوارزمي: 1.
  9. شرح ابن أبي الحديد 16:1 و 28.
  10. مقدّمة شرح ابن أبي الحديد: 5، طبع دار إحياء التراث الکتب العربيّة - بيروت 1965م بقلم الکاتب المصري محمّد أبو الفضل إبراهيم.
  11. شرح ابن أبي الحديد 21:1.
  12. نهج البلاغة، تحقيق الدکتور صبحي الصالح: 7.