الايرادات الواردة الموهومة علي حديث الغدير











الايرادات الواردة الموهومة علي حديث الغدير



و قد ذکر بعض المخالفين من العامّة ايرادات حول حديث الغدير و انکار فضيلة عليّ عليه السلام في هذه القضية، باشکالات موهومة، فنذکرها مع جوابها:

الإشکال الأوّل و جوابها:

ما تمحّله البعض، کما في (النهاية) لابن الأثير، فقد ذکر أنّه قيل سبب صدور الحديث عن النبيّ صلي الله عليه و آله: أنّ اُسامة قال لعليّ عليه السلام: ليس مولاي، إنّما مولاي - أي معتقي - رسول اللَّه، فقال رسول اللَّه صلي الله عليه و آله: «مَن کنت مولاه - أي معتقه - فعليّ مولاه - أي معتقه -».[1] فالحديث - علي تعريفه - ورد في عتق عليّ عليه السلام لاُسامة، لا أنّه مولي المؤمنين.

أقول: إذا کان اُسامة بن زيد قد أعتقه النبيّ صلي الله عليه و آله فلا معني لأن يکون أعتقه عليّ عليه السلام، ولو فرض فلا يناسبه هذا الاهتمام العظيم، علي أنّ اُسامة لم يعتقه النبيّ صلي الله عليه و آله وإنّما أعتق أباه زيد بن حارثة، فإطلاق أنّه مولي رسول اللَّه صلي الله عليه و آله عليه إنّما هو باعتبار انجرار الولاء إليه من أبيه، ولهذا قال بعضهم: إنّ القائل لعليّ عليه السلام: لست مولاي، وإنّما مولاي رسول اللَّه صلي الله عليه و آله، هو زيد بن حارثة، فقال رسول اللَّه صلي الله عليه و آله: «مَن کنت مولاه فعليّ مولاه» ردّاً لقول زيد.

وهذا الإشکال أثاره إسحاق بن حمّاد بن زيد بحضور المأمون، لمّا جمع العلماء ليحتجّ عليهم في فضل عليّ عليه السلام فيما ذکره صاحب العقد الفريد[2] فقال إسحاق للمأمون: ذکروا أنّ الحديث إنّما کان بسبب زيد بن حارثة لشي ء جري بينه وبين عليّ، وأنکر ولاء عليّ، فقال رسول اللَّه صلي الله عليه و آله: «مَن کنت مولاه فعليّ مولاه، اللّهمّ والِ مَن والاه، وعادِ مَن عاداه».

فردّ عليه المأمون بأنّ ذلک کان في حجّة الوداع، وزيد بن حارثة قتل قبل ذلک، وکأنّ مَن ذکر هذا العذر التفت إلي مثل ما ردّ به المأمون، فغيّرالعذر، وقال: إنّه قال ذلک في شأن اُسامة بن زيد.

وسواء أقيل إنّ ذلک في شأن زيد أو ابنه اُسامة، فزيد إنّما هو مولي عتاقه وابنه اُسامة کذلک بجرّ الولاء، وعليّ عليه السلام لم يعتقه، وإنّما أعتقه النبيّ صلي الله عليه و آله، فکيف يکون زيد أو ابنه مولاه، وهو لم يعتقه؟![3] .

الإشکال الثاني و جوابها:

ما تمحّله ابن کثير في تاريخه و صاحب السيرة الحلبيّة[4] من صرف ما وقع يوم الغدير إلي ما وقع عند رجوع عليّ عليه السلام من اليمن، فقد قال ابن کثير في تاريخه: فصل في الحديث الدالّ علي أنّه صلي الله عليه و آله خطب بمکان بين مکّة والمدينة مرجعه من حجّة الوداع قريب من الجحفة، يقال له: غدير خمّ، فبيّن فيها فضل عليّ بن أبي طالب عليه السلام وبراءة عرضه ممّا کان تکلّم فيه بعض من کان معه بأرض اليمن بسبب ما کان صدر إليهم من المعدلة الّتي ظنّها بعضهم جوراً وتضييقاً وبخلاً، والصواب کان معه عليه السلام في ذلک، ولهذا لمّا فرغ صلي الله عليه و آله من بيان المناسک ورجع إلي المدينة بين ذلک في أثناء الطريق، فخطب خطبة عظيمة في اليوم الثامن عشر من ذي الحجّة عامئذٍ، وکان يوم الأحد بغدير خمّ تحت شجرة هناک، وذکر من فضل عليّ عليه السلام وأمانته وعدله وقربه إليه ما أزاح به ما کان في نفوس کثير من النّاس منه. (إلي أن قال:) ونحن نورد عين ما روي في ذلک مع إعلامنا أنّه لا حظّ للشيعة فيه ولا متمسّک لهم ولا دليل.

أقول: لکنّه لم يأتِ ابن کثير بدليل يثبت ما قال، بل قدم أوّلاً روايات هذه الواقعة، فنقل عن محمّد بن إسحاق، بسنده عن يزيد بن طلحة، قال: لمّا أقبل عليّ عليه السلام من اليمن ليلقي رسول اللَّه صلي الله عليه و آله بمکّة، تعجّل إلي رسول اللَّه صلي الله عليه و آله واستخلف علي جنده الذين معه رجلاً من أصحابه، فعمد ذلک الرجل فکسا کلّ رجل من القوم حلّة من البز الّذي کان مع عليّ - وهو الّذي أخذه من أهل نجران - فلمّا دنا جيشه خرج ليلقاهم فإذا عليهم الحلل، قال: «ويلک ما هذا؟»، قال: کسوت القوم ليتجمّلوا به إذا قدموا في النّاس، قال: «ويلک انزع قبل أن يُنتهي به إلي رسول اللَّه صلي الله عليه و آله»، فانتزع الحلل من النّاس فردّها في البزّ، وأظهر الجيش شکواهم لما صنع بهم.

ثمّ حکي عن ابن إسحاق أنّه روي بسنده عن أبي سعيد الخدري، قال: اشتکي النّاس عليّاً، فقام رسول للَّه فينا خطيباً فسمعته يقول: «أيّها النّاس، لا تشکوا عليّاً، فواللَّه! إنّه لأخشن في ذات اللَّه، أو في سبيل اللَّه، من أن يشتکي».

ثمّ حکي عن أحمد أنّه روي بسنده عن بريدة، قال: غزوت مع عليّ عليه السلام، اليمن فرأيت منه جفوة، فلمّا قدمت علي رسول اللَّه صلي الله عليه و آله ذکرت عليّاً فتنقّصته، فرأيت وجه رسول اللَّه صلي الله عليه و آله يتغيّر، فقال: «يا بريدة، ألست أوْلي بالمؤمنين من أنفسهم؟»، قلت: بلي يا رسول اللَّه، قال: «مَن کنت مولاه فعليّ مولاه».

قال ابن کثير: وکذا رواه النسائي، بإسناده، نحوه. ثمّ قال: وهذا إسناد جيّد قويّ، رجاله کلّهم ثقات، إلي آخره... ثمّ أتبع ابن کثير ذلک بروايات الغدير، ليجعلهما بزعمه واقعة واحدة، وأنّ ما وقع يوم الغدير هو تدارک لما وقع في سفر اليمن، وأنّ النبيّ صلي الله عليه و آله بيّن يوم الغدير فضل عليّ عليه السلام وبراءة ساحته ممّا تکلّم فيه أهل ذلک الجيش.

أقول في ردّ کلامه، مع أنّهما واقعتان، لا دخل لإحداهما في الاُخري، لأنّ النبيّ صلي الله عليه و آله لمّا شکا أهل الجيش من عليّ عليه السلام وکانت شکايتهم منه بمکّة في أيّام الحجّ، غضب لذلک وبيّن لهم أنّ شکايتهم منه في غير محلّها، وقام فيها خطيباً، وقال: «لا تشکوا عليّاً، فواللَّه إنّه لأخشن في ذات اللَّه من أن يشتکي». وقال لهم يومئذٍ: «ألست أوْلي بالمؤمنين من أنفسهم؟»، قالوا: بلي، قال: «مَن کنت مولاه فعليّ مولاه». واکتفي بذلک، وهو کاف في ردعهم وبيان فضل عليّ عليه السلام، وأنّ ما فعله عليه السلام هو الصواب، هذه واقعة الاولي، و أمّا حديث الغدير واقعة اخري و کانت في الثامن عشر من ذي الحجّة بعد انقضاء الحجّ ورجوعه إلي المدينة، ولو کان ما وقع يوم الغدير هو لمجرّد ردعهم وبيان خطئهم في شکايتهم من عليّ عليه السلام لقاله بمکّة، واکتفي به ولم يؤخّره إلي رجوعه.

وزعم صاحب السيرة الحلبيّة أنّه صلي الله عليه و آله قال ذلک بمکّة لبريدة وحده، ثمّ لمّا وصل إلي غدير خمّ أحبّ أن يقوله للصحابة عموماً[5] وهذا يکذّبه ما سمعته من قول أبي سعيد الخدري أحد الصحابة: فقام صلي الله عليه و آله خطيباً - أي قام في الصحابة عموماً - وأعلن ذلک في خطبته علي المنبر وعلي رؤوس الأشهاد.

وقوله: ذلک بمکّة أعمّ وأشمل لوجود الحاجّ کلّهم، ومنهم أهل مکّة وما حولها الذين لم يکونوا معه في غدير خمّ، فلو کان الغرض تبليغ عموم الصحابة ما وقع في مسألة اليمن لما أخّره إلي غدير خمّ، ولکنّه لمّا نزل عليه قوله تعالي: «يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْکَ مِن رَبِّکَ وَإِن لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ»، وهو في الطريق بلّغهم إيّاه في غدير خمّ حين نزلت عليه الآية، فهما واقعتان لا دخل لإحداهما في الاُخري، وخلط إحداهما بالاُخري نوع من الخلط والخبط والغمط.

مع أنّک عرفت أنّ في روايات الغدير أنّه وقف حتّي لحقه من بعده، وأمر بردّ مَن کان تقدّم، وهذا يدلّ علي أنّه لأمرٍ حدث في ذلک المکان، وهو نزول الوحي عليه، ولو کان لتبليغ عموم الصحابة لم يؤخّره إلي غدير خمّ، بل کان يقوله في بعض المنازل قبله أو في مکّة، فأمره بالنزول وهو في أثناء السير وانتظار مَن تخلّف وأمره بردّ من تقدّم، يدلّ علي أنّه لأمرٍ حدث في ذلک الوقت، مع أنّه قال هذا الکلام عقيب الأمر بالتمسّک بالکتاب والعترة، وبيان أنّهما لن يفترقا حتّي يردا عليه الحوض الّذي هو تمهيد لما بعده، فدلّ علي أنّه لأمرٍ أهمّ من مسألة اليمن.

علي أنّنا إنّما نستدلّ بقوله: «مَن کنت مولاه فعليّ مولاه»، عقيب قوله: «ألست أوْلي بالمؤمنين من أنفسهم»، سواء أقال ذلک بمکّة أم في غدير خمّ، وسواء أقاله عقيب شکايتهم من عليّ أم لا فإنّه دلّ علي أنّ عليّاً عليه السلام أوْلي بالمؤمنين من أنفسهم، والإمامة والخلافة لا تزيد علي ذلک کما مرّ.[6] .

الإشکال الثالث و جوابها:

في دلالة لفظة «المولي» قال المولي لا تدلّ علي الولاية العامّة، بل تدلّ علي النصرة و المودّة: فاليک الايراد مع جوابه: إنّ قوله صلي الله عليه و آله: «مَن کنت مولاه فعليّ مولاه»، قال العلماء: لفظة المولي مستعملة بإزاء معانٍ متعدّدة، وقد ورد القرآن العظيم بها: فتارة تکون بمعني أوْلي، قال اللَّه تعالي في حقّ المنافقين: «مَأْوَاکُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلکُمْ»[7] معناه: أوْلي بکم. وتارة بمعني الناصر، قال اللَّه تعالي: «ذلِکَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَي الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْکَافِرِينَ لَا مَوْلَي لَهُمْ».[8] وتارة بمعني الوارث، قال اللَّه تعالي: «وَلِکُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَکَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ»[9] معناه: وارثاً. وتارة بمعني العصبة، قال اللَّه تعالي: «وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي»[10] معناه: عصبتي. وتارة بمعني الصديق، قال اللَّه تعالي: «يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْليً عَن مَوْليً شَيْئاً»[11] معناه: حميم عن حميم، وصديق عن صديق. وتارة بمعني السيّد والمعتق، وهو ظاهر.

وإن کانت واردة لهذه المعاني فيکون معني الحديث: مَن کنت ناصره أو حميمه أو صديقه فإنّ عليّاً يکون کذلک.[12] .

امّا الجواب عنه: فنذکر - قبل الجواب عن الايراد - توضيحاً في معني الولي و المولي، ثم نجيب علي اصل الاشکال:

ففي (مفردات راغب): الولاء والتوالي: أن يحصل شيئان فصاعداً حصولاً ليس بينهما ما ليس منهما، ويستعار ذلک للقرب من حيث المکان، ومن حيث النسبة، ومن حيث الدين، ومن حيث الصداقة والنصرة والاعتقاد. والولاية: النصرة، والولاية: تولّي الأمر. وقيل: الولاية والولاية نحو الدَّلالة والدِّلالة، وحقيقته تولّي الأمر. والولي والمولي يستعملان في ذلک، کلّ واحد منهما يقال في معني الفاعل، وفي معني المفعول. يقال للمؤمن: هو وليّ اللَّه عزّ وجلّ ولم يرد مولاه. يقال: اللَّه وليّ المؤمنين ومولاهم، إلي آخر کلامه.[13] .

وفي (النهاية) لابن الأثير: في أسماء اللَّه الوليّ هو الناصر، وقيل: المتولّي لاُمور العالم والخلائق القائم بها، ومن أسمائه عزّ وجلّ: الوالي، وهو مالک الأشياء جميعها، المتصرّف فيها، وکأنّ الولاية تشعر بالتدبير والقدرة والفعل، وما لم يجتمع ذلک فيها لم ينطلق عليه اسم الولي، وقد تکرّر ذکر المولي في الحديث، وهو اسم يقع علي جماعة کثيرة، فهو الربّ والمالک والسيّد والمنعم والمعتِق والناصر والمحبّ والتابع والجارّ وابن العمّ والحليف والعقيد والصهر والعبد والمعتَق والمنعَم عليه، وأکثرها قد جاءت في الحديث - إلي أن قال: - ومنه الحديث: «مَن کنت مولاه فعليّ مولاه»، يحمل علي أکثر الأسماء المذکورة.

قال الشافعي: يعني بذلک ولاء الإسلام، کقوله تعالي: «ذلِکَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَي الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْکَافِرِينَ لَا مَوْلَي لَهُمْ»[14] وقول عمر لعليّ عليه السلام: أصبحت مولي کلّ مؤمن، أي وليّ کلّ مؤمن.[15] .

وفي (الصحاح): الولي: القرب والدنوّ. يقال: تباعدنا بعد ولي، وکلّ ممّا يليک أي ممّا يقاربک... وأوليته الشي ء فوليه، وکذلک ولي الوالي البلد، وولي الرجل البيع ولايةً فيهما... والمولي: المُعتَق والمُعتِق وابن العمّ والناصر والجار، والوليّ: الصهر، وکلّ من ولي أمراً واحداً فهو وليّه.[16] .

وفي (لسان العرب): في أسماء اللَّه تعالي: (الولي) هو الناصر، وقيل: المتولّي لاُمور العالم والخلائق القائم بها، ومن أسمائه: الوالي، وهو مالک الأشياء جميعها المتصرّف فيها - إلي أن قال: - والوليّ: وليّ اليتيم الّذي يلي أمره ويقوم بکفايته، ووليّ المرأة: الّذي يلي عقد النکاح عليها، ولا يدعها تستبدّ بعقد النکاح دونه. وفي الحديث: «أيما امرأة نکحت بغير إذن مولاها فنکاحها باطل». وفي رواية: «وليّها»، أي متولّي أمرها. وفي الحديث: «أسألک غناي وغني مولاي». إلي أن قال: قال الفرّاء: الموالي: ورثة الرجل وبنو عمّه، قال: والوليّ والمولي واحد في کلام العرب.

قال أبو منصور: ومن هذا قول سيّدنا رسول اللَّه: «أيّما امرأة نکحت بغير إذن مولاها» الحديث، ورواه بعضهم: «بغير إذن وليّها»؛ لأنّهما بمعني واحد، إلي آخره.[17] .

وفي أقرب الموارد: ولي الشي ء وعليه وِلاية وَوَلاية: ملک أمره وقام به.[18] .

وفي معجم مقاييس اللغة: ولي: الواو واللّام والياء، أصل صحيح يدلّ علي القرب، من ذلک الولي: القرب، يقال: تباعد بعد وليٍّ أي قرب، وجلس ممّا يليني، أي يقاربني.

والوليّ: المطر يجي ء بعد الوسميّ، سُمّي بذلک لأنّه يلي الوسميّ، ومن الباب المولي: المُعتَق والمُعتِق والصاحب والحليف وابن العمّ والناصر والجار، کلّ هؤلاء من الولي وهو القرب، وکلّ من ولي أمراً آخر فهو وليّه، وفلان أوْلي بکذا: أي أحري به وأجدر، إلي أن قال: والباب کلّه راجع إلي القرب.[19] .

فبعد توضيح معني الولاية والولي والمولي في اللغة أقول في الجواب عن الاشکال الثالث: بأنّ حقيقة کلمة المولي: من يلي أمراً ويقوم به ويتقلّده، وما عدّوه من المعاني له، فإنّما هي مصاديق حقيقتها، وقد اُطلقت عليها من باب إطلاق اللفظ الموضوع لحقيقة علي مصاديقها، کإطلاق لفظ الرجل علي زيد وعمر ومحمّد وعليّ وأحمد، فيطلق لفظ المولي علي الربّ؛ لأنّه القائم بأمر المربوبين، وعلي السيّد؛ لأنّه القائم بأمر العبد، وعلي العبد؛ لأنّه يقوم بحاجة السيّد، وعلي الجارّ وابن العمّ والحليف والصهر؛ لأنّهم يقومون بنصرة صاحبهم فيما يحتاجون إلي نصرتهم، وهکذا فاللفظ مشترک معنوي، يعني وضع لفظ المولي لمن يلي أمراً ويقوم به، ولهذا المعني مصاديق متعدّدة حتّي عدّ العلّامة الأميني رحمه الله في الغدير سبعة وعشرين مصداقاً له، کما مرّ بعضها آنفاً في تعريف الولي من النهاية لابن الأثير.[20] .

وعلي هذا فمعني قوله صلي الله عليه و آله: «مَن کنت مولاه فعليّ مولاه» - سواء کان بلفظ المولي، أو الوليّ - مَن کنت متقلّداً لأمره، وقائماً به فعليّ متقلّد أمره والقائم به، وهذا صريح في زعامة الاُمّة وإمامتها وولايتها، فکأنّ رسول اللَّه صلي الله عليه و آله قال: «زعامة الاُمّة وولايتهم وسلطنتهم والقيام بأمرهم لعليّ عليه السلام، فثبت لعليّ ما ثبت لرسول اللَّه صلي الله عليه و آله من الولاية العامّة والزعامة التامّة.

وقد ورد في حديث أهل البيت عليهم السلام ما يصرّح بهذا المعني، منها ما رواه الشيخ الصدوق بسنده عن أبي إسحاق، قال: قلت لعليّ بن الحسين عليه السلام: ما معني قول النبيّ صلي الله عليه و آله: «مَن کنت مولاه فعليّ مولاه»؟ قال: «أخبرهم أنّه الإمام بعده».[21] .

وفيه أيضاً عن عليّ بن هاشم بن البريد، عن أبيه، قال: سئل زيد بن عليّ عن قول رسول اللَّه صلي الله عليه و آله: «مَن کنت مولاه فعليّ مولاه»، قال: «نصبه علماً ليعلم به حزب اللَّه عند الفرقة».[22] .

وتوضيحاً للبحث نذکر هنا ما قاله استاذنا الفقيه الخبير الورع الحاج الشيخ آية اللَّه حسين عليّ المنتظري (دامت برکاته) في تفسير الولاية وبيان معناها بعد ذکر کلمات أهل اللغة. قال: إنّ وليّ اليتيم، هو الّذي يلي أمره، ووليّ المرأة من يلي عقد النکاح عليها، وعن النبيّ صلي الله عليه و آله: «أيّما امرأة نکحت بغير إذن وليّها فنکاحها باطل».[23] .

ويقال: السلطان وليّ الأمر، ولمن يلي تجهيز الميّت: وليّ الميّت، وعن المبرّد في صفات اللَّه تعالي: الوليّ هو الأوّل والأحقّ، وکذلک المولي، فيظهر منه کون العبارات الثلاث بمعني واحد، ومرّ علي الفرّاء أنّ الوليّ والمولي واحد في کلام العرب، وعن (المفردات): أنّ حقيقته تولّي الأمر، والوليّ والمولي يستعملان في ذلک، وعن ابن الأثير: أنّها تشعر بالتدبير والقدرة والفعل.

فيظهر من الجميع أنّ التصرّف مأخوذ في مفهوم الکلمة، فما في بعض الکلمات من تفسير الولاية بخصوص المحبّة ممّا لا يمکن المساعدة عليه، ولو اُريد بيان مجرّد المحبّة الّتي هي أمر قلبي لاستعمل لفظ الحبّ والودّ، وفي قبالهما البغض والکراهة، وأمّا الولاية فهي تفيد التصدّي لشأن من شؤون الغير، وفي قبالها العداوة وهي التجاوز والتعدّي علي الغير، فالتصرّف بمصلحة الغير ولاية، وبضرره عداوة، وکلاهما من مقولة الفعل.

وربّما تستعمل الولاية في التصرّف في شؤون الغير مطلقاً، فتأمّل في قوله تعالي: «وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَولِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْکَرِ»[24] وقوله تعالي: «اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَي النُّورِ وَالَّذِينَ کَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَي الظُّلُمَاتِ».[25] فحيثما ذکر لفظ الولاية ذکر بعده سنخ الفعل والتصرّف الناشئ منها من الأمر والنهي المناسب لها، فيظهر بذلک کون التصرّف مأخوذاً في مفهومها، وأصل الکلمة کما قالوا: هو الولي بمعني القرب، والقريب من غيره لا يخلو من نحو تأثير وتصرّف فيه، کما أنّ المتصرّف في اُمور الغير لا بدّ أن يقع قريباً منه وإلي جانبه حتّي يتمکّن من التصدّي لاُموره والتولّي لمصالحه، فالإنسان قد لا يقدر منفرداً علي رفع حاجاته فيحتاج إلي مَن يقع إلي جانبه، وبهذا يخرج عن الانفراد، ويصبح ذا ولي يقع في تلوه فيجبر نقصه ويسدّ خلله.

والوليّ والمولي يطلقان علي کلّ من الوالي والمولّي عليه، لاحتياج کلّ منهما إلي الآخر، وتصدّي کلّ منهما شأناً من شؤون الآخر، ولوقوع کلّ منهما في تلو الآخر، وفي القرب منه، وإذا أردنا بيان أنّ زيداً ليس منفرداً، بل له من يتصدّي لبعض اُموره فيصحّ أن يقال: عمرو في تلوه، کما يصحّ أن يقال: هو في تلو عمرو، ويشبه رجوع التلو والوليّ إلي أصل واحد، واُبدلت الواو تاءاً، و صار تلواً ونظائره کثيرة في کلام العرب.

وبهذه العناية أيضاً يقال: «اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا»، ويقال أيضاً: «المؤمن وليّ اللَّه»، بل الظاهر أنّ المعاني الکثيرة الّتي ذکروها للمولي کلّها ترجع إلي أمر واحد، وکلّها مصاديق لمفهوم فارد أيضاً، وهو کون الشخص واقعاً إلي جانب الآخر، ليتصدّي بعض شؤونه ويسدّ بعض خلله.

وبما ذکرنا يظهر أنّ قول النبيّ صلي الله عليه و آله في الخبر المتواتر: «مَن کنت مولاه فعليّ مولاه»، سواء أکان بلفظ المولي أو الوليّ فمراده صلي الله عليه و آله أن يثبت لعليّ عليه السلام مثل ما کان لنفسه من ولاية التصرّف والأولويّة المذکورة في الآية الشريفة، ولذا صدّره بقوله: «أتعلمون أنّي أوْلي بالمؤمنين من أنفسهم؟» ثلاث مرّات، وظاهر الکلام أنّ المولي في الجملتين بمعني واحد، وهو الأولويّة المذکورة في الآية.

ولذا لو کان بصدد بيان المحبّة لم يحتج إلي بيان أولويّة نفسه، بل کان ذکرها لغواً، کيف ولم يکن بيان المحبّة القلبيّة أمراً مهمّاً يوجب إيقاف مائة ألف وعشرين ألف رجلاً في المفازة في وسط النهار في الهاجرة الشديدة لبيانها وإعلامها؟! ثمّ استدلّ لکلامه و أيّده بما رواه الترمذي[26] قوله صلي الله عليه و آله عن عمران بن حصين: «ما تريدون من عليّ؟ إنّ عليّاً منّي وأنا منه، وهو وليّ کلّ مؤمن بعدي»؛ إذ قوله: «بعدي» ينفي احتمال کون الکلمة بمعني المحبّة القلبيّة، ويعيّن کونها بمعني الأولويّة والإمامة کما هو واضح.[27] .







  1. النهاية 228:5.
  2. راجع: العقد الفريد 99:5.
  3. راجع: أعيان الشيعة 363:1.
  4. السيرة الحلبيّة 275:3.
  5. المصدر المتقدّم: 275.
  6. راجع: أعيان الشيعة 363:1.
  7. سورة الحديد: 15.
  8. سورة محمّد صلي الله عليه و آله: 11.
  9. سورة النساء: 33.
  10. سورة مريم: 5.
  11. سورة الدخان: 41.
  12. الفصول المهمّة لابن الصبّاغ المالکي: 43.
  13. مفردات راغب: 533، مادة (ولي).
  14. سورة محمّد صلي الله عليه و آله: 11.
  15. النهاية 227:5.
  16. الصحاح 2528:6.
  17. لسان العرب 985:1، طبع دار لسان العرب - بيروت.
  18. أقرب الموارد 1487:2.
  19. معجم مقاييس اللغة 141:6.
  20. الغدير 370 - 362: 1، ولزيادة التوضيح راجع المصدر بعينه و مرآة العقول 219:3.
  21. أمالي الصدوق - المجلس السادس والعشرون: ح 2.
  22. المصدر السابق: ح 3.
  23. سنن الترمذي 280:2.
  24. سورة التوبة: 71.
  25. سورة البقرة: 257.
  26. سنن الترمذي 591:5، باب مناقب عليّ بن أبي طالب، ح 3712.
  27. دراسات في ولاية الفقيه 55:1.