المقدّمة











المقدّمة



لمّا قضي رسول اللَّه صلي الله عليه و آله مناسکه في حجّة الوداع رجع إلي المدينة فوصل إلي الموضع المعروف ب (غدير خمّ)[1] يوم الثامن عشر من ذي الحجّة سنة عشر من الهجرة - وهو مکان قريب من الجحفة بناحية رابغ - ومعه صلي الله عليه و آله علي ما قيل: ما يزيد علي مائة ألف، فخطبهم، وقال في خطبته - وقد رفع عليّاً عليه السلام للنّاس، وأخذ بضبعيه فرفعهما حتّي بان للنّاس إبطيهما -: «ألستُ أوْلي بالمؤمنين من أنفسهم؟»، قالوا: بلي. قال صلي الله عليه و آله: «من کنت مولاه فعليّ مولاه، اللّهمّ وال من والاه، وعاد من عاداه، واخذل من خذله، وأدر الحقّ معه حيث دار»، ثمّ أفرده بخيمة وأمر النّاس ببيعته بإمرة المؤمنين، حتّي النساء، ومنهنّ نساؤه صلي الله عليه و آله.[2] .

و قد روي المفيد في (الإرشاد) - في خبر طويل -: ولمّا قضي رسول اللَّه صلي الله عليه و آله نسکه أشرک عليّاً عليه السلام في هديه وقفل إلي المدينة وهو معه والمسلمون، حتّي انتهي إلي الموضع المعروف بغدير خمّ، وليس بموضع إذ ذاک يصلح للمنزل؛ لعدم الماء فيه والمرعي، فنزل صلي الله عليه و آله في الموضع ونزل المسلمون.

وکان سبب نزوله في هذا المکان نزول القرآن عليه بنصبه أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام خليفةً في الاُمّة من بعده، وقد کان تقدّم الوحي إليه في ذلک من غير توقيت له، فأخّره لحضور وقت يأمن فيه الاختلاف منهم عليه، وعلم اللَّه عزّ وجلّ أنّه إن تجاوز غدير خمّ انفصل عنه کثير من النّاس إلي بلدانهم وأماکنهم وبواديهم، فأراد اللَّه أن يجمعهم لسماع النصّ علي أمير المؤمنين عليه السلام وتأکيد الحجّة عليهم فيه.

فأنزل اللَّه تعالي: «يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْکَ مِن رَبِّکَ» يعني في استخلاف عليّ عليه السلام، والنصّ بالإمامة عليه «وَإِن لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُکَ مِنَ النَّاسِ»، فأکّد الفرض عليه بذلک، وخوّفه من تأخير الأمر فيه، وضمن له العصمة ومنع النّاس منه، فأنزل رسول اللَّه صلي الله عليه و آله المکان الّذي ذکرناه لما وصفناه من الأمر له بذلک وشرحناه، ونزل المسلمون حوله، وکان يوماً قائظاً شديد الحرّ، فأمر عليه السلام بدوحات هناک فقمّ ما تحتها، وأمر بجمع الرحال في ذلک المکان، ووضع بعضها فوق بعض، ثمّ أمر مناديه فنادي في النّاس الصلاة جامعة، فاجتمعوا من رحالهم إليه، وإنّ أکثرهم ليلفّ رداءه علي قدميه من شدّة الرمضاء.

فلمّا اجتمعوا صعد علي تلک الرحال حتّي صار في ذروتها، ودعا أمير المؤمنين عليه السلام فرقي معه حتّي قام عن يمينه، ثمّ خطب النّاس فحمد اللَّه وأثني عليه ووعظ فأبلغ في الموعظة ونعي إلي الاُمّة نفسه، وقال: «إنّي مخلّف فيکم إن تمسّکتم به لن تضلّوا: کتاب اللَّه، وعترتي أهل بيتي، فإنّهما لن يفترقا حتّي يردا علَيّ الحوض»، ثمّ نادي بأعلي صوته: «ألست أوْلي بکم منکم بأنفسکم». قالوا: اللّهم بلي. فقال لهم علي النسق من غير فصل - وقد أخذ بضبعي[3] أمير المؤمنين عليه السلام فرفعهما حتّي بان بياض إبطيهما و قال: «فمن کنتُ مولاه فهذا عليّ مولاه، اللّهمّ والِ مَن والاه، وعاد من عاداه، وانصرف من نصره، واخذل من خذله».

ثمّ نزل صلي الله عليه و آله وکان وقت الظهيرة، فصلّي رکعتين، ثمّ زالت الشمس، فأذّن موذِّنُه لصلاة الفرض فصلّي بهم الظهر، وجلس في خيمته، وأمر عليّاً عليه السلام أن يجلس في خيمة له بإزائه، ثمّ أمر المسلمين أن يدخلوا عليه فوجاً فوجاً، فيهنِّئُوه بالمقام ويسلّموا عليه بإمرة المؤمنين، فَفَعل النّاس ذلک کلّهم، ثمّ أمر أزواجه وسائر نساء المؤمنين معه أن يدخلن عليه، ويسلّمن عليه بإمرة المؤمنين فَفَعَلْنَ.

وکان فيمن أطنب في تهنئته بالمقام عمر بن الخطّاب فأظهر له من المسرّة به، وقال فيما قال: بخٍ[4] بخٍ يا عليّ، أصبحتَ مولاي ومولي کلّ مؤمنٍ ومؤمنةٍ.

وجاء حسّان بن ثابت إلي رسول اللَّه صلي الله عليه و آله فقال: يا رسول اللَّه، أتأذن لي أن أقول في هذا المقام ما يرضاه اللَّه؟ فقال له: «قل يا حسّان علي اسم اللَّه»، فوقف علي نَشَز[5] من الأرضِ وتطاول المسلمون لسماع کلامه، فأنشأ يقول:


يناديهم يوم الغدير نَبِيُّهمُ
بخمٍّ وأسمع بالرسولِ مُناديا


وقال فَمَن مولاکم وَوليّکم
فقالوا ولم يَبدوا هُناک التعاديا[6] .


فقال له رسول اللَّه صلي الله عليه و آله: «لا تزال يا حسّان مؤيّداً بروح القدس ما نصرتنا بلسانک».[7] .







  1. غدير خمّ في وادي الأراک علي عشرة فراسخ من المدينة، وعلي أربعة أميال من الجحفة عند شجرات خمس دوحات عظام - المناقب لابن شهرآشوب 26:3.
  2. من أهمّ المصادر الّتي أخرجت لفظ الحديث: سنن الترمذي 633:5، صحيح ابن حبّان 42:9، مسند أحمد 84:1 و 88 و 152 و 199 و 331، المستدرک علي الصحيحين 110:3، مصابيح السنّة 172:4، ح 4767، سنن ابن ماجة 45:1، ح 121، تاريخ بغداد 474:5.

    ومن أهمّ المصادر الّتي أخرجت قصّة حجّة الوداع وما جاء فيها من خطبة النبيّ صلي الله عليه و آله يوم غدير خمّ مع ذکر لفظ الحديث في أثناء الخطبة: البداية والنهاية 247:7، مجمع الفائدة 17:9، ح 108 - 104، مناقب الخوارزمي: 8، إسعاف الراغبين: 166، شرح ابن أبي الحديد 208:3، کفاية الطالب: 62، تذکرة الخواصّ: 33 - 28، وغيرها کثير.

  3. الضبع: وسط العضد و قيل ما تحت الإبط.
  4. بخّ کلمة تقال عند المدح والرضي بالشي ء، وتکرّر للمبالغة.
  5. النشز: المرتفع من الأرض.
  6. ستجيئ أشعار حسّان عن قريب إن شاء اللَّه تعالي.
  7. إرشاد المفيد 174: 1.