دلالة آيات الأبرار علي فضائل أهل البيت











دلالة آيات الأبرار علي فضائل أهل البيت



قوله تعالي: «إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ...» الأبرار في الآية جمع برّ، أو بارّ محلّي باللّام، فظهوره في الشمول ممّا لا ريب فيه، وإنّما اُطلق علي عليّ وفاطمة والحسنان عليهم السلام تبياناً لکونهم أکمل الأبرار، وأذاناً بأنّهم الأخيار، وبرهاناً علي أنّهم صفوة الصفوة، وحجّة علي أنّهم خيرة الخيرة، وأيّ عبارة فاضلة شريفة مقدّسة تکافئ قول اللَّه تعالي فيهم: «إِنَّ الْأَبْرَارَ» عليّاً وفاطمة والحسن والحسين، «يَشْرَبُونَ» الشراب الطيّب الطاهر يوم العطش الأکبر، «مِن کَأْسٍ» هي الزجاجة إذا کان فيها الشراب، ويسمّي الشراب نفسه کأساً أيضاً، وقد وصفها بقوله: «کَافُوراً» لأنّ ماءها في بياض الکافور ورائحته وبرودته، والدليل علي أنّ الکافور اسم عين في الجنّة قوله تعالي: «عَيْناً» بدل من «کَافُوراً»، «يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ» عليّ وفاطمة والحسنان، وأمثالهم من الکاملين في العبوديّة للَّه سبحانه الذين يمشون علي الأرض هوناً... إلي آخر ما اشتملت عليه آيات الفرقان من صفاتهم الکاملة، وهذه العين «يُفَجِّرُونَهَا» أي يجرونها حيث شاءوا من کلّ مکان أرادوا «تَفْجِيراً» سهلاً يسيراً، وقد بيّن اللَّه تعالي السبب في استحقاقهم لهذه الکرامة فقال: «يُوفُونَ بِالنَّذْرِ» جواباً لسؤال مقدّر، تقديره ما الّذي فعلوه فاستحقّوا به هذا الجزاء؟ وأنت تعلم أن ليس المراد من وصفهم بالوفاء بالنذر إلّا المبالغة في وصفهم بالتوفّر علي أداء الواجبات؛ لأنّ من وفي بما أوجبه هو علي نفسه کان بما أوجبه اللَّه عليه أوفي، وتلک شهادة لهم من اللَّه تعالي علي المبالغة في وصفهم بالتوفّر علي أداء الواجبات حتّي بالغ في بُعدهم عن المحرّمات والشبهات بما وصفهم فيه من خشية اللَّه والخوف من يوم القيامة، حيث قال: «وَيَخَافُونَ يَوْماً کَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً»[1] يريد بذلک أنّ هذا الخوف العظيم يستوجب کونهم نصب أمره ونهيه، وتلک منزلة المعصومين.

ومن تدبّر القرآن وغاص في أسراره، وجد في هذه الآيات من عناية اللَّه تعالي في هؤلاء الأبرار أمراً عظيماً، لا يوصف بکيف ولا يقدّر بکم. ألا تري کيف رتّب هذه الشهادات في تزکيتهم، فکانت کلّ شهادة أکبر من سابقتها؛ إذ شهد أوّلاً بأنّهم يوفون بالنذر، ثمّ شهد ثانياً بأنّهم يخافون يوماً کان شرّه مستطيراً، فکانت أعظم من الاُولي لدلالتها بصريح العبارة علي رسوخ الإيمان باللَّه واليوم الآخر، ثمّ شهد لهم ثالثاً بما هو أعظم من ذلک فقال: «وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَي حُبِّهِ مِسْکِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً»[2] الضمير في حبّه للطعام علي الأظهر، والمعني أنّهم يطعمون الطعام مع حبّه لشدّة جوعهم بسبب صومهم ثلاثة أيّام، لا يذوقون في لياليها غير الماء، وهذا علي حدّ قوله تعالي: «وَآتَي الْمَالَ عَلَي حُبِّهِ»[3] وقوله سبحانه: «لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّي تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ»[4] وقوله: «وَيُؤْثِرُونَ عَلَي أَنفُسِهِمْ وَلَوْ کَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ».[5] .

وإنّما کانت هذه الشهادة أعظم لکشفها عن کمال نفوسهم، وبلوغهم أقصي الغايات في حبّ الخير والإيثار علي أنفسهم إشفاقاً علي المسکين، ورأفة باليتيم، وعطفاً علي الأسير.

وأنت تعلم أنّهم لو لم يؤثروهم لما کان عليهم في ذلک من جناح، لکنّهم مثّلوا الجنان والمرحمة بأجلي مظاهرهما حين لم يکونوا مکلّفين بذلک ولا مسؤولين عنه، وتلک من أفضل صفات المقرّبين.

بقي أعظم الشهادات وأجلّها وأدلّها علي تزکيتهم، ألا وهو الّذي أشار إليه سبحانه تعالي حيث قال بلسان حالهم عن مکنون سرائرهم: «إِنَّمَا نُطْعِمُکُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنکُمْ جَزَاءً وَلَا شُکُوراً × إِنَّا نَخَافُ مِن رَبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً»، يعني لا نريد مکافأة منکم ولا من غيرکم، وإنّما نطعم ونبذل بدافع التقرّب إلي اللَّه تعالي والخوف من يوم تفحص فيه الأعمال وتکثر فيه الأهوال.

وأنت إذا تدبّرت بشائره لهم بالأمن من أهوال ذلک اليوم، تعرف مزيد عنايته بهم عليهم السلام، حيث لم يکتف منها ببشارة واحدة، بل جعل البشائر مترادفة متوالية، وکلّ واحدة منها أعظم من سابقتها قال أوّلاً: «فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِکَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً»، أي کفاهم اللَّه، ومنع عنهم أهوال يوم القيامة وشدائده، ولقّاهم وأعطاهم نضرة في الوجوه وسروراً في القلب بدل عبوس أعدائهم وحزنهم، وبالجملة خافوا يوم القيامة فاتّقوا شرّه بطاعة اللَّه والإخلاص له، فبدّلهم من بعد خوفهم أمناً، فأشرقت وجوههم بنور البشر والفرحة، ثمّ ترقّي في البشارة فقال: «وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً»، وجزاهم اللَّه بما صبروا علي شدّة الجوع وإيثار غيرهم ابتغاءً لمرضاة اللَّه بالجنّة والحرير، ولم يکتف في البشارة بالجنّة علي سبيل الإجمال حتّي فصّل فيها أکثر الأقوال فقال: «مُتَّکِئِينَ فِيهَا عَلَي الْأَرَائِکِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلَا زَمْهَرِيراً × وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا» فهم في منتهي الراحة والرفاهيّة والغبطة والحبور، مستبشرين فکهين غير رائين شمساً ولا زمهريراً، والحال أنّ ظلالها دانية عليهم، ثمّ لم يکتف سبحانه بهذا القدر من البيان في کرامتهم عليهم السلام حتّي قال: «وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً»، بمعني تدلو ظلالها عليهم في حال تذليل قطوفها لهم، والمراد قطوفها جعلها ذللاً لا تمتنع علي قاطفها متي أراد وکيف شاء، ويجوز أن تکون مأخوذة من الذلّ بمعني الخضوع لسهولة قطفها کيف شاء قطّافها.

ولو اکتفي اللَّه تعالي سبحانه بهذا المقدار من بيان فوزهم في دار کرامته لکفاهم شرفاً وفضلاً، ولکنّه سبحانه آثر الاطناب فيما تحدّي به من معجزات الکتاب ليشمل بذلک عنايته التامّة فيهم تمثيلاً، وليفضّلهم علي من سواهم تفضيلاً، فقال: «وَيُطَافُ عَلَيْهِم بِآنِيَةٍ مِن فِضَّةٍ وَأَکْوَابٍ کَانَتْ قَوَارِيرَا» إلي قوله: «وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً»، وأنت إذا أمعنت النظر فيما ألقاه عزّ وجلّ إليهم في ختام البشائر العظيمة والمواهب الجسيمة، تتمثّل لک عناية اللَّه بهم قالباً حسيّاً، وتري کرامتهم عليه وسموّ منزلتهم لديه شخصاً مرئياً؛ وذلک أنّه ختم کلامه في شؤونهم بقوله مخاطباً لهم: «إِنَّ هذَا کَانَ لَکُمْ جَزَاءً وَکَانَ سَعْيُکُم مَشْکُوراً»، وهذا الإکرام الّذي فصّلناه في القرآن، وفضّلناکم علي العالمين کان لکم جزاءً علي أعمالکم المقدّسة الّتي استوجبت هذا الإکرام الجسيم لم تنالوه بشفاعة أو بمجرّد فضل، وإنّما أخذتموه بالاستحقاق والعدل، وکان سعيکم مع ذلک کلّه مشکوراً؛ ذلک فضل اللَّه يؤتيه من يشاء واللَّه ذو الفضل العظيم.[6] .







  1. مستطيراً: أي فاشياً.
  2. المسکين: البائس العاجز، أي الفقير، واليتيم: هو الطفل الّذي لا والد له، والأسير قيل: إنّ المراد به هنا من أسره المسلمون في الحرب مع أعداء اللَّه والإسلام، وفي تفسير الکاشف (284:7): وروي أنّ الصحابة کانوا إذا أتوا رسول اللَّه صلي الله عليه و آله بأسير من أعداء اللَّه وأعدائه صلي الله عليه و آله دفعه إلي بعض المسلمين وقال له: أحسن إليه، فيأخذه إلي بيته ويؤثره علي نفسه وأهله.
  3. سورة البقرة: 177.
  4. سورة آل عمران: 92.
  5. سورة الحشر: 9.
  6. راجع الفصول المهمّة للإمام السيّد شرف الدين: 238 - 232، وتفسير مجمع البيان 404:10 و 405، وتفسير التبيان 212 - 210: 10.