ايراد صاحب تفسير المنار











ايراد صاحب تفسير المنار



قبل ان نتعرض لإيراده أقول: يتّضح ممّا مرّ أنّ هذه الآية الّتي نزلت في أمير المؤمنين عليه السلام تعدّ من مفاخره، وستتّضح هذه الحقيقة أکثر من خلال الروايات الّتي ستأتي فيما بعد، ومن المعلوم أنّ مفهوم الآية الکريمة يشمل الآخرين، لکنّ سبب نزولها مختصّ بعليّ عليه السلام، غير أنّ بعض مفسّري العامّة يأبون إثبات فضيلة عظيمة لعليّ عليه السلام مع أنّهم يعترفون بأنّه رابع خليفة للمسلمين، ولعلّ سبب ذلک هو خوفهم من أنّهم إن أثبتوا الفضائل لعليّ عليه السلام فسيستدلّ الشيعة بتلک الفضائل الّتي أوردوها، علي طريقة: من فمک اُدينک، وبذلک سيعترض عليهم في سبب تقديمهم الآخرين علي عليّ عليه السلام مع اعترافهم بفضائله؛ و لذلک فإنّهم کلّما أتوا إلي الروايات الواردة في فضائل عليّ عليه السلام إمّا أن يقدحوا في سندها، وإن لم يستطيعوا طعنوا في دلالتها، وإن لم يتمکّنوا من ذلک، فإنّهم يعمدون إلي تقوية الروايات الضعيفة الّتي جعلت في مقابل فضائل أمير المؤمنين عليه السلام.

ومن تلک الموارد ما أورده صاحب (تفسير المنار) فإنّه نقل رواية عن النعمان بن بشير، وقوّاها ورجّحها علي جميع الروايات الّتي وردت من طرق الفريقين کما سيأتي نذر منها من أنّ الآية نزلت في فضيلة عليّ عليه السلام. و اليک لفظ الحديث النعمان مع جوابه:

في (تفسير المنار): روي مسلم وأبو داود وابن حبّان وبعض رواة التفسير المأثور من حديث النعمان بن بشير، قال: کنت عند منبر رسول اللَّه صلي الله عليه و آله في نفر من أصحابه، فقال رجل منهم: ما اُبالي أن لا أعمل للَّه عملاً بعد الإسلام إلّا أن أسقي الحاجّ، وقال آخر: بل عمارة المسجد الحرام، وقال آخر: بل الجهاد في سبيل اللَّه خير ممّا قلتم، فزجرهم عمر، وقال: لا ترفعوا أصواتکم عند منبر رسول اللَّه صلي الله عليه و آله - وذلک يوم الجمعة - ولکن إذا صلّيت الجمعة دخلت علي رسول اللَّه صلي الله عليه و آله فأستفتيه فيما اختلفتم فيه (دخل بعد الصلاة فاستفتاه)، فأنزل اللَّه «أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ» إلي قوله تعالي: «لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ».[1] .

ثمّ روي أيضاً بعض الروايات المعروفة الدالّة علي أنّ الآية نزلت في عليّ عليه السلام، وبعد نقل الروايات قال: والمعتمد من هذه الروايات حديث النعمان لصحّة سنده، وموافقة متنه لما دلّت عليه الآيات من کون موضوعها في المفاضلة أو المساواة بين خدمة البيت وحجّاجه من أعمال البرّ البدنيّة الهيّنة المستلذّة، وبين الإيمان والجهاد بالمال والنفس والهجرة، وهي أشقّ العبادات النفسيّة البدنيّة الماليّة، والآيات تتضمّن الردّ عليها کلّها إلي آخره.[2] .

أقول في الجواب عنه:

أنّ رواية النعمان لا تنسجم مع الآيات من جهات مختلفة، منها:

1 - إنّ الآيات المذکورة لم تقارن بين الجهاد وسقاية الحاجّ وعمارة المسجد الحرام، وإنّما فاضلت بين سقاية الحاجّ وعمارة المسجد من جهة، وبين الإيمان باللَّه واليوم الآخر والجهاد من جهة اُخري، وهذا يوحي بأنّ بعض النّاس کان يفاضل بين تلک الأعمال الّتي کانوا يقومون بها في الجاهلية، وبين الإيمان والجهاد، والقرآن يقول بصراحة بأنّ هذين الأمرين لا يمکن المقارنة بينهما، وليس الأمر هو المقارنة بين الجهاد وبين عمارة المسجد الحرام وسقاية الحاجّ.

2 - إنّ قوله تعالي: «وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ» توحي بأنّ أعمال الفئة الاُولي کانت مقترنة بالظلم، إضافة إلي أنّها وقعت في حال الشرک، والقرآن يقول: «إِنَّ الشِّرْکَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ»[3] وإذا کانت المقارنة بين الإيمان وبين سقاية الحاجّ المقترنة بالإيمان والجهاد فسوف لن يکون هناک مفهوم ومعني لقوله جلّ وعلا: «وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ».

3 - إنّ الآية الّتي تلت الآية مورد البحث تقول: «الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدَوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللَّهِ وَأُولئِکَ هُمُ الْفَائِزُونَ»[4] وهي تعني تفوّق ذوي الإيمان والهجرة والجهاد علي غيرهم، وهذا المعني لا ينسجم مع حديث النعمان بن بشير؛ وذلک أنّ المتحادثين - طبقاً لهذا الحديث - هم جميعاً من المؤمنين، وربّما اشترکوا في الجهاد والهجرة.

4 - کان الکلام في الآيات الّتي سبقت هذه الآية حول قيام المشرکين بعمارة المساجد «مَا کَانَ لِلْمُشْرِکِينَ أَن يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ»[5] وتواصل الآيات مورد البحث الکلام حول نفس الموضوع، وهذا يوضّح أنّ هذه الآيات تبحث في عمارة المسجد الحرام وسقاية الحاجّ في حال الشرک، وهو لا ينسجم مع رواية النعمان.

إيراد آخر مع جوابه:

والإشکال الوحيد الّذي يبقي هو أنّ التعبير ب «أَعْظَمُ دَرَجَةً» يوحي بأنّ طرفي المقارنة عمل جيّد وحسن، غايته أنّ أحدهما أفضل من الآخر.

والجواب علي هذا السؤال يتضّح من خلال أمرين:

الأوّل: أنّ أفعل التفضيل لا تعني الأفضليّة دائماً، بل ربّما تأتي في المقارنة بين شيئين أحدهما صفر الاعتبار والأهمّية، وآخر راجح تماماً، کقوله عزّ وجلّ: «وَالصُّلْحُ خَيْرٌ»[6] وخير بصيغة أفعل في حين أنّ الحرب ليست خيراً وحسنة، وکقوله تعالي: «وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِکٍ»[7] في حين أنّ المشرک لا خير فيه، وکقوله تعالي: «لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَي التَّقْوَي مِن أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ»[8] أي أنّ مسجد قبا أحقّ أن تقوم فيه من مسجد ضرار، في حين أنّ مسجد ضرار لا خير فيه، کما أنّ الخير في مسجد قبا.

و الثاني: من الممکن أن نقول: إنّ سقاية الحاجّ وعمارة المسجد الحرام عمل جيّد حسن ذاته، وإن صدر من مشرک، لکنّه لا يقبل المقارنة والفاضلة مع الإيمان باللَّه والجهاد في سبيله، ولا شکّ أنّ الإيمان والجهاد أفضل.

وخلاصة القول: إنّ رواية النعمان بن بشير لمّا خالفت القرآن فإنّها تطرح جانباً، وتضرب بعرض الجدار، والّتي تقبل هي الروايات الّتي توافق القرآن، والّتي هي الحديث المشهور الدالّ علي أنّ الآية نزلت في فضيلة أمير المؤمنين عليه السلام.







  1. تفسير المنار 215:10.
  2. المصدر السابق: 216.
  3. سورة لقمان: 13.
  4. سورة التوبة: 20.
  5. سورة التوبة: 17.
  6. سورة النساء: 128.
  7. سورة البقرة: 221.
  8. سورة التوبة: 108.