ذبّه الدائم عن رسول اللَّه











ذبّه الدائم عن رسول اللَّه



وهو أخو عبداللَّه أبي النبيّ لاُمّه وأبيه، وهو الّذي کفل رسول اللَّه صلي الله عليه و آله صغيراً، وقام بنصره وحامي عنه وحاطه کبيراً، وتحمّل الأذي في سبيله من مشرکي قريش ومنعه منهم، ولقي لأجله عناءً عظيماً، وأبلي بلاءً شديداً، وصبر علي نصره والقيام بأمره، حتّي أنّ قريشاً لم تطمع في رسول اللَّه صلي الله عليه و آله، وکانت کاعّة عنه حتّي توفّي أبو طالب، ولم يؤمر بالهجرة إلّا بعد وفاته، وکان أبو طالب مسلماً لا يجاهر بإسلامه، ولو جاهر لم يمکنه ما أمکنه من نصر رسول اللَّه صلي الله عليه و آله، علي أنّه قد جاهر بالإقرار بصحّة نبوّته في شعره مراراً، کقوله:


ودعوتني وعلمت أنّک صادق
ولقد صدقت وکنت قبل أمينا


ولقد علمت بأنّ دين محمّد
من خير أديان البريّة دينا[1] .


وغير هذه الأبيات، ومن أرادها فليراجعها في ديوان أبي طالب.

الحديث

1- روي الکليني حسنة کالصحيحة عن هشام بن الحکم، عن أبي عبداللَّه عليه السلام، قال: بينا النبيّ صلي الله عليه و آله في المسجد الحرام وعليه ثياب له جُدد، فألقي المشرکون عليه سلا[2] ناقة، فملؤوا ثيابه بها، فدخله من ذلک ما شاء اللَّه[3] فذهب إلي أبي طالب، فقال له: «يا عمّ، کيف تري حَسَبي فيکم؟»، فقال له: وما ذاک يابن أخي؟ فأخبره الخبر، فدعا أبو طالب حمزة وأخذ السيف، وقال لحمزة: خذ السلا، ثمّ توجّه إلي القوم والنبيّ معه، فأتي قريشاً وهم حول الکعبة، فلمّا رأوه عرفوا الشرّ في وجهه، فقال لحمزة: أمرّ السلا علي سبالهم[4] ففعل ذلک حتّي أتي علي آخرهم، ثمّ التفت أبو طالب إلي النبيّ فقال: يابن أخي، هذا حسبک فينا.[5] .

2- و عن ابن أبي الحديد - في حديث -، قال: قرأت في (أمالي) أبي جعفر محمّد بن حبيب، قال: کان أبو طالب کثيراً ما يخاف علي رسول اللَّه صلي الله عليه و آله البيات إذا عرف مضجعه، وکان يقيمه ليلاً من منامه، ويضجع ابنه عليّاً مکانه، فقال له عليّ ليلة: «يا أبتِ، إنّي مقتول»، فقال له أبو طالب:


اصبرن يا بُنيّ فالصبر أحجي
کلّ حيّ مصيره لشعوب[6] .


قد بذلناک والبلاء شديد
لفداء الحبيب وابن الحبيب


لفداء الأعزّ ذي الحسب الثا
قب والباع والکريم النجيب


إن تصبک المنون فالنبل تبري
فمصيب منها وغير مصيب


کلّ حيّ وإن تملّي بعمر
آخذ من مذاقها بنصيب[7] .


3- قال الطبري عن محمّد بن إسحاق:... إنّ أبا طالب قال لعليّ بن أبي طالب: أي بُنيّ، ما هذا الدين الّذي أنت عليه؟ قال: «يا أبه، آمنت باللَّه وبرسوله، وصدّقته بما جاء به، وصلّيت معه للَّه»، فزعموا[8] أنّه قال له: أما إنّه لا يدعوک إلّا إلي خير، فالزمه.[9] .

4- وفي (المناقب) عن الطبري والبلاذري والضحّاک، قال: لمّا رأت قريش حميّة قومه وذبّ عمّه أبي طالب عنه، جاؤوا إليه وقالوا: جئناک بفتي قريش جمالاً وجوداً وشهامة عمارة بن الوليد، ندفعه إليک يکون نصره وميراثه لک، ومع ذلک من عندنا مال، وتدفع إلينا ابن أخيک الّذي فرّق جماعتنا، وسفّه أحلامنا فنقتله؟

فقال: واللَّه ما أنصفتموني، أتعطونني ابنکم أغذوه لکم، وتأخذون ابني تقتلونه؟! هذا واللَّه ما لا يکون أبداً، أتعلمون أنّ الناقة إذا فقدت ولدها لا تحنّ إلي غيره؟ ثمّ نهزهم فهمّوا باغتياله، فمنعهم أبو طالب من ذلک، وقال فيه:


حميت الرسول رسول الإله
ببيض تُلألئ مثل البروق


أذبّ وأحمي رسول الإله
حماية عمّ عليه شفيق[10] .


5- وفيه أيضاً: عن مقاتل، قال: لمّا رأت قريش يعلو أمره قالوا: لا نري محمّداً يزداد إلّا کبراً وتکبّراً، وإن هو إلّا ساحر أو مجنون، وتوعّدوه وتعاقدوا لئن مات أبو طالب ليجمعنّ قبائل قريش کلّها علي قتله، وبلغ ذلک أبا طالب، فجمع بني هاشم وأحلافهم من قريش فوصّاهم برسول اللَّه صلي الله عليه و آله وقال: إن ابن أخي کما يقول، أخبرنا بذلک آباؤنا وعلماؤنا أنّ محمّداً نبيّ صادق، وأمين ناطق، وأنّ شأنه أعظم شأن، ومکانه من ربّه أعلي مکان، فأجيبوا دعوته، واجتمعوا علي نصرته، وراموا عدوّه من وراء حوزته، فإنّه الشرف الباقي لکم الدهر.[11] .

6- وفيه أيضاً: عن ابن عبّاس: دخل النبيّ صلي الله عليه و آله الکعبة وافتتح الصلاة، فقال أبو جهل: من يقوم إلي هذا الرجل فيفسد عليه صلاته؟ فقام عبداللَّه بن الزبعري وتناول فرثاً ودماً، وألقي ذلک عليه، فجاء أبو طالب وقد سلّ سيفه، فلمّا رأوه جعلوا ينهضون، فقال: واللَّه! لئن قام أحد جلّلته بسيفي، ثمّ قال: يابن أخي، مَن الفاعل بک هذا؟ قال: «عبداللَّه»، فأخذ أبو طالب فرثاً ودماً وألقي عليه.[12] .

7- وفي (الکافي) عن عبيد بن زرارة، عن أبي عبداللَّه عليه السلام، قال: «لمّا توفّي أبو طالب، نزل جبرئيل علي رسول اللَّه صلي الله عليه و آله فقال: يا محمّد، اخرج من مکّة فليس لک فيها ناصر، وثارت[13] قريش بالنبيّ، فخرج هارباً حتّي جاء إلي جبل بمکّة يقال له: الحجون[14] فصار إليه».[15] .

8- وفيه أيضاً: عن سعيد بن المسيّب، عن عليّ بن الحسين عليه السلام - في حديث -، قال: فلمّا فقدهما - يعني أبا طالب وخديجة - رسول اللَّه صلي الله عليه و آله سئم المقام بمکّة، ودخله حزن شديد، وأشفق علي نفسه من کفّار قريش، فشکا إلي جبرئيل ذلک، فأوحي اللَّه عزّوجلّ إليه: اخرج من القرية الظالم أهلها[16] وهاجر إلي المدينة، فليس لک اليوم بمکّة ناصر، وأنصب للمشرکين حرباً، فعند ذلک توجّه رسول اللَّه صلي الله عليه و آله إلي المدينة - الحديث.[17] .

9- وفي (الکامل) و (تاريخ الطبري) عن ابن إسحاق، قال: مات أبو طالب وخديجة قبل هجرته إلي المدينة بثلاث سنين، فعظمت المصيبة علي رسول اللَّه صلي الله عليه و آله بوفاتهما، فقال صلي الله عليه و آله: ما نالت قريش منّي شيئاً أکرهه حتّي مات أبو طالب؛ وذلک أنّ قريشاً وصلوا من أذاه بعد موت أبي طالب إلي ما لم يکونوا يصلون إليه في حياته منه، حتّي نثر بعضهم علي رأسه التراب، و حتّي إنّ بعضهم يطرح عليه رحم الشاة وهو يصلّي، وکان رسول اللَّه صلي الله عليه و آله يُخرج ذلک علي العود ويقول: أيّ جوار هذا يا بني عبد مناف! ثمّ يلقيه بالطريق.[18] .

10- وروي الطبري أيضاً عن هشام بن عروة، عن أبيه، قال: لمّا نثر ذلک السفيه التراب علي رأس الرسول دخل رسول اللَّه صلي الله عليه و آله بيته والتراب علي رأسه، فقامت إليه إحدي بناته[19] تغسل عنه التراب، وهي تبکي ورسول اللَّه يقول لها: «يا بُنيّة، لا تبکي، فإنّ اللَّه مانع أباک»، قال: ويقول رسول اللَّه صلي الله عليه و آله: «ما نالت منّي قريش شيئاً أکرهه حتّي مات أبو طالب»، ولمّا مات أبو طالب، خرج رسول اللَّه إلي الطائف يلتمس من ثقيف النصر والمنعة له من قومه - الحديث.[20] .

11- وفي (شرح ابن أبي الحديد)، عن اُستاذه أبي جعفر نقيب البصرة، قال: وإنّ قريشاً لم تقدر علي أذي النبيّ صلي الله عليه و آله وأبو طالب حيٌّ يمنعه، فلمّا مات طلبته لتقتله، فخرج تارةً إلي بني عامر، وتارةً إلي ثقيف (الطائف)، وتارة إلي بني شيبان، ولم يکن يتجاسر علي المقام بمکّة إلّا مستتراً حتّي أجاره مطعم بن عدي، ثمّ خرج إلي المدينة - الحديث.[21] .







  1. الاستيعاب لابن عبدالبرّ بهامش الإصابة 27:3، وأعيان الشيعة 324:1.
  2. السلا - مقصوراً -: الجلدة الرقيقة التي يکون فيها الدم.
  3. أي من الغمّ والحزن.
  4. السبلة - محرّکة -: الدائرة في وسط الشفه العليا، أو ما علي الشارب من الشعر أو طرفه، أو مجتمع الشاربين، أو ما علي الذقن إلي طرف اللحية کلّها، أو مقدّمها خاصّة - مرآة العقول 256:5.
  5. اُصول الکافي 449:1، والبحار 136:35.
  6. الشعوب: المنيّة.
  7. شرح ابن أبي الحديد 64:14، ولفظ الحديث من أعيان الشيعة 373:1.
  8. قوله: فزعموا، علي مذهبهم، أمّا أمّا نحن فنعتقد بأنّه يقولها: لأنّه مؤمن بالنبيّ صلي الله عليه و آله، ومعتقد بأنّ النبيّ صلي الله عليه و آله لا يدعو إلّا إلي الخير.
  9. تاريخ الطبري 58:2.
  10. المناقب لابن شهرآشوب 60:1، وبحار الأنوار 89:35.
  11. المناقب لابن شهرآشوب 61:1.
  12. المصدر السابق: 60.
  13. الثورة: الهيجان.
  14. الحجون: الجبل المشرف ممّا يلي شِعب الجزازين بمکّة، وفيه اعوجاج کما عن النهاية 341:1، والظاهر الجبل الّذي فيه الغار المشهور، کما عن المجلسي في مرآة العقول 257:5.
  15. اُصول الکافي 449:1، بحار الأنوار 137:35.
  16. اقتباس من قوله تعالي: «أَخْرِجْنَا مِن هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا» سورة النساء: 75.
  17. روضة الکافي: 281، ح 536.
  18. تاريخ الطبري 80:2، الکامل في التاريخ لابن الأثير 507:1.
  19. وجاء في بعض الروايات أنّها فاطمة عليهاالسلام.
  20. تاريخ الطبري 80:2.
  21. شرح ابن أبي الحديد 268:13.