ايراد واهٍ من محمّد بن عبده حول الآية وجوابه











ايراد واهٍ من محمّد بن عبده حول الآية وجوابه



ومن عجيب الکلام ما ذکره محمّد عبده علي ما حکي عنه تلميذه السيّد محمّد رشيد رضا في المجلّد الثالث من تفسيره، حيث قال: إنّ الروايات متّفقة علي أنّ النبيّ صلي الله عليه و آله اختار للمباهلة عليّاً وفاطمة وولديهما، ويحملون کلمة «نِسَاءَنَا» علي فاطمة عليهاالسلام، وکلمة «أَنفُسَنَا» علي عليّ عليه السلام فقط، ومصادر هذه الروايات الشيعة، ومقصدهم منها معروف، وقد اجتهدوا في ترويجها ما استطاعوا حتّي راجت علي کثير من أهل السنّة، ولکن واضعيها لم يحسنوا تطبيقها علي الآية، فإنّ کلمة «نِسَاءَنَا» لا يقولها العربيّ ويريد بها بنته، لا سيّما إذا کان له أزواج، ولا يفهم هذا من لغتهم، وأبعد من ذلک أن يراد ب «أَنفُسَنَا» عليّ عليه السلام.

ثمّ إنّ وفد نجران الذين قالوا: إنّ الآية نزلت فيهم لم يکن معهم نساؤهم وأولادهم. وکلّ ما يفهم من الآية أمر النبيّ صلي الله عليه و آله أن يدعو المحاجّين والمجادلين في عيسي من أهل الکتاب إلي الاجتماع رجالاً ونساءً وأطفالاً، ويجمع هو المؤمنين رجالاً ونساءً وأطفالاً، ويبتهلون إلي اللَّه تعالي بأن يلعن الکاذب فيما يقول عن عيسي.

وهذا الطلب يدلّ علي قوّة يقين صاحبه وثقته بما يقول، کما يدلّ امتناع من دعوا إلي ذلک من أهل الکتاب، سواء کانوا نصاري نجران أو غيرهم علي امترائهم في حجاجهم ومماراتهم فيما يقولون، وزلزالهم فيما يعتقدون؛ وکونهم علي غير بيّنة ولا يقين، وأنّي لمن يؤمن باللَّه أن يرضي بأن يجتمع مثل هذا الجمع من النّاس المحقّين والمبطلين في صعيد واحد، متوجّهين إلي اللَّه تعالي في طلب لعنه وإبعاده من رحمته، و أيّ جرأة علي اللَّه واستهزاء بقدرته وعظمته من هذا! إلي آخر ما أورده.[1] .

أقول في الجواب: ما أقول في رجل اتّخذ إلهه هواه، وأضلّه اللَّه علي علم، وختم علي سمعه وقلبه؟ لست أدري ما يريد بقوله: «إنّ مصادر هذه الروايات الشيعة؟! فإنّ إمامهم فخر الدين الرازي مفسّر شهير ادّعي الاتّفاق علي صحّة هذه الروايات، وهو مع کونه إمام المشکّکين يقول في تفسيره: لمّا خرج رسول اللَّه صلي الله عليه و آله في المِرط الأسود فجاء الحسن عليه السلام فأدخله، ثمّ جاء الحسين عليه السلام فأدخله، ثمّ فاطمة عليهاالسلام، ثمّ عليّ عليه السلام، ثمّ قال: «إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنکُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَکُمْ تَطْهِيراً». واعلم أنّ هذه الرواية کالمتّفق علي صحّتها بين أهل التفسير والحديث.[2] .

وروي ابن طاووس في کتابه القيّم (سعد السعود) حديث المباهلة من کتاب (تفسير ما نزل من القرآن في النبيّ صلي الله عليه و آله وأهل بيته) لمحمّد بن العبّاس بن مروان، المعروف بابن الحجّام، أو ابن الماهيار، من واحد وخمسين طريقاً.[3] .

وبعد کلّ هذا هل يعتقد محمّد عبده أنّ الشيعة کانوا مصدر هذه الروايات المتظافرة الّتي أجمع علي نقلها وعدم طرحها المحدّثون، وليست بالواحدة والاثنين والثلاث، وأطبق علي نقلها وتلقّيها بالقبول أهل الحديث، وأثبتها أرباب الجوامع ومنهم مسلم في صحيحه، والترمذي في صحيحه، وأيّدها أهل التاريخ. وأطبق المفسّرون علي إيرادها وإبداعها في تفاسيرهم من غير اعتراض أو ارتياب، وفيهم جمع من أهل الحديث والتاريخ، کالطبري وأبي الفداء وابن کثير والسيوطي في کتبه، وغيرهم.[4] .

وأعتقد أنّ المعترض - يعني محمّد عبده - ما قال هذا الإيراد إلّا عناداً لأمير المؤمنين عليه السلام، وإلّا فبعد ما عرفت من نقل الرواة الکثيرين عن الرسول صلي الله عليه و آله وضبط الحديث في کتبهم، وإجماع المفسّرين علي نقلها في تفاسيرهم، لا يبقي شکّ ولا ريب في بطلان هذا الإيراد.

ولو سلّمنا أنّ مصادر هذه الروايات الشيعة، أيريد بهم الذين تنتهي إليهم سلاسل الإسناد في الروايات، أعني سعد بن أبي وقّاص، وجابر بن عبداللَّه، وعبداللَّه بن عبّاس، وعثمان بن عفّان، وغيرهم من الصحابة، أو التابعون، کأبي صالح، والکلبي، والسدّي، والشعبي، وغيرهم، وأنّهم تشيّعوا لنقلهم ما لا يرتضيه بهواه؟

فهؤلاء وأمثالهم ونظراؤهم هم الوسائط في نقل السنّة، ومع رفضهم لا تبقي سنّة مذکورة ولا سيرة مأثورة.

وکيف يمکن لمسلم أو باحث حتّي ممّن لا ينتحل الإسلام أن يبطل السنّة ثمّ يروم أن يطّلع علي تفاصيل ما جاء به النبيّ صلي الله عليه و آله من تعليم وتشريع، والقرآن ناصّ بحجّيّة قول النبيّ صلي الله عليه و آله وسيرته، وناصّ ببقاء الدين حيّاً ما بقي الدهر، ولو جاز بطلان السنّة من رأس لم يبق للقرآن أثر ولا لإنزاله ثمر؟!

أو أنّه يريد أنّ الشيعة دسّوا هذه الأحاديث في جوامع الحديث وکتبهم وکتب التاريخ، فيعود محذور سقوط السنّة وبطلان الشيعة، بل تکون البلوي أعمّ، والفساد أتمّ.

قال محمّد عبده: ولکن واضعيها لم يحسنوا تطبيقها علي الآية، فإنّ کلمة «نِسَاءَنَا» لا يقولها العربي ويريد بها بنته، سيّما إذا کان له أزواج ولا يفهم هذا من لغتهم، وأبعد من ذلک، أن يراد ب «أَنفُسَنَا» عليّ عليه السلام.

أقول في دفعه: فتلک کلمة واهية، وإنّي أتعجّب من رجل يعدّ من المفسّرين، وله تلامذة يأخذون منه التفسير، ومع ذلک يتکلّم بکلام ليس له قدر عند أهل التحقيق، أما قرأ هذه الآية الشريفة: «وَإِن کَانُوا إِخْوَةً رِجَالاً وَنِسَاءً فَلِلْذَّکَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ».[5] يعني إذا کان ورثة الميّت إخوة أبناءً وبناتاً فللابن سهمان، وللبنت سهم واحد، ففي هذه الآية اُطلقت کلمة النساء علي البنات بلا خلافٍ.

وأما قرأ هذه الآية الشريفة: «يُوصِيکُمُ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِکُم لِلْذَّکَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِن کُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ»[6] فلماذا يقول (محمّد بن عبده): إنّ کلمة «نِسَاءَنَا» لا يقولها العربي ويريد بها بنته؟ ألم ينزل القرآن بلسان عربيّ مبين؟!

وأمّا قوله: وأبعد من ذلک أن يراد ب «أَنفُسَنَا» عليّ عليه السلام: فلاحظ کلام الواحدي النيشابوري، وهو من أعلام القرن الرابع، ومن أعاظم علماء العامّة، فإنّه قال: قال جابر بن عبداللَّه: فنزلت فيهم (في أهل الکساء) هذه الآية «فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَکُمْ» الآية.[7] فاراد من لفظه «أَنفُسَنَا» هو عليّ بن أبي طالب عليه السلام.

و لاحظ قول الشعبي: «أَبْنَاءَنَا» الحسن والحسين، «وَأَنفُسَنَا» فاطمة، «وَأَنفُسَنَا» عليّ بن أبي طالب عليه السلام.[8] .

و لاحظ ايضاً قول البغوي: «أَبْنَاءَنَا» أراد الحسن والحسين، «وَنِسَاءَنَا» فاطمة، «وَأَنفُسَنَا» عني نفسه وعليّ.[9] .

ايضاً ان قال ابن حجر الهيتمي المکّي: نقل عن عبدالرحمن بن عوف حديث، يدلّ علي أنّ نفس النبي صلي الله عليه و آله هو عليّ بن أبي طالب عليه السلام حيث قال: لمّا فتح رسول اللَّه صلي الله عليه و آله مکّة انصرف إلي الطائف، فحصرها سبع عشرة ليلة أو تسع عشرة ليلة، ثمّ قام خطيباً، فحمد اللَّه وأثني عليه، ثمّ قال: «اُوصيکم بعترتي خيراً، وإنّ موعدکم الحوض، والّذي نفسي بيده لتقيمنّ الصلاة ولتؤتنّ الزکاة، أو لأبعثنّ إليکم رجلاً منّي کنفسي يضرب أعناقکم»، ثمّ أخذ بيد عليّ بن أبي طالب عليه السلام، ثمّ قال: «هو هذا».[10] .

وقال الحافظ أخطب خوارزم: عن المطّلب بن عبداللَّه بن حنطب، قال: قال رسول اللَّه صلي الله عليه و آله لوفد ثقيف حين جاءوه: «لتسلمنّ أو ليبعثنّ اللَّه رجلاً منّي - أو قال: مثل نفسي - فليضربنّ أعناقکم بالسيف».[11] .

وقال أيضاً أن عائشة قالت: مَن خير النّاس بعدک، يا رسول اللَّه؟ قال: «عليّ بن أبي طالب، هو نفسي، وأنا نفسه».[12] .

وغير ذلک من الروايات المأثورة عن النبيّ صلي الله عليه و آله، الدالّة علي أنّ عليّاً عليه السلام کنفس محمّد صلي الله عليه و آله، ولا يمکن إنکاره.[13] .

ثمّ إنّه مع الشکّ والترديد في استعمال لفظ النساء في فاطمة عليهاالسلام، والنفس في عليّ عليه السلام، هل يوجب ذلک أن يطرح هذه الروايات علي کثرتها في أنّ الآية نزلت في عليّ وفاطمة والحسنين عليهم السلام، ثمّ يطعن علي رواتها وکلّ مَن تلقّاها بالقبول ويرميهم بما ذکره؟![14] .

ففق وبالجملة إيراد محمّد عبده واهٍ خالٍ عن الاعتبار والدقّة ولا يعتني به.







  1. تفسير المنار 322:3.
  2. التفسير الکبير 80:8.
  3. راجع للاطّلاع علي طرق الحديث: سعد السعود: 91.
  4. راجع: صحيح مسلم 1471:4، سنن الترمذي 225:5، مصابيح السنّة 183:4، الکامل في التاريخ 293:2، أسباب النزول للواحدي: 60، تفسير الرازي 81:8، تفسير أبي السعود 46:2، فتح القدير 347:1 و 348، معالم التنزيل 480:1، جامع الاُصول 470:9، تفسير الآلوسي 188:3، وغيرها. ومن أراد التوسّع في الاطّلاع علي کتب العامّة الناقلة لحديث أهل نجران وآية المباهلة فليراجع إحقاق الحقّ 46:3، فإنّه روي عن کثير من کتب العامّة من التفسير والتاريخ والحديث بلغت 53 کتاباً، کصحيح مسلم بن الحجّاج، ومسند أحمد بن حنبل، وتفسير الطبري، ومستدرک الحاکم، ومعرفة علوم الحديث للحاکم، ودلائل النبوّة لأحمد بن عبداللَّه الاصبهاني، وتفسير الثعلبي، وغيرها کثير.
  5. سورة النساء: 176.
  6. سورة النساء: 11.
  7. سورة آل عمران: 61.
  8. عن أسباب النزول: 60.
  9. معالم التنزيل 480:1.
  10. الصواعق المحرقة: 126.
  11. المناقب للخوارزمي: 81.
  12. المناقب للخوارزمي: 90.
  13. من أراد أکثر ممّا ذکرناه، فليراجع البحار 296:38 و 311 و 49:37 و 107:20، وليراجع أيضاً تذکرة الخواصّ وينابيع المودّة.
  14. ومن أراد جواب إشکاله أکثر توضيحاً فليراجع کتاب تفسير الميزان 264 - 257: 3، فقد أعرضنا عن ذکره هنا طلباً للاختصار.