دلالة الآية علي أفضلية أهل البيت علي غيرهم











دلالة الآية علي أفضلية أهل البيت علي غيرهم



الآية تأمر بدعوة الأبناء والنساء والأنفس بصيغ الجمع، وامتثال هذا الأمر يقتضي إحضار ثلاثة نفر علي الأقلّ من کلّ جنس تحقيقاً لمعني الجمع، لکنّ الّذي أتي به النبيّ صلي الله عليه و آله في مقام امتثال هذا الأمر علي ما تشهد به الأخبار الصحاح والتاريخ لم يکن کذلک، وليس لفعله صلي الله عليه و آله وجه إلّا انحصار المصداق فيما أتي به، فالآية بالنظر إلي کيفيّة امتثالها بما فعل النبيّ صلي الله عليه و آله تدلّ علي أنّ هؤلاء هم الذين کانوا صالحين للاشتراک معه في المباهلة، وأنّهم أحبّ الخلق إليه، وأعزّهم عليه، وأخصّ خاصّته لديه، وکفي بذلک فخراً وفضلاً.

ويؤکّد دلالتها علي ذلک أنّه صلي الله عليه و آله کان له عدّة نساء، ولم يأت بواحدة منهنّ سوي بنت له، فعَلَام يحمل ذلک إلّا علي شدّة اختصاصها وحبّه لها؛ لأجل قربها إلي اللَّه وکرامتها عليه؟

کما أنّ انطباق عنوان (النفس) علي أمير المؤمنين عليه السلام لا غير، يدلّ علي أعظم فضيلة، و أکرم مزيّة له عليه السلام، حيث نزل منزلة نفس النبيّ صلي الله عليه و آله.[1] .

و قال العلّامة القاضي السيّد نور اللَّه الحسيني المرعشي التستري: و هذه الآية من أدلّ دليل علي علوّ مرتبة مولانا أمير المؤمنين عليه السلام؛ لأنّه تعالي حکم بالمساواة لنفس رسول اللَّه صلي الله عليه و آله، وأنّه عيّنه في استعانة النبيّ صلي الله عليه و آله في الدعاء، وأيّ فضيلة أعظم من أن يأمر اللَّه تعالي نبيّه بأن يستعين به علي الدعاء إليه، والتوسّل به، ولمن حصلت هذه المرتبة؟[2] .

و الطبرسي في تفسيره ذيل الآية: «إِنَّ مَثَلَ عِيسَي عِندَ اللَّهِ کَمَثَلِ آدَمَ» الآية، - بعد نقل قصّة أهل نجران - قال ما ملخّصه: أجمع المفسّرون علي أنّ المراد ب «أَبْنَاءَنَا» الحسن والحسين عليهماالسلام، واتّفقوا علي أنّ المراد ب «نِسَاءَنا» فاطمة عليهاالسلام؛ لأنّه لم يحضر المباهلة غيرها من النساء، وهذا يدلّ علي تفضيل الزهراء عليهاالسلام علي جميع النساء، و «أَنفُسَنَا» يعني عليّاً عليه السلام خاصّة، ولا يجوز أن يکون المعنيّ به النبيّ صلي الله عليه و آله؛ لأنّه هو الداعي، ولا يجوز أن يدعو الإنسان نفسه، وإنّما يصحّ أن يدعو غيره.

وإذا کان قوله: «وَأَنفُسَنَا» لا بدّ أن يکون إشارة إلي غير الرسول صلي الله عليه و آله وجب أن يکون إشارة إلي عليّ عليه السلام؛ لأنّه لا أحد يدّعي دخول غير أمير المؤمنين عليّ عليه السلام وزوجته وولديه في المباهلة.

وهذا يدلّ علي غاية الفضل، وعلوّ الدرجة، والبلوغ منه إلي حيث لا يبلغه أحد؛ إذ جعله اللَّه نفس الرسول، وهذا ما لا يدانيه فيه أحد ولا يقاربه، ولذا ورد في الحديث أنّه صلي الله عليه و آله قال لبريدة الأسلمي: «يا بريدة، لا تبغض عليّاً، فإنّه منّي وأنا منه، إنّ النّاس خُلقوا من شجر شتّي، وخُلقت أنا وعليّ من شجرة واحدة».[3] .

و عن المفيد بعد نقل قصّة أهل نجران و في فضل أمير المؤمنين عليه السلام مع ما فيه من الآية للنبيّ صلي الله عليه و آله، والمعجز الدالّ بنبوّته، قال: ألا تري إلي اعتراف النصاري له بالنبوّة، وقطعه عليه السلام علي امتناعهم من المباهلة، وعلمهم بأنّهم لو باهلوه لحلّ بهم العذاب، وثقته صلي الله عليه و آله بالظفر بهم، والفلج بالحجّة عليهم، وأنّ اللَّه تعالي حکم في آية المباهلة لأمير المؤمنين عليه السلام بأنّه نفس رسول اللَّه صلي الله عليه و آله، کاشفاً بذلک عن بلوغه نهاية الفضل، ومساواته للنبيّ في الکمال والعصمة من الآثام.

وأنّ اللَّه تعالي جعله وزوجته وولديه مع تقارب سنّهما حجّة لنبيّه صلي الله عليه و آله، وبرهاناً علي دينه، ونصّ علي الحکم بأنّ الحسن والحسين عليهماالسلام أبناؤه، وأنّ فاطمة عليهاالسلام نساؤه المتوجّه إليهنّ الذِّکر والخطاب في الدعاء إلي المباهلة والاحتجاج.

وهذا فضلٌ لم يشرکهم فيه أحد من الاُمّة، ولا قاربهم فيه، ولا ماثلهم في معناه، وهو لاحق بما تقدّم من مناقب أمير المؤمنين عليه السلام الخاصّة له علي ما ذکرناه.[4] .

ونذکر هنا ما استفاد الإمام السيّد شرف الدين من الآية الشريفة في فضل أهل الکساء، حيث قال: فباهل النبيّ صلي الله عليه و آله بأهل الکساء خصومه من أهل نجران، فبهلهم، واُمّهات المؤمنين کنّ حينئذٍ في حجراته، ولم يدع واحدة منهنّ، وهنّ بمرأي منه ومسمع، ولا واحدة من نساء الخلفاء الثلاثة وغيرهم من المهاجرين والأنصار.

کما أنّه لم يدع مع سيّدي شباب أهل الجنّة أحداً من أبناء الهاشميّين علي أنّهم کانوا، ولا دعا أحداً من أبناء الصحابة علي کثرتهم ووفور فضلهم.

وکذلک لم يدع من الأنفس مع عليّ عليه السلام عمّه، وصنو أبيه، العبّاس بن عبدالمطّلب، وهو شيخ الهاشميّين، وأعظم النّاس عند رسول اللَّه صلي الله عليه و آله، بل لم يدع أحداً من کافّة عشيرته الأقربين، ولا واحداً من السابقين الأوّلين، وکانوا بمرأي من المباهلة ومسمع، بل لم ينتدب واحداً منهم مع مَن انتدبهم إليها، وإنّما خرج صلي الله عليه و آله، کما نصّ عليه الرازي في تفسيره الکبير: وعليه مرط من شعر أسود وقد احتضن الحسين وأخد بيد الحسن، وفاطمة تمشي خلفه، وعليّ خلفهما، وهو يقول: «إذا أنا دعوت فأمّنوا»، فقال اُسقف نجران: يا معشر النصاري، إنّي لأري وجوهاً لو سألوا اللَّه أن يزيل جبلاً لأزاله بها، فلا تباهلوهم فتهلکوا، ولا يبقي علي وجه الأرض نصراني إلي يوم القيامة.[5] .

ثمّ قال السيّد شرف الدين: وهذا ليس إلّا للجلالة الربّانيّة، والعظمة الروحانيّة الّتي أدرکها خصمهم من أوّل نظرة إلي وجوههم المبارکة، فکأنّ الجلالة والعظمة والمهابة والاُبّهة وقرب المنزلة من اللَّه، والکرامة عليه مکتوبة بنوره تعالي في أسارير جباههم الميمونة، ومعنونة في صفحات وجناتهم الکريمة، وإنّي لأعجب واللَّه من المسلم لا يقدّر هذا المقام قدره.

وأنت تعلم أنّ مباهلته صلي الله عليه و آله بهم، والتماسه منهم التأمين علي دعائه بمجرّده فضل عظيم، وانتخابه إيّاهم لهذه المهمّة العظيمة، واختصاصهم بهذا الشأن الکبير، وإيثارهم فيه علي مَن سواهم من أهل السوابق فضل علي فضل لم يسبقهم إليه سابق، ولن يلحقهم فيه لاحق.

وهناک نکتةٌ يعرف کنهها علماء البلاغة، ويقدّر قدرها العارفون بأسرار القرآن، وهي أنّ الآية ظاهرة في عموم الأبناء والنساء والأنفس، کما يشهد به علماء البيان، وإنّما اُطلقت هذه العمومات عليهم بالخصوص تبياناً لکونهم ممثّلي الإسلام، وإعلاناً لکونهم أکمل الأنام، وآذاناً بکونهم صفوة العالم، وبرهاناً علي أنّهم خيرة الخيرة من بني آدم، وتنبيهاً إلي أنّ فيهم من الروحانيّة الإسلاميّة، والإخلاص للَّه في العبودية ما ليس في جميع البريّة، وأنّ دعوتهم إلي المباهلة بحکم دعوة الجميع وحضورهم خاصّة فيها منزّل منزلة حضور الاُمّة، وتأمينهم علي دعائه مغنٍ عن تأمين من عداهم، وبهذا جاز التجوّز بإطلاق تلک العمومات عليهم بالخصوص. ومن غاص في أسرار الکتاب الحکيم، ووقف علي أغراضه يعلم أنّ إطلاق هذه العمومات عليهم بالخصوص إنّما هو علي حدّ قول القائل:


ليس علي اللَّه بمستنکر
أن يجمع العالم في واحد


بقيت نکتةٌ يجب التنبّه لها، وحاصلها: أنّ اختصاص الزهراء عليهاالسلام من النساء والمرتضي عليه السلام من الأنفس - مع عدم الاکتفاء بأحد السبطين عليهماالسلام من الأبناء - دليل علي ما ذکرناه من تفضيلهم عليهم السلام؛ لأنّ عليّاً وفاطمة عليهماالسلام لمّا لم يکن لهما نظير في الأنفس والنساء کان وجودهما مغنياً عن وجود من سواهما، بخلاف کلّ من السبطين، فإنّ وجود أحدهما لا يغني عن وجود الآخر لتکافئهما؛ ولذا دعاهما صلي الله عليه و آله جميعاً، ولو دعا أحدهما دون صنوه کان ترجيحاً بلا مرجّح، وهذا ينافي الحکمة والعدل. نعم، لو کان ثمّة من الأبناء من يساويهما لدعاه معهما، کما أنّه لو کان لعليّ عليه السلام نظير من الأنفس أو لفاطمة عليهاالسلام من النساء لما حاباهما، عملاً بقاعدة الحکمة والعدل والمساواة.

ثمّ قال: وأنت هداک اللَّه إذا عرفت أنّ اللَّه تبارک وتعالي قد أنزل نفس عليّ عليه السلام منزلة نفس النبيّ صلي الله عليه و آله، وأجراها في محکم الذِّکر مجراها لا يرتاب حينئذٍ في أنّه أفضل الاُمّة وأولاها برسول اللَّه صلي الله عليه و آله حيّاً وميّتاً، وقد صرّح أولياء أهل البيت، واعترف أعداؤهم بدلالة الآية علي هذا التفضيل الخالد في القرآن ذکره، والطيّب في بيّنات الفرقان نشره، حتّي إنّ الرازي مع غرامه بنقض المحکمات، وهيامه في التشکيک والشبهات، لم يناقش في دلالتها علي هذا المقدار من تفضّله عليه السلام، وإنّما ناقش محمود بن الحسن، حيث صرّح بدلالتها علي تفضيله علي من کان قبل محمّد من الأنبياء (عليه وعليهم السلام)، وإليک عبارة الرازي بعين لفظه، قال: کان في الري رجل يقال له محمود بن الحسن الحمصي، وکان معلم الاثني عشريّة، وکان يزعم أنّ عليّاً عليه السلام أفضل من جميع الأنبياء، سوي محمّد صلي الله عليه و آله، واستدلّ علي ذلک بقوله تعالي: «وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَکُمْ»؛ إذ ليس المراد بقوله: «وَأَنفُسَنَا» نفس محمّد صلي الله عليه و آله؛ لأنّ الإنسان لا يدعو نفسه، بل المراد غيرها، وأجمعوا علي أنّ ذلک الغير کان عليّ بن أبي طالب عليه السلام، فدلّت الآية علي أنّ نفس عليّ عليه السلام هي نفس محمّد صلي الله عليه و آله، ولا يمکن أن يکون المراد أنّ هذه النفس هي عين تلک، فالمراد أنّ هذه النفس مثل تلک النفس، وذلک يقتضي المساواة في جميع الوجوه، ترکنا العمل بهذا العموم في حقّ النبوّة، وفي حقّ الفضل لقيام الدلائل علي أنّ محمّداً صلي الله عليه و آله کان نبيّاً، وما کان عليّ عليه السلام کذلک، ولانعقاد الإجماع علي أنّ محمّداً صلي الله عليه و آله کان أفضل من عليّ عليه السلام، فبقي فيما وراءه معمولاً به، ثمّ الإجماع دلّ علي أنّ محمّداً صلي الله عليه و آله کان أفضل من سائر الأنبياء عليهم السلام، فيلزم أن يکون عليّ عليه السلام أفضل من سائر الأنبياء،...[6] .

ويؤيّد ذلک احتجاج مولانا أمير المؤمنين عليه السلام بهذه الفضيلة يوم الشوري، واعتراف القوم بها، وعدم إنکارهم عليه، حيث قال عليّ عليه السلام: «اُنشدکم اللَّه، هل فيکم أحد أقرب إلي رسول اللَّه صلي الله عليه و آله في الرحم منّي؟ ومن جعله نفسه، وأبناءه أبناءه، ونساءه نساءه، غيري؟» قالوا: اللّهمّ لا.[7] .

و کذا يؤيّد ذلک احتجاج عليّ عليه السلام علي أبي بکر، حيث قال عليه السلام: «فاُنشدک اللَّه، أَبِيَ برز رسول اللَّه صلي الله عليه و آله وبأهلي وولدي في مباهلة المشرکين من النصاري، أم بک وبأهلک وبولدک؟»، قال: بکم.[8] .







  1. انظر الولاية في القرآن: 134.
  2. إحقاق الحقّ 62:3.
  3. مجمع البيان 452:2.
  4. الإرشاد 169: 1.
  5. قال الرازي - بعد هذا في تفسيره الکبير 80:8 -: واعلم أنّ هذه الرواية کالمتّفق علي صحّتها بين أهل التفسير والحديث.
  6. الفصول المهمّة للإمام السيّد شرف الدين: 201.
  7. رواه في البحار 266:35، عن ابن حجر في صواعقه: 124.
  8. روي في تفسير نور الثقلين 349:1، عن کتاب الخصال للصدوق.