توضيح ذلك











توضيح ذلک



قال المفيد: ولمّا انتشر الإسلام بعد فتح مکّة وما يليه من الغزوات المذکورة وقوي سلطانه، وفد إلي النبيّ صلي الله عليه و آله الوفود، فمنهم من أسلم، ومنهم من استأمن؛ ليعود إلي قومه برأيه صلي الله عليه و آله فيهم، وکان ممّن وفد عليه أبو حارثة اُسقف نجران في ثلاثين رجلاً من النصاري منهم: العاقب، والسيّد، وعبد المسيح، فقدموا المدينة وقت صلاة العصر، وعليهم لباس الديباج والصُّلب، فصار إليهم اليهود وتساءلوا بينهم، فقالت النصاري لهم: لستم علي شي ء، وقالت لهم اليهود: لستم علي شي ء، وفي ذلک أنزل اللَّه سبحانه: «وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَي عَلَي شَيْ ءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَي لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَي شَيْ ءٍ»[1] الآية. فلمّا صلّي النبيّ صلي الله عليه و آله العصر، توجّهوا إليه يقدمهم الاُسقف فقال له: يا محمّد، ما تقول في السيّد المسيح؟ فقال النبيّ صلي الله عليه و آله: «عبد اللَّه، اصطفاه وانتجبه»، فقال له الاُسقف: أتعرف - يا محمّد - له أباً ولده؟ فقال النبيّ صلي الله عليه و آله: «لم يکن عن نکاح فيکون له والد». قال: فکيف قلت إنّه عبد مخلوق، وأنت لم ترَ عبداً مخلوقاً إلّا عن نکاح وله والد؟ فأنزل اللَّه سبحانه وتعالي الآيات من سورة آل عمران إلي قوله: «إِنَّ مَثَلَ عِيسَي عِندَ اللَّهِ کَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ کُن فَيَکُونُ × الْحَقُّ مِن رَّبِّکَ فَلَا تَکُن مِّنَ الْمُمْتَرِينَ × فَمَنْ حَاجَّکَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَکَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَکُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَکُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَکُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللَّهِ عَلَي الْکَاذِبِينَ».[2] .

فتلاها النبيّ صلي الله عليه و آله علي النصاري، ودعاهم إلي المباهلة، وقال: «اللَّه عزّ وجلّ أخبرني أنّ العذاب ينزل علي المبطل عقب المباهلة ويبيّن الحقّ من الباطل بذلک».

فاجتمع الاُسقف مع عبد المسيح والعاقب علي المشورة، واتّفق رأيهم علي استنظاره إلي صبيحة غدٍ من يومهم ذلک، فلمّا رجعوا إلي رحالهم قال لهم الاُسقف: انظروا محمّداً في غدٍ، فإن جاء بولده وأهله فاحذروا مباهلته، وإن جاء بأصحابه فباهلوه، فإنّه علي غير شي ء.

فلمّا کان من الغد جاء النبيّ صلي الله عليه و آله آخذاً بيد عليّ بن أبي طالب عليه السلام والحسن والحسين عليهماالسلام يمشيان بين يديه، وفاطمة عليهاالسلام تمشي خلفه، وخرج النصاري يقدمهم اُسقفهم، فلمّا رأي الاُسقف النبيّ صلي الله عليه و آله قد أقبل بمن معه سأل عنهم، فقيل له: هذا ابن عمّه عليّ بن أبي طالب عليه السلام وهو صهره وأبو ولديه، وأحبُّ الخلق إليه، وهذان الطفلان ولدا بنته من عليّ عليه السلام، وهما من أحبّ الخلق إليه، وهذه الجارية بنته فاطمة عليهاالسلام أعزّ النّاس عليه، وأقربهم إلي قلبه.

فنظر الاُسقف إلي العاقب والسيّد وعبد المسيح، وقال لهم: انظروا إليه قد جاء بخاصّته من ولده ليباهل بهم واثقاً بحقّه، واللَّه! ما جاء بهم وهو يتخوّف الحجّة عليه، فاحذروا مباهلته، واللَّه! لولا مکان قيصر لأسلمتُ له، ولکن صالحوه علي ما يتّفق بينکم وبينه، وارجعوا إلي بلادکم، وارتؤوا لأنفسکم،. فقالوا له: رأينا لرأيک تبع. فقال الاُسقف: يا أبا القاسم صلي الله عليه و آله، إنّا لا نُباهلک، ولکنّا نصالحک، فصالحنا علي ما ننهض به.

فصالحهم النبيّ صلي الله عليه و آله علي ألفي حلّة من حلل الأواقي، قيمة کلّ حلّة أربعون درهماً جياداً، فما زاد أو نقص کان بحساب ذلک، وکتب لهم النبيّ صلي الله عليه و آله کتاباً علي ما صالحهم عليه، وکان الکتاب.

«بسم اللَّه الرحمن الرحيم، هذا کتاب من محمّدٍ النبيّ رسول اللَّه لنجران وحاشيتها في کلّ صفراء وبيضاء وثمرة ورقيق، لا يؤخذ منهم شي ء غير ألفي حلّة من حُلل الأواقي، ثمنُ کلِّ حلّةٍ أربعون درهماً، فما زاد أو نقص فبحساب ذلک، يؤدّون ألفاً منها في صفر، وألفاً منها في رجب، وعليهم أربعون ديناراً مثواة رسولي فما فوق ذلک، وعليهم في کلِّ حدث يکون باليمن من کلّ ذي عدن عارية مضمونة ثلاثون درعاً، وثلاثون فرساً، وثلاثون جملاً عارية مضمونة، لهم بذلک جوار اللَّه، وذمّة محمّد بن عبداللَّه، فمن أکل الربا منهم بعد عامهم هذا فذمّتي منه بريئة»، وأخذ القوم الکتاب وانصرفوا.[3] .







  1. سورة البقرة: 113.
  2. سورة آل عمران: 61 - 59.
  3. إرشاد المفيد 169 - 166: 1، وفي کشف الغمّة - باب المناقب 313:1، مع تفاوت يسير في بعض ألفاظه.