ذكر وفد نجران علي النبيّ و واقعة المباهلة











ذکر وفد نجران علي النبيّ و واقعة المباهلة



من حوادث سنة عشر من الهجرة قدوم وفد نجران[1] علي النبيّ صلي الله عليه و آله بالمدينة، وکانوا ثلاثين، وقيل ستّين راکباً، ومنهم السيّد والعاقب وعبد المسيح (ورأسهم أبو حارثة اُسقف نجران)، وجاءوه يجادلونه في شأن عيسي بن مريم عليه السلام، ودخلوا المسجد النبوي وعليهم ثياب الحبرة، وأردية الحرير، متختّمين بخواتيم الذهب، ومعهم هدية لرسول اللَّه صلي الله عليه و آله، وهي بسط فيها تماثيل ومسوح، فصار الناس ينظرون للتماثيل. فقال صلي الله عليه و آله: «أمّا هذه البسط فلا حاجة لي فيها، وأمّا هذه المسوح فإن تعطونيها آخذها»، فقالوا: نعطيکها.

ولمّا رأي فقراء المسلمين ما عليه هؤلاء من الزينة والزيّ الحسن تشوّقت نفوسهم إلي الدنيا، فأنزل اللَّه تعالي: «قُلْ أَؤُنَبِّئُکُم بِخَيْرٍ مِّن ذَ لِکُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالعِبَادِ».[2] .

وأمّا وفد نجران فإنّهم أرادوا أن يصلّوا بالمسجد بعد أن حان وقت صلاتهم وذلک بعد صلاة العصر، فأراد النّاس منعهم لما فيه من إظهار دينهم الباطل، فقال رسول اللَّه صلي الله عليه و آله: «دعوهم»؛ تألفاً لهم، ورجاءً لإسلامهم، ولدخولهم بالأمان، فأقرّهم علي کفرهم سياسة، وليس فيه إقرار علي الباطل، بل جعل ذلک وسيلة لدخولهم في الحقّ، فاستقبلوا المشرق فصلّوا صلاتهم، فعرض عليهم صلي الله عليه و آله الإسلام وتلا عليهم القرآن، فامتنعوا، وقالوا: قد کُنّا مسلمين قبلک! فقال صلي الله عليه و آله: «کذبتم، يمنعکم من الإسلام ثلاث: عبادتکم الصليب، وأکلکم الخنزير، وزعمکم أنّ للَّهِ ولداً».[3] .

فقالوا: ما شأنک تذکر صاحبنا، وتزعم أنّه عبد؟ فقال صلي الله عليه و آله: «أجل، هو عبد اللَّه، وکلمته ألقاها إلي مريم»، فغضبوا وقالوا: فهل رأيتَ مثل عيسي أو اُنبئت به؟ فسکت صلي الله عليه و آله، ثمّ خرجوا من عنده، فنزل جبرئيل وقال له: قل لهم: «لَقَدْ کَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ»[4] وقوله تعالي: «إِنَّ مَثَلَ عِيسَي عِندَ اللَّهِ کَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ کُن فَيَکُونُ × الْحَقُّ مِن رَّبِّکَ فَلَا تَکُن مِّنَ الْمُمْتَرِينَ × فَمَنْ حَاجَّکَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَکَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَکُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَکُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَکُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللَّهِ عَلَي الْکَاذِبِينَ».[5] .

فقال رسول اللَّه صلي الله عليه و آله لهم: «إنّ اللَّه أمرني إن لم تنقادوا للإسلام أن اُباهلکم».[6] فقالوا له: يا أبا القاسم، نرجع فننظر في أمرنا، ثمّ نأتيک، فتشاوروا في أمرهم أن يصالحوه ولا يلاعنوه.

وفي لفظ: أنّهم واعدوه علي الغد، فلمّا أصبح صلي الله عليه و آله أقبل ومعه الحسن والحسين وفاطمة وعليّ عليهم السلام، وقال: «اللّهمّ هؤلاء أهلي»، وعند ذلک قال لهم الاُسقف: إنّي لأري وجوهاً لو سألوا اللَّه تعالي أن يزيل لهم جبلاً لأزاله، فلا تباهلوا فتهلکوا، ولا يبقي علي وجه الأرض نصرانيّ، فقالوا: لا نباهلک.

ويروي عن النبيّ صلي الله عليه و آله أنّه قال: «أما والّذي نفسي بيده، لقد تدلّي العذاب علي أهل نجران، ولو لاعنوني لمسخوا قردة وخنازير، ولاُضرم الوادي عليهم ناراً، ولاستأصل اللَّه نجران وأهله حتّي الطير علي الشجر، ولا حال الحول علي النصاري حتي يهلکوا».[7] .

و قال ابن الأثير: وأمّا نصاري نجران فإنّهم أرسلوا العاقب والسيّد في نفر إلي رسول اللَّه صلي الله عليه و آله، وأرادوا مباهلته، فخرج رسول اللَّه صلي الله عليه و آله ومعه عليّ وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام، فلمّا رأوهم قالوا: هذه وجوه لو أقسمت علي اللَّه أن يزيل الجبال لأزالها، ولم يباهلوا وصالحوه علي ألفي حُلّة، ثمن کلّ حلّة أربعون درهماً، وعلي أن يضيفوا رسل رسول اللَّه صلي الله عليه و آله، وجعل لهم ذمّة اللَّه تعالي وعهده ألّا يفتنوا عن دينهم، ولا يعشروا، وشرط عليهم أن لا يأکلوا الربا ولا يتعاملوا به، وکانوا باقون إلي عهد عمر بن الخطّاب، فإنّ عمر أجلي أهل الکتاب عن الحجاز وأجلي أهل نجران، فخرج بعضهم إلي الشام، وبعضهم إلي نجرانيّة الکوفة، واشتري منهم عقارهم وأموالهم.[8] .

و للزمخشري - بعد نقل قصّة وفد نجران ودعوتهم رسول اللَّه صلي الله عليه و آله إلي المباهلة وامتناعهم - قال: فإن قلت: ما کان دعاؤه إلي المباهلة إلّا ليتبيّن الکاذب منه ومن خصمه، وذلک أمرٌ يختصّ به وبمن يکاذبه. فما معني ضمّ الأبناء والنساء؟

قلت: ذلک آکد في الدلالة علي ثقته بحاله واستيقانه بصدقه، حيث استجرأ علي تعريض أعزته، وأفلاذ کبده، وأحبّ النّاس إليه لذلک، ولم يقتصر علي تعريض نفسه له، وعلي ثقته بکذب خصمه حتّي يهلک خصمه مع أحبّته وأعزّته هلاک الاستئصال إن تمّت المباهلة، وخصّ الأبناء والنساء؛ لأنّهم أعزّ الأهل وألصقهم بالقلوب.[9] .







  1. نجران: بلدة کبيرة علي سبع مراحل من مکّة إلي جهة اليمين، وتشتمل علي ثلاث وسبعين قرية، وکان أهلها نصاري.
  2. سورة آل عمران: 15.
  3. لأنّ بعضهم يقول: المسيح هو ابن اللَّه، وأنّه لا أب له، وقال آخر: المسيح هو اللَّه؛ لأنّه أحيا الموتي، وأخبر عن الغيوب، وأبرأ من الادواء کلّها و...
  4. سورة المائدة: 17.
  5. سورة آل عمران: 61 - 59.
  6. اُباهلکم: أي ندعو ونجتهد في الدعاء باللعنة علي الکاذبين.
  7. راجع: السيرة الحلبيّة 411:3، وبهامشه السيرة النبويّة 4:4.
  8. الکامل في التاريخ 294:2.
  9. تفسير الکشّاف 434:1.