خدعة معاوية ورفع المصاحف ونهاية القتال











خدعة معاوية ورفع المصاحف ونهاية القتال



اقترب الجيش العلوي من الفتح، ولاح لهم الظفر والنصر، وتوجّه الخطر إلي معاوية ولم يستطع المقاومة إلّا عن طريق الخدعة والمکر، فأمر معاوية أصحابه في جوف الليل أن يربطوا المصاحف علي رؤوس الرماح، وأصبح الصباح وإذا بأهل العراق يشاهدون خمسمائة مصحف علي رؤوس الرماح، وأهل الشام ينادون بما تقدّم من کلامهم، ويستعطفون أهل العراق ويطلبون منهم ترک الحرب، وکان آخر کلامهم: «هذا کتاب اللَّه بيننا وبينکم».

قال أبو مخنف: فلمّا رأي عمرو بن العاص أنّ أمر أهل العراق قد اشتدّ وخاف في ذلک الهلال، قال لمعاوية: هل لک في أمر أعرضه عليک لا يزيدنا إلّا اجتماعاً، ولا يزيدهم إلّا فرقة؟ قال: نعم.

قال عمرو: نرفع المصاحف ثمّ نقول: ما فيها حکم بيننا وبينکم، فإن أبي بعضهم أن يقبلها وجدت فيهم من يقول: بلي ينبغي أن نقبل، فتکون فرقة تقع بينهم، وإن قالوا: بلي نقبل ما فيها، رفعنا هذا القتال عنّا، وهذه الحرب إلي أجل أو إلي حين، فرفعوا المصاحف بالرماح وقالوا: هذا کتاب اللَّه عزّ وجلّ بيننا وبينکم، مَن لثغور أهل الشام بعد أهل الشام؟ ومَن لثغور أهل العراق بعد أهل العراق، فلمّا رأي النّاس المصاحف قد رفعت، قالوا: نجيب إلي کتاب اللَّه وننيب إليه.[1] .

وروي المسعودي: وکان الأشتر في هذا اليوم - وهو يوم الجمعة - علي ميمنة عليّ عليه السلام، وقد أشرف علي الفتح، ونادت مشيخة أهل الشام: يا معشر العرب، اللَّه اللَّه في الحرمات والنساء والبنات، وقال معاوية: هلمّ مخبّاتک - يابن العاص - فقد هلکنا، وتذکّر ولاية مصر.

فقال عمرو: أيّها النّاس، مَن کان معه مصحف فليرفعه علي رُمحه، فکثر في الجيش رفع المصاحف، وارتفعت الضجّة، ونادوا: کتاب اللَّه بيننا وبينکم، من لثغور الشام بعد أهل الشام؟ ومَن لثغور العراق بعد أهل العراق؟ ومَن لجهاد الروم؟ ومَن للترک؟ ومَن للکفّار؟ ورفع في عسکر معاوية نحو من خمسمائة مصحف، وفي ذلک يقول النجاشي بن الحارث:


فأصبح أهل الشام قد رفعوا القنا
عليها کتاب اللَّه خير قُرَان


ونادوا عليّاً! يابن عمّ محمّد
أما تتّقي أن يَهلک الثقلانِ


فلمّا رأي کثير من أهل العراق ذلک قالوا: نُجيب إلي کتاب اللَّه ونُنيب إليه، وأحبّ القوم الموادعة.

وقيل لعليّ عليه السلام: قد أعطاک معاوية الحقّ، ودعاک إلي کتاب اللَّه فأقبل منه، وکان أشدّهم في ذلک الأشعث بن قيس.[2] .

و روي الطبري: عن جندب الأزدي: إنّ عليّاً عليه السلام قال: «عباد اللَّه، امضوا علي حقّکم وصدقکم، وقتال عدوّکم، فإنّ معاوية وعمرو بن العاص وابن أبي معيط وحبيب بن مسلمة وابن أبي سرح والضحّاک بن قيس، ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن، أنا أعرف بهم منکم، قد صحبتهم أطفالاً ثمّ رجالاً، فکانوا شرّ أطفال وشرّرجال، ويحکم إنّهم ما رفعوها ثمّ لا يرفعونها ولا يعلمون بما فيه وما رفعوها لکم إلّا خديعة ووهناً[3] ومکيدة».[4] .

وعن ابن الأثير بعد نقل خديعة معاوية ورفع المصاحف، قال: فقالوا لعليّ عليه السلام: ابعث إلي الأشتر فليأتک تستدعيه، فبعث عليّ يزيد بن هاني إلي الأشتر يستدعيه، فقال الأشتر: ليست هذه الساعة بالساعة الّتي ينبغي لک أن تزيلني فيها عن موقفي، إنّي قد رجوتُ أن يفتح اللَّه لي، فرجع يزيد فأخبره وارتفعت الأصوات، وارتفع الرهج من ناحية الأشتر، فقالوا: واللَّه! ما نراک إلّا أمرته أن يقاتل؟ فقال عليّ عليه السلام: «هل رأيتموني ساررته؟ أليس کلّمتُه علي رؤوسکم وأنتم تسمعون؟»، قالوا: فابعث إليه فليأتک وإلّا واللَّه اعتزلناک!! فقال له: «ويلک - يا يزيد - قل له: أقبل إليَّ فإنّ الفتنة قد وقعت؟» فأبلغه ذلک، فقال الأشتر: ألرفع المصاحف؟ قال: نعم، قال: واللَّه، لقد ظننت أنّما ستوقع اختلافاً وفرقة! إنّها مشورة ابن العاهر[5] ألا تري إلي الفتح؟ ألا تري ما يلقون؟ ألا تري ما صنع اللَّه لنا؟ لن ينبغي أن أدع هؤلاء وأنصرف عنهم.

فقال له يزيد: أتحبّ أن تظفر وأمير المؤمنين يسلّم إلي عدوّه أو يُقتل؟ قال: لا واللَّه، سبحان اللَّه، فأعلمه بقولهم، فأقبل إليهم الأشتر وقال: يا أهل العراق، يا أهل الذلّ والوهن! أحين علوتم القوم وظنّوا أنّکم لهم قاهرون رفعوا المصاحف يدعونکم إلي ما فيها وهم واللَّه قد ترکوا ما أمر اللَّه به فيها، وسنّة من اُنزلت عليه؟ فأمهلوني فواقاً فإنّي أحسستُ بالفتح؟ قالوا: لا، قال: أمهلوني عدو الفرس، فإنّي قد طمعتُ في النصر؟ قالوا: إذن ندخل معک في خطيئتک - الحديث.[6] .







  1. تاريخ الطبري 34:4.
  2. مروج الذهب 400:3، وفي الکامل 386:2، نحوه.
  3. في المصدر: «دهناً».
  4. تاريخ الطبري 34:4.
  5. کذا في الکامل، وفي تاريخ الطبري: «ابن العاهرة»، وفي وقعة صفّين: «ابن النابغة»، وهو عمرو بن العاص.
  6. الکامل في التاريخ 386:2، وفي تاريخ الطبري 34:4، نحوه.