ليلة الهرير وانهزام جُند معاوية











ليلة الهرير وانهزام جُند معاوية[1]



.

روي ابن الجوزي: عن هشام بن محمّد أنّه قال: لمّا قتل عمّار وهاشم المرقال بعده، قال عليّ عليه السلام لربيعة همدان: «أنتم درعي ورمحي»، فانتدب له اثنا عشر ألفاً، وحمل القوم فانتقضت صفوف معاوية، وکان عليّ عليه السلام قد أخرج في ذلک اليوم لواء رسول اللَّه صلي الله عليه و آله ولم يخرجه قبل ذلک، فدفعه إلي قيس بن سعد بن عبادة، فلمّا رآه المسلمون صرخوا وبکا، واجتمع تحته أهل بدر والأنصار والمهاجرين، وقيس بن سعد يقول:


هذا اللواء الّذي کنّا نحفّ به
دون النبيّ وجبريل لنا مدد


ما ضرّ من کانت الأنصار عيبته[2] .
أن لا يکون له من غيرهم عضد


ثمّ اتّصل القتال في الليل، وکانت ليلة الجمعة، فاقتتلوا طول الليل، وهي ليلة الهرير، الثامن والعشرون من صفر، تطاعنوا بالرماح حتّي تقصّفت، وکلّت السيوف، ونفد النبل، وخفيت الأصوات، وغابت الأخبار عن عليّ عليه السلام ومعاوية والاُمراء، ولم يسمع إلّا الهرير يهرّ بعضهم علي بعض، وأصبح النّاس والقتال بحاله، وابن عبّاس في الميمنة، والأشتر في الميسرة، وعليّ عليه السلام في القلب، فبعث إلي الأشتر: «تقدّم»، وأمدّه بالرجال، فحمل حملة انتقضت منها صفوف معاوية وأيقن بالتلف، فالتفت إلي عمرو، وقال: هل من حيلة؟... فقال: ارفع المصاحف علي الرماح ونادِ: بيننا وبينکم کتاب اللَّه، فما يزيدهم ذلک إلّا فرقة ولا يزيدنا إلّا اجتماعاً - الحديث.[3] .

قال أبان بن أبي عيّاش: وسمعت سليم يقول، وسألته هل شهدت صفّين؟ فقال: نعم، قلت: هل شهدت يوم الهرير؟ قال: نعم، قلت: کم کان أتي عليک من السنّ؟ قال: أربعون سنة، قلت: فحدّثني رحمک اللَّه؟ قال: نعم، مهما نسيت من شي ء من الأشياء فلا أنسي هذا الحديث، ثمّ بکي، وقال: صَفّوا وصففنا، فخرج مالک الأشتر علي فرس أدهم وسلاحه معلّق علي فرسه وبيده الرمح، وهو يقرع به رؤوسنا ويقول: أقيموا صفوفکم... فأقبل علينا بوجهه، فحمد اللَّه وأثني علي النبيّ صلي الله عليه و آله... ثمّ التقي القوم فکان بينهم أمر عظيم، فتفرّقوا عن سبعين ألف قتيل من جحاجحة العرب، وکانت الرقعة يوم الخميس من حيث استقلّت الشمس حتّي ذهب ثلث الليل الأوّل، ما سجد للَّه في ذينک العسکرين سجدة حتّي مرّت مواقيت الصلوات الأربعة الظهر والعصر والمغرب والعشاء.

قال سليم: ثمّ إنّ عليّاً عليه السلام قام خطيباً فقال: «أيّها النّاس، إنّه قد بلغ بکم ما رأيتم وبعدوّکم کمثله، فلم يبق إلّا آخر نفس، وإنّ الاُمور إذا أقبلت اعتبر آخرها بأوّلها، وقد صبر لکم القوم علي غير دين حتّي بلغوا فيکم ما قد بلغوا، وأنا غادٍ عليهم بالغداة إن شاء اللَّه ومحاکمهم إلي اللَّه».

فبلغ ذلک معاوية، ففزع فزعاً شديداً، وانکسر هو وجميع أصحابه وأهل الشام لذلک، فدعا عمرو بن العاص فقال: يا عمرو، إنّما هي الليلة حتّي يغدو علينا، فما تري؟ قال: أري الرجال قد قلّوا، وما بقي فلا يقومون لرجاله، ولست مثله، وإنّما يقاتلک علي أمر وأنت تقاتله علي غيره، أنت تريد البقاء، وهو يريد الفناء، وليس يخاف أهل الشام عليّاً عليه السلام إن ظفر بهم ما يخاف أهل العراق إن ظفرت بهم، ولکن ألق إليهم أمراً، فإن ردّوه اختلفوا وإن قلبوه اختلفوا، ادعهم إلي کتاب اللَّه، وارفع المصاحف علي رؤوس الرماح، فإنّک بالغ حاجتک، فإنّي لم أزل ادّخرها لک، فعرفها معاوية وقال: صدقت - الحديث.[4] .







  1. هرّ الکلب يهرُّ وراء أهله: أي يذبّ عنهم. وقد يطلق علي صوت غير الکلب، ومنه هرير الرحي: صوت دورانها وهرير الحرب: شدّة زحامها، وهو هنا کناية عن شدّة القتال في تلک الليلة، وشدّة نباح جُند معاوية وضجّتهم من الخوف والکراهة، واللَّه العالم.
  2. العيبة من الرجل: موضع السرّ.
  3. تذکرة الخواصّ: 94.
  4. کتاب سُليم بن قيس: 1756، طبع مواسّسة البعثة.