استخلاف عليّ علي المدينة وحسد المنافقين











استخلاف عليّ علي المدينة وحسد المنافقين



قال الشيخ المفيد رحمه الله في (الإرشاد): فأوحي اللَّه تبارک و تعالي اسمه إلي نبيّه صلي الله عليه و آله أن يسير إليها بنفسه، ويستنفر النّاس للخروج معه، وأعلمه أنّه لا يحتاج فيها إلي حرب ولا يمني بقتال عدوّ، وأنّ الاُمور تنقاد له بغير سيف، وتعبّده بامتحان أصحابه بالخروج، واختبارهم ليتميّزوا بذلک، وتظهر به سرائرهم.

فاستنفرهم النبيّ صلي الله عليه و آله إلي بلاد الروم وقد أينعت ثمارهم، واشتدّ القيظ عليهم، فأبطأ أکثرهم عن طاعته رغبةً في العاجل، وحرصاً علي المعيشة وإصلاحها، وخوفاً من شدّة القيظ وبُعدِ المسافة ولقاء العدوّ، ثُمّ نهض بعضهم علي استثقال للنهوض وتخلّف آخرون.

ولمّا أراد النبيّ صلي الله عليه و آله الخروج استخلف أمير المؤمنين في أهله وولده وأزواجه ومهاجره، وقال له: «يا عليّ، إنّ المدينة لا تصلح إلّا بي أو بک».

وذلک أنّه صلي الله عليه و آله علم من خُبث نيّات الأعراب وکثير من أهل مکّة ومن حولها ممّن غزاهم وسفک دماءهم، فأشفق أن يطلبوا المدينة عند نأيه عنها، وحصوله ببلاد الروم أو نحوها، فمتي لم يکن فيها من يقوم مقامه لم يؤمن من معرّتهم وإيقاع الفساد في دار هجرته، والتخطّي إلي ما يشين أهله ومخلّفيه، وعلم صلي الله عليه و آله أنّه لا يقوم مقامه في إرهاب العدوّ، وحراسة دار الهجرة، وحياطة من فيها إلّا أمير المؤمنين عليه السلام، فاستخلفه استخلافاً ظاهراً، ونصّ عليه بالإمامة من بعده نصّاً جليّاً. وذلک فيما تظاهرت به الرواية: أنّ أهل النفاق لمّا علموا باستخلاف رسول اللَّه صلي الله عليه و آله عليّاً علي المدينة حسدوه لذلک، وعظم عليهم مقامه فيها بعد خروجه، وعلموا أنّها تتحرّس به، ولا يکون فيها للعدوّ مطمع، فساءهم ذلک وکانوا يؤثرون خروجه معه لما يرجونه من وقوع الفساد والاختلاط عند نأي رسول اللَّه صلي الله عليه و آله عن المدينة، وخلوّها من مرهوب مخوف يحرسها، وغبطوه عليه السلام علي الرفاهية والدعة بمقامه في أهله، وتکلّف من خرج منهم المشاقّ بالسفر والخَطَر، فأرجفوا به عليه السلام، وقالوا: لم يستخلفه رسول اللَّه إکراماً له وإجلالاً ومودّة، وإنّما خلّفه استثقالاً له، فبهتوا بهذا الإرجاف کبهت قريش للنبيّ صلي الله عليه و آله بالجنّة تارةً، وبالشعر اُخري، وبالسحر مرّة، وبالکهانة اُخري، وهم يعلمون ضدّ ذلک ونقيضه، کما علم المنافقون ضدّ ما أرجفوا به علي أمير المؤمنين عليه السلام وخلافه، وأنّ النبيّ صلي الله عليه و آله کان أخصّ النّاس بأمير المؤمنين عليه السلام، وکان هو أحبّ النّاس إليه، وأسعدهم عنده، وأحظاهم عنده وأفضلهم لديه، فلمّا بلغ أمير المؤمنين عليه السلام إرجاف المنافقين به، أراد تکذيبهم وإظهار فضيحتهم، فلحق بالنبيّ صلي الله عليه و آله، فقال: «يا رسول اللَّه، إنّ المنافقين يزعمون أنّک خلفتني استثقالاً ومقتاً»، فقال له النبيّ صلي الله عليه و آله: «ارجع - يا أخي - إلي مکانک، فإنّ المدينة لا تصلح إلّا بي أو بک، فأنت خليفتي في أهل بيتي ودار هجرتي وقومي، أما ترضي عليّ أن تکون منّي بمنزلة هارون من موسي، إلّا أنّه لا نبيّ بعدي».[1] .

فرجع عليّ عليه السلام إلي المدينة، ومضي رسول اللَّه صلي الله عليه و آله علي سفره.







  1. الإرشاد 154: 1، ورواه الطبري في تاريخه 368 - 366: 2، وابن هشام في السيرة 662:4، والعلّامة الحلبي في السيرة 132:3، وابن الأثير في الکامل 636:1.