شرح واقعة حنين وهزيمة المسلمين عن رسول اللَّه











شرح واقعة حنين وهزيمة المسلمين عن رسول اللَّه



قال العلّامة الطبرسي في تفسيره (ما ملخّصه): ذکر أهل التفسير وأصحاب السير: أنّ رسول اللَّه صلي الله عليه و آله لمّا فتح مکّة خرج منها متوجّهاً إلي حنين لقتال هوازن وثقيف في آخر شهر رمضان أو في شوّال في سنة ثمان من الهجرة، وقد اجتمع رؤساء هوازن إلي مالک بن عوف النصري، وساقوا معهم أموالهم ونساءهم ونزلوا بأوطاس، وکان دريد بن الصمّة في القوم، وکان رئيس جشم، وکان شيخاً کبيراً قد ذهب بصره من الکبر، فقال: بأيّ واد أنتم؟ قالوا: بأوطاس، قال: نعم مجال الخيل.

وعقد رسول اللَّه صلي الله عليه و آله لواءه الأکبر ودفعه إلي عليّ بن أبي طالب عليه السلام، وکلّ من دخل مکّة براية أمره أن يحملها، وخرج بعد أن أقام بمکّة خمسة عشر يوماً، وبعث إلي صفوان بن اُميّة فاستعار منه مائة درع، فقال صفوان: عارية أم غصب؟ فقال رسول اللَّه صلي الله عليه و آله: «عارية مضمونة مؤدّاة»، فأعاره صفوان مائة درع، وخرج رسول اللَّه صلي الله عليه و آله من مکّة في اثني عشر ألفاً، وبعث رجلاً من أصحابه[1] فانتهي إلي مالک بن عوف وهو يقول لقومه: ليصيِّر کلّ رجل منکم أهله وماله خلف ظهره، واکسروا جفون سيوفکم، واکمنوا في شِعاب هذا الوادي وفي الشجر، فإذا کان في غبش الصبح فاحملوا حملة رجل واحد، فهدّوا القوم فإنّ محمّداً لم يلق أحداً يحسن الحرب.

فرجع الرجل فأخبره صلي الله عليه و آله الخبر، ولمّا صلّي رسول اللَّه صلي الله عليه و آله بأصحابه الغداة انحدر في وادي حنين، فخرجت عليهم کتائب هوازن من کلّ ناحية وانهزمت بنو سليم - وکانوا علي المقدّمة - وانهزم ما وراءهم، وخلّي اللَّه تعالي بينهم وبين عدوّهم لإعجابهم بکثرتهم[2] وبقي عليّ عليه السلام ومعه الراية يقاتلهم في نفر قليل، ومرّ المنهزمون برسول اللَّه صلي الله عليه و آله لا يلوون علي شي ء.

وکان العبّاس بن عبدالمطّلب آخذ بلجام بغلة رسول اللَّه، والفضل عن يمينه، وأبو سفيان بن الحرث عن يساره، ونوفل بن الحرث في تسعة من بني هاشم، وعاشرهم أيمن بن اُمّ أيمن وقتل يومئذٍ، وفي ذلک يقول العبّاس:


نصرنا رسول اللَّه في الحرب تسعة
وقد فرّ مَنْ قد فرّ عنه فأقشعوا


وقولي إذا ما الفضل کرّ بسيفه
علي القوم اُخري يا بني ليرجعوا


وعاشرنا لاقي الحِمام بنفسه
لما نالَه في اللَّه لا يتوجّعُ


ولمّا رأي رسول اللَّه صلي الله عليه و آله هزيمة القوم عنه، قال للعبّاس وکان جهوريّاً صيتاً:[3] «اصعد هذا الضرب[4] فنادِ: يا معشر المهاجرين والأنصار، يا أصحاب سورة البقرة[5] يا أهل بيعة الشجرة، إلي أن تفرّون، هذا رسول اللَّه»، فلمّا سمع المسلمون صوت العبّاس تراجعوا، وقالوا: لبّيک لبّيک، وتبادر الأنصار خاصّة وقاتلوا المشرکين حتّي قال رسول اللَّه صلي الله عليه و آله: «الآن حمي الوطيس[6] أنا النبيّ لا کذب، أنا ابن عبدالمطّلب».

ونزل النصر من عند اللَّه تعالي، وانهزمت هوازن هزيمة قبيحة، فمرّوا في کلّ وجه ولم يزل المسلمون في آثارهم، ومرّ مالک بن عوف فدخل حصن الطائف وقتل منهم زهاء مائة رجل، وأغنم اللَّه المسلمين أموالهم ونساءهم، وأمر رسول اللَّه صلي الله عليه و آله بالذراري والأموال أن تحدر إلي الجعرانة، وولّي علي الغنائم بديل بن ورقاء الخزاعي، ومضي صلي الله عليه و آله في إثر القوم، فوافي الطائف في طلب مالک بن عوف، فحاصر أهل الطائف بقيّة الشهر، فلمّا دخل ذو القعدة انصرف وأتي الجعرانة وقسّم بها غنائم حنين وأوطاس.[7] .

روي الشيخ المفيد و غيره: انه لمّا رأي رسول اللَّه صلي الله عليه و آله هزيمة القوم عنه، قال للعبّاس - وکان رجلاً جهوريّاً صيّتاً -: «ناد بالقوم وذکّرهم العهد»، فنادي العبّاس بأعلي صوته: يا أهل بيعة الشجرة، يا أصحاب سورة البقرة، إلي أين تفرّون؟ اذکروا العهد الّذي عاهدتم عليه رسول اللَّه صلي الله عليه و آله والقوم علي وجوههم قد ولّوا مدبرين، وکانت ليلة ظلماء ورسول اللَّه صلي الله عليه و آله في الوادي، والمشرکون قد خرجوا عليه من شِعاب الوادي وجنباته ومضائقه مصلتين سيوفهم وعمدهم وقسيّهم، قالوا: فنظر رسول اللَّه صلي الله عليه و آله إلي النّاس ببعض وجهه في الظلماء فأضاء کأنّه القمر في ليلة البدر، ثمّ نادي المسلمين: «أين ما عاهدتم اللَّه عليه؟»، فأسمع أوّلهم وآخرهم، فلم يسمعها رجل إلّا رمي بنفسه إلي الأرض، فانحدروا إلي حيث کانوا من الوادي حتّي لحقوا بالعدوّ فقاتلوه، قالوا: وأقبل رجل من هوازن علي جمل له أحمر، بيده راية سوداء في رأس رمح طويل أمام القوم، إذا أدرک ظفراً من المسلمين أکبّ عليهم، وإذا فاته النّاس رفعه لمن وراءه من المشرکين فاتّبعوه وهو يرتجز ويقول:


أنا أبو جرول لا براح
حتّي نبيح اليوم أو نُباح


فصمد له أمير المؤمنين عليه السلام فضرب عجز بعيره فصرعه، ثمّ ضربه فقطّره، ثمّ قال:


قد علم القوم لدي الصباح
أنّي في الهيجاء ذو نضاح


فکانت هزيمة المشرکين بقتل أبي جرول، ثمّ التأم المسلمون وصفّوا للعدو فقال رسول اللَّه صلي الله عليه و آله: «اللّهمّ إنّک أذقت أوّل قريش نکالاً، فأذق آخرها نوالاً»، وتجالد المسلمون والمشرکون، فلمّا رآهم النبيّ صلي الله عليه و آله قام في رکابي سرجه حتّي أشرف علي جماعتهم، وقال: «الآن حمي الوطيس:


أنا النبيّ لا کذب
أنا بن عبدالمطّلب»


فما کان بأسرع من أن ولّي القوم أدبارهم وجي ء بالأسري مکتّفين، ولمّا قتل أمير المؤمنين عليه السلام أبا جرول وخذل القوم بقتله، وضع المسلمون سيوفهم فيهم، وأمير المؤمنين عليه السلام يقدمهم حتّي قتل بنفسه أربعين رجلاً من القوم، ثمّ کانت الهزيمة والأسر حينئذٍ... وما زال المسلمون يقتلون المشرکين ويأسرون منهم حتّي ارتفع النهار، وکان أبو بکر الّذي عانهم، وعليّ عليه السلام الّذي أعانهم، وکان أبو سفيان صخر بن حرب في هذه الغزاة في جملة من انهزم من المسلمين.[8] .

وفي (کشف الغمّة)، قال: وفي هذه الغزاة قسّم النبيّ صلي الله عليه و آله الغنائم، وأجزل القسم للمؤلّفة قلوبهم کأبي سفيان، ومعاوية ابنه، وعکرمة بن أبي جهل، ورجال منهم، وأعطي الأنصار شيئاً يسيراً، فغضب ناس من الأنصار وبلغه عنهم، قال: فأسخطه، وقال: «اجلسوا ولا يجلس معکم أحدٌ غيرکم»، فجاء النبيّ صلي الله عليه و آله ومعه أمير المؤمنين عليه السلام، فجلس وسطهم، فقال: «إنّي سائلکم فأجيبوني: ألم تکونوا ضالّين فهداکم اللَّه بي؟»، قالوا: بلي، فللَّه المنّة ولرسوله، قال: «ألم تکونوا علي شفا حفرة من النّار فأنقذکم اللَّه بي؟»، قالوا: بلي، فللَّه المنّة ولرسوله، قال: «ألم تکونوا قليلاً فکثّرکم بي؟»، قالوا: بلي، فللَّه المنّة ولرسوله، قال: «ألم تکونوا أعداءً فألّف بين قلوبکم بي؟»، قالوا: بلي، فللَّه المنّة ولرسوله، ثمّ سکت هنيئة، وقال: «ألا تجيبون بما عندکم؟» قالوا: بِمَ نجيبک؟ فداک آباؤنا واُمّهاتنا، قد أجبنا بأنّ لک المنّ والفضل والطول علينا، قال: «أما لو شئتم لقلتم: وأنت جئتنا طريداً فآويناک، وخائفاً فآمنّاک، ومکذَّباً فصدّقناک؟»، فارتفعت أصواتهم بالبکاء، وقام شيوخهم وساداتهم فقبّلوا يديه ورجليه وقالوا: رضينا باللَّه وعنه، وبرسوله وعنه، وهذه أموالنا بين يديک، فإن شئت فاقسمها علي قومک، وإنّما قال من قال منّا علي غير وغر صدر[9] وغلّ في قلب[10] ولکنّهم ظنّوا سخطاً عليهم وتقصيراً بهم، وقد استغفروا من ذنوبهم فاستغفر لهم يا رسول اللَّه، فقال صلي الله عليه و آله: «اللّهمّ اغفر للأنصار، ولأبناء الأنصار، ولأبناء أبناء الأنصار. يا معشر الأنصار، أما ترضون أن يرجع غيرکم بالثناء والنعم وترجعون أنتم وفي سهمکم رسول اللَّه؟»، قالوا: بلي رضينا، قال صلي الله عليه و آله: «الأنصار کرشي وعيبتي[11] لو سلک النّاس وادياً وسلکت الأنصار شِعباً لسلکتُ شِعب الأنصار» - الحديث.[12] .







  1. کما مرّ عن السيرة الحلبيّة: «هو عبداللَّه بن أبي حدرد الأسلمي».
  2. قال رشيد رضا صاحب تفسير المنار (246:10): کان الکافرون أربعة آلاف فقال قائل من السملمين معبّراً عن رأي الکثيرين الذين غرّتهم الکثرة: «لن نغلب اليوم من قلّة»، وقال الزمخشري صاحب تفسير الکشّاف (182:2)، وفي الکامل في التاريخ (625:1): وقيل: إنّما قالها رجل من بکر، وقيل: قائلها أبو بکر، وذلک قوله تعالي: «أَعْجَبَتْکُمْ کَثْرَتُکُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْکُمْ شَيْئاً» التوبة: 25، فاقتتلوا قتالاً شديداً، وأدرکت المسلمين کلمة الايجاب وزلّ عنهم أنّ اللَّه هو الناصر لا کثرة الجنود، وقال العلّامة الحلبي الشافعي في السيرة الحلبيّة بهامشه السيرة النبويّة (110:3) عن سيرة الحافظ الدمياطي: إنّ أبا بکر قال:يا رسول اللَّه، لن نغلب اليوم من قلّة، وشقّ ذلک علي رسول اللَّه صلي الله عليه و آله وساءته تلک الکلمة.
  3. في السيرة الحلبيّة بهامشه السيرة النبويّة (108:3): وإنّما خصّ صلي الله عليه و آله العبّاس بذلک؛ لأنّه کان عظيم الصوت، کان صوته يسمع من ثمانية أميال، غارت الخيل يوماً علي المدينة فنادي: واصباحاه، فلم تسمع حامل إلّا وضعت من عظم صوته.
  4. الضرب: التلّ الصغير.
  5. لقد خصّ سورة البقرة بالذکر؛ لأنّها أوّل سورة نزلت في المدينة لأنّ فيها: «کَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً کَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ»، وفيها: «وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِکُمْ»، وفيها: «وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ» انظر: السيرة الحلبيّة 108:3.
  6. وفي المصدر السابق (109:3): حمي الوطيس: هو حجارة توقد العرب تحتها النّار يشوون عليها اللحم. والوطيس في الأصل التنّور، وهذه من الکلمات الّتي لم تسمع إلّا منه صلي الله عليه و آله، وهي مثلٌ يضرب لشدّة الحرب.
  7. الطبرسي تفسير مجمع البيان 18:5.
  8. انظر: الإرشاد 142: 1، وکشف الغمّة - باب المناقب 297:1 و 298، وبحار الأنوار 155:21 و 158.
  9. الوغر: شدّة توقّد الحرّ، ومنه قيل: في صدره عليَّ وغر بالتسکين: أي ضغن وعداوة وتوقّد من الغيظ.
  10. والغِلّ - بالکسر -: الغشّ والحقد.
  11. الکرش: موضع السرّ. والعيبة: ما يجعل فيه الثياب.
  12. کشف الغمّة 298:1.