خروج رسول اللَّه إلي مكّة ومعه عشرة آلاف من الأصحاب











خروج رسول اللَّه إلي مکّة ومعه عشرة آلاف من الأصحاب



روي أهل السير والتاريخ منهم: الطبري، والحلبي، وابن الأثير (ما ملخّصه): أنّ رسول اللَّه صلي الله عليه و آله مضي لسفر مکّة واستخلف علي المدينة أبا رُهم کلثوم بن حُصين الغفاريّ، وقيل: ابن اُمّ مکتوم، وخرج لعشر مضين من شهر رمضان سنة ثمان، وکان صلي الله عليه و آله في عشرة آلاف باعتبار من لحقه في الطريق من القبائل کبني أسد وسليم، ولم يتخلّف عنه أحد من المهاجرين والأنصار، وکان المهاجرون سبعمائة ومعهم ثلاثمائة فرس، وکانت الأنصار أربعة آلاف ومعهم خمسمائة فرس، وکانت مزينة ألفاً، وکانت جُهينة ثمانمائة، وقيل کان صلي الله عليه و آله في اثني عشر ألفاً.

وفي سفره صلي الله عليه و آله صام، وصام الناس معه حتّي إذا کانوا بالکديد[1] وأفطر رسول اللَّه صلي الله عليه و آله والنّاس معه وعقد الألوية والرايات في قديد، ودفعها للقبائل، ثمّ سار حتّي نزل بمرّ الظهران، وقد أعمي اللَّه الأخبار عن قريش إجابة لدعائه له، فلم يعلموا بوصوله إليهم، ولم يبلغهم حرف واحد من مسيره إليهم، فأمر النبيّ صلي الله عليه و آله أصحابه فأوقدوا عشرة آلاف نار، وکان العبّاس رضي الله عنه قد خرج قبل ذلک بعياله مظهراً للإسلام مهاجراً، فلقي رسول اللَّه صلي الله عليه و آله بالجحفة، وقيل بذي الحليفة، فرجع معه إلي مکّة وأرسل أهله وثقله إلي المدينة، وقال له رسول اللَّه صلي الله عليه و آله: «هجرتک - يا عمّ - آخر هجرة»، کما أنّ نبوّتي آخر نبوّة.

قال العبّاس: ورقّت نفسي لأهل مکّة، وقال: واصباح قريش، واللَّه لئن دخل رسول اللَّه صلي الله عليه و آله مکّة عنوةً قبل أن يأتوه فيستأمنوه، إنّه لهلاک قريش إلي آخر الدهر، قال العبّاس: فجلست علي بغلة رسول اللَّه البيضاء، فخرجتُ عليها حتّي جئتُ الأراک، فقلت لعليّ عليه السلام: أجد بعض الحطابة أو صاحب لبن أو ذا حاجة يأتي مکّة يخبرهم بمکان رسول اللَّه ليخرجوا إليه فيستأمنوه قبل أن يدخلها عنوةً.

وفي تلک الليلة خرج أبو سفيان وحکيم بن حزام وبديل بن ورقاء يتحسّسون الأخبار، هل يجدون خبراً أو يسمعون به.[2] .

روي الحلبي في (السيرة) عن العبّاس، أنّه قال: فواللَّه! إنّي لأسير إذ سمعت کلام أبي سفيان وبديل بن ورقاء وهما يتراجعان، وأبو سفيان يقول: ما رأيت کالليلة نيراناً قطّ، ولا عسکراً، هذه کنيران عرفة، وبديل يقول له: هذه واللَّه خزاعة حمشتها الحرب، وأبو سفيان يقول: خزاعة أذلّ وأقلّ من أن تکون هذه نيرانها وعسکرها.

قال العبّاس: فعرفت صوت أبي سفيان، فقلت: يا أبا حنظلة؟ فعرف صوتي فقال: أبو الفضل؟ فقلت: نعم، قال: ما لک فداک أبي واُمّي؟ قلت: واللَّه هذا رسول اللَّه صلي الله عليه و آله في النّاس قد جاءکم بما لا قِبل لکم به، قد جاءکم بعشرة آلاف، فقال: واصباح قريش، واللَّه فما الحيلة؟ قلت: واللَّه، لئن ظفر بک ليضربنّ عنقک، فارکب في عجز هذه البغلة حتّي آتيک رسول اللَّه صلي الله عليه و آله فأستأمنه لک؟ فرکب خلفي ورجع صاحباه، فجئت به کلّما مررت بنار من نيران المسلمين قالوا: مَن هذا؟ وإذا رأوا بغلة رسول اللَّه وأنا عليها؟ قالوا: عمّ رسول اللَّه علي بغلته، ودخلت علي رسول اللَّه صلي الله عليه و آله وقال لي رسول اللَّه: «اذهب به يا عبّاس إلي رحلک»، فذهبت به، فلمّا أصبح غدوت علي رسول اللَّه صلي الله عليه و آله بعد أن نودي بالصلاة وثار النّاس، ففزع أبو سفيان، وقال للعبّاس: يا أبا الفضل، ما يريدون؟ قال: الصلاة، ورأي المسلمين يتلقّون وضوء رسول اللَّه ثمّ رآهم يرکعون إذا رکع، ويسجدون إذا سجد، فقال أبو سفيان: يا عبّاس، ما يأمرهم بشي ء إلّا فعلوه، فقال له العبّاس: لو نهاهم عن الطعام والشراب لأطاعوه، فقال ما رأيتُ ملکاً مثل هذا؟ لا ملک کسري، ولا ملک قيصر، ولا ملک بني الأصفر، ثمّ قال للعبّاس: کلّمه في قومک، هل عنده من عفو عنهم، فانطلق العبّاس بأبي سفيان حتّي أدخله علي رسول اللَّه صلي الله عليه و آله، فقال له رسول اللَّه صلي الله عليه و آله: «ويحک يا أبا سفيان، ألم يأن لک أن تعلم أنّه لا إله إلّا اللَّه»، قال: بأبي واُمّي أنت، ما أحلمک وأکرمک وأوصلک، لقد ظننت أنّه لو کان مع اللَّه إله غيره لما أغني عنّي شيئاً بعد، قال: «ويحک يا أبا سفيان، ألم يأن لک أن تعلم أنّي رسول اللَّه؟»، قال: بأبي أنت واُمّي، أما واللَّه هذه، فإنّ في النفس حتّي الآن منها شيئاً.

وفي رواية: أنّ بديلاً وحکيم بن حزام لم يرجعا، بل جاء بهم العبّاس عند رسول اللَّه صلي الله عليه و آله، فمکثوا عنده عامّة الليل يستخبرهم عن أهل مکّة، ودعاهم إلي الإسلام فقالوا: نشهد أن لا إله إلّا اللَّه، فقال رسول اللَّه صلي الله عليه و آله: «اشهدوا أنّي رسول اللَّه»، فشهد بذلک بديل وحکيم بن حزام، فقال أبو سفيان: ما أعلم ذلک واللَّه أنّ في النفس من هذا شيئاً.[3] .

وفي الکامل کذا: قيل: إنّ عليّاً عليه السلام قال لأبي سفيان بن الحارث: «إئت رسول اللَّه صلي الله عليه و آله من قِبل وجهه، فقل له ما قال اخوة يوسف ليوسف: «قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَکَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِن کُنَّا لَخَاطِئِينَ»[4] فإنّه لا يرضي أن يکون أحد أحسن منه فعلاً ولا قولاً»، ففعل ذلک، فقال له رسول اللَّه صلي الله عليه و آله: «لَا تَثْرِيبَ عَلَيْکُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَکُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ»[5] وقربّهما، فأسلما، وأنشده أبو سفيان قوله في إسلامه واعتذاره ممّا مضي:


لعمرُکَ إنّي يومَ أحملُ رايةً
لِتَغْلِبَ خَيلُ اللّاتِ خَيلَ مُحَمّدِ


لَکا لمدلج الحَيران أظْلَم لَيلُهُ
فهذا أواني حين اُهدي وأهتدي


وهادٍ هداني غير نفسي ونالني
مع اللَّه من طرّدتُ کلَّ مُطَرّدِ[6] .


و روي الطبري في تاريخه: بعد نقل رکوب أبي سفيان عجز البغلة، وجاء به عند رسول اللَّه صلي الله عليه و آله، وأسلم وقَبِل رسول اللَّه إسلامه، قال: فقال رسول اللَّه صلي الله عليه و آله للعبّاس حين تشهّد أبو سفيان: «انصرف يا عبّاس، فاحبسه عند خَطم الجبل بمضيق الوادي حتّي تمرّ عليه جنود اللَّه»، فقلت له: يا رسول اللَّه، إنّ أبا سفيان رجل يحبّ الفخر، فاجعل له شيئاً يکون في قومه، فقال: «نعم، مَن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن»، فخرجت حتّي حبسته عند خطم الجبل بمضيق الوادي، فمرّت القبائل، فيقول: مَن هؤلاء يا عبّاس؟ فأقول: سليم، فيقول: ما لي ولسليم، فتمرّ به قبيلة، فيقول: مَن هؤلاء؟ فأقول: أسلم، فيقول: ما لي ولأسلم، وتمرّ جهينة فيقول: ما لي ولجهينة، حتّي مرّ رسول اللَّه صلي الله عليه و آله في الخضراء کتيبة رسول اللَّه من المهاجرين والأنصار في الحديد، لا يُري منهم إلّا الحدق، فقال: مَن هؤلاء يا أبا الفضل، فقلت: هذا رسول للَّه في المهاجرين والأنصار، فقال: يا أبا الفضل، لقد أصبح ملک ابن أخيک عظيماً، فقلت: ويحک، إنّها النبوّة، فقال: نعم إذن، فقلت: الحق الآن بقومک فحذّرهم؟ فخرج سريعاً حتّي أتي مکّة فصرخ في المسجد: يا معشر قريش، هذا محمّد قد جاءکم بما لا قِبل لکم به، قالوا: فمه؟ فقال: مَن دخل داري هو آمن، فقالوا: ويحک وما تغني عنّا دارک؟ فقال: ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن.[7] .

وفي (السيرة الحلبيّة): کذا فتفرّق النّاس إلي دورهم وإلي المسجد، وبهذا استُدِلّ علي أنّ مکّة فتحت صلحاً لا عنوة.

وفي رواية: أنّ النبيّ صلي الله عليه و آله وجّه حکيم بن حزام مع أبي سفيان بعد إسلامهما إلي مکّة، وقال: «من دخل دار حکيم بن حزام فهو آمن - وکانت بأسفل مکّة - ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن - وکانت بأعلي مکّة - الحديث.[8] .

و فيه أيضاً: أنّ سعد بن عبادة کان معه راية رسول اللَّه علي الأنصار، ولمّا مرّ علي أبي سفيان وهو واقف بمضيق الوادي، قال أبو سفيان: من هذه؟ قال: هؤلاء الأنصار عليهم سعد بن عبادة معه الراية، فلمّا حاذاه سعد، قال: يا أبا سفيان.

اليوم يوم الملحمة[9] اليوم تستحلّ الحرمة اليوم أذلّ اللَّه قريشاً

فلمّا مرّ رسول اللَّه صلي الله عليه و آله بأبي سفيان وحاذاه أبو سفيان، ناداه: يا رسول اللَّه، أمرت بقتل قومک، فإنّه زعم سعد ومن معه حين مرّ بنا أنّه قاتلنا، فإنّه قال: «اليوم يوم الملحمة...»، اُنشدک اللَّه في قومک فأنت أبرّ النّاس وأرحمهم وأوصلهم، فقال صلي الله عليه و آله: «کذب سعد، اليوم يوم المرحمة، اليوم أعزّ اللَّه فيه قريشاً، اليوم يعظّم اللَّه فيه الکعبة، تکسي فيه الکعبة». وأرسل رسول اللَّه إلي سعد بن عبادة، أرسل عليّاً عليه السلام أن ينزع اللواء منه - الحديث.[10] .

وفي (البحار): في حديث قال: فجعلت الجنود تمرّ به حتّي مرّ رسول اللَّه صلي الله عليه و آله في الأنصار، ثمّ انتهي إليه سعد بن عبادة بيده راية رسول اللَّه فقال: يا أبا حنظة:


اليوم يوم الملحمة
اليوم تسبي الحرمة


يا معشر الأوس والخزرج ثارکم يوم الجبل، فلمّا سمعها (أبو سفيان) من سعد خلّي العبّاس وسعي إلي رسول اللَّه صلي الله عليه و آله وزاحم حتّي مرّ تحت الرماح، فأخذ غرزة فقبّلها، ثمّ قال: بأبي أنت واُمّي أما تسمع ما يقول سعد؟ وذکر ذلک القول فقال صلي الله عليه و آله: «ليس ممّا قال سعد شي ء»، ثمّ قال لعليّ عليه السلام: «أدرک سعداً فخذ الراية منه وأدخلها إدخالاً رفيقاً»، وأخذها عليّ عليه السلام وأدخلها کما أمر.[11] .







  1. الکديد: محلّ بين عسفان وقديد.
  2. راجع: السيرة الحلبية بهامشه السيرة النبويّة 78:3، وتاريخ الطبري 328:2، والکامل في التاريخ 611:1.
  3. راجع السيرة الحلبيّة بهامشه السيرة النبويّة 78:3.
  4. سورة يوسف: 91.
  5. سورة يوسف: 92.
  6. الکامل في التاريخ 612:1.
  7. تاريخ الطبري 331:2.
  8. السيرة الحلبيّة بهامشه السيرة النبويّة 81:3.
  9. الملحمة: أي الحرب والقتال.
  10. المصدر السابق 82:3.
  11. البحار 130:21.